إنضم
19 نوفمبر 2013
المشاركات
25
مستوى التفاعل
0
النقاط
1
مقــــــدمـة
تهتم العلوم الجنائية بدراسة الظاهرة الإجرامية و ضبط أساليب مواجهتها بالوقاية والعلاج و من هذا فان العلوم الجنائيـة تتحدد في قسمين قواعـد موضوعيـة تتعلق بتنظيم التجريـم و الجزاء الجنائي في إطار مبدأ الشرعية و المعبر عنها بالقانون الجنائي الموضوعي _قانون العقوبات_ أما القواعد الشكلية فهي تهتم بتحديد الإجراءات القانونية الواجب مراعاتها طوال مراحل الخصومة الجنائية و ذلك من أجل تنفيذ الجزاء الجنائي و لهذا تقتضي الشرعية الجنائية وجود نصوص قانونية صادرة عن سلطة مختصة لحماية مصلحة المجتمع من خلال إسناد وظيفة التجريم و الجزاء إلى المشرع وحده وحماية مصلحة الفرد بمنع السلطة من التحكم في الحريات و انتهاك حقوقهم لأن السلطة في الدولة القانونية الحديثة لا يمكن أن تكون دون حدود و هذا يقودنا إلى الحديث عن التزام القائمين على السلطة بالقانون و إذا ما إلتزم هؤلاء بالقانون فإننا نكون أمام الدولة القانونية التي يخضع فيها الحكام لسلطان القانون حيث تقوم دولة القانون إلا على أسس و مبادئ أهمها: وجود دستور، الفصل بين السلطات، استقلال القضاء فإذا كان الدستور هو الذي يحدد شكل الدولة و نظام الحكم فيها و ينشئ السلطات و يبين اختصاصاتها و يحدد طبيعة العلاقة بينها، و يقر حقوق و حريات الأفراد فإنه بذلك يعتبر الضمانة الأولى لممارسـة السلطـة ممارسة قانونية خاضعـة لحدود و ضوابط معينة.
و قد جاء مبدأ الفصل بين السلطات على أنقاض الحكم المطلق و ضد الفكرة القائلة أن السلطة ملك لمن يمارسها فهذا المبدأ من شأنه تلقائيا طرح مسألة العلاقات بين هذه السلطات التشريعية ، التنفيذية و القضائية ويجب الملاحظة هنا أن فكرة استقلالية القضاء تستند على المنطق التالي: أن القضاء بحكم كونه سلطة دستورية موازية للسلطتين التشريعية و الإجرائية يجب أن يكون بالضرورة منفصلا عن هاتين السلطتين و بالتالي مستقلا عنهما .
فيعد استقلال القضاء دعامة أساسية لقيام الدولة لأن العدل أساس الملك و لا يولد العدل في ظل حكم يهيمن على سلطة القضاء فالاستقلالية هنا تعني استقلال القاضي وحده بإنزال أحكام القانون على الناس.
ومن ذلك فإن مبدأ الشرعية تفرضه طبيعة النظام السياسي للمجتمع و ما يقتضيه من اعتراف السلطات العامة بحقوق المواطنين و عدم جواز تقييدها إلا في إطار القانون فما هو دور الشرعية في الفصل بين السلطات؟ أي ما هي علاقة الشرعية بمبدأ الفصل بين السلطات؟ و ما الغاية أو الأثر المترتب عن الفصل بين السلطات؟
و للإجابة على هذه الإشكاليات اعتمدنا في هذا البحث على الخطة التالية والتي قسمناها إلى ثلاث مباحث حيث تناولنا في:
المبحث الأول : مفهوم مبدأ الشرعية.
المطلب الأول:نشأة المبدأ
المطلب الثاني:تعريف المبدأ و مضمونه
المطلب الثالث:أهمية المبدأ
المبحث الثاني : مدلول مبدأ الفصل بين السلطات.
المطلب الأول:نشأة المبدأ و مضمونه
المطلب الثاني:مبررات المبدأ
المطلب الثالث:غايات مبدأ الفصل بين السلطات
المطلب الرابع: دور مبدأ الشرعية في الفصل بين
السلطات

المبحث الثالث : علاقة الشرعية بمبدأ الفصل بين السلطات.
المطلب الأول: انفراد مبدأ التشريع في إطار مبدأ الشرعية
المطلب الثاني: مظاهر مبدأ الفصل بين السلطات
المطلب الثالث: التعاون و التوازن بين السلطات
المطلب الرابع:ضمانات استقلال القضاء

المبحث الأول : مفهوم مبدأ الشرعية الجنائية:
تقتضي الشرعية الجزائية وجوب وجود نصوص قانونية صادرة عن سلطة مختصة لضبط سياسة التجريم و الجزاء و المتابعة الجزائية بغية إقرار التوازن بين الفرد و المجتمع ، و بالتالي تنقسم الشرعية الجنائية إلى شرعية التجريم و الجزاء و شرعية الخصومة الجنائية و أنها بشقيها تشكل مبدأ دستوري يكفل الحماية للحقوق و الحريات الفردية و ذلك لضمان أن لا يفر الجاني من العقاب و أن لا يدان البريء .
و هذا ما سنتطرق إليه في هذا المبحث من خلال نشأة هذا المبدأ و ما المقصود بمبدأ الشرعية و إلى ماذا يهدف هذا المبدأ.
المطلب الأول: نشأة مبدأ الشرعية:
تعتبر الشريعة الإسلامية أول شريعة مقررة لمبدأ الشرعية في الوقت الذي كانت فيه سائر الأمم تعاني من تحكم السلطة و تعسفها ، و انه حتى و إن كانت بعض الشرائع الوضعية عرفت التجريم المسبق كقانون حمورابي ، فان ذلك يعتبر مظهرا شكليا للشرعية من حيث أن مضمونه لا يعبر عن رغبة الجماعة كلها ، و إنما يبلور فقط قيم السلطة الحاكمة .
أما الشريعة الإسلامية فأحكامها قوامها العلم المسبق لتوقيع الجزاء و قد جاء في القرآن الكريم قوله تعالى : " و ما كنا معذبين حتى نأتي رسولا " و تضمنت الشريعة الإسلامية في مصدريها القران و السنة تحديدا دقيقا للجرائم ، وقد فرقت بين التجريم ذي الصفة الاجتماعية فقد ترك أمره إلى ولي الأمر الذي يهتدي في ضبطه بالمبادئ العامة للشريعة الإسلامية و هو ما يعرف بالتغرير.
فقد أخذ القانون الانجليزي بمبدأ شرعية الجرائم و العقوبات منذ أن صدر ميثاق هنري الأول ، ثم تضمنه الدستور – كلاريتون – و أكده بعد ذلك العهد الأعظم –magnacharta- الذي قرر سمو قواعد القانــون في انجلترا و الذي أصــدره الملك –جون- سنة 1215 حيث نصت المادة 29 منه على انه لا يمكن إنزال عقاب ما بأي إنسان حر إلا بمحاكمته قانونيا طبقا لقانون بلاده .
وفي أوروبا كان لتعسف السلطة و تحكمها خصوصا السلطة القضائية في العصور الوسطى اثر في ظهور هذا المبدأ حيث كان القضاة يملكون سلطة تحكمية في تجريم الأفعال و العقاب عليها بالرغم من انعدام النصوص التجريمية فالقضاة كانوا يعاقبون بناء على رسائل الملك و بناءا على وجهة نظرهم الأمر الذي أدى إلى انتهاك لحقوق و حريات الأفراد لعدم وجود ما يحدد مسبقا للفرد حدود المباح و المحظور .
وإزاء هذا التحكم القضائي في حقوق الأفراد و حرياتهم وجه الفلاسفة النقد للسلطة بصفة عامة و السلطة القضائيــة على وجه الخصوص ، و كان الفيلسوف الفرنسي مونتيسكيو أول من دعـا إلى الشرعية في كتابه روح القوانين سنة 1748 منتقدا السلطة و داعيا إلى الفصل بين مختلف السلطات لحماية الأفراد من التعسف ثم جاء بيكاريا في كتابه الجرائم و العقوبات مؤكدا بان القانون وحده هو الذي يجمع أفراد المجتمع بحكم العقد الاجتماعي . و من جهة أخرى نظرية العقد الاجتماعي مبدأ المصلحة الاجتماعية كأساس لمشروعية حق العقاب .
وقد أكد بيكاريا على دعامتين لبناء سياسة التجريم و الجزاء و هما أن يلحق التجريم فقط تلك السلوكات التي تشكل عدوانا على المجتمع و أن يكون الجزاء متناسب مع الضرر .
وفي فرنسا أكد المحامي العام السيد سيفران في خطابه سنة 1766 بان القوانين يجب أن تعطي للقاضي لوحة مدققة عن الجرائم و الجزاءات ، بحيث يتعين على القاضي فقط اختيار الجزاء المحدد.
و قد تأكد هذا المبدأ في إعلان حقوق الإنسان و المواطن سنة 1789 حيث نصت المادة الخامسة منه على انه لا يمنع الفرد من إتيان ماهو غير محظور بنص القانون ثم أكد دستور الثورة الفرنسية سنة 1971 و دستور 1773 هذا المبدأ و منذ ذلك التاريخ دخل هذا المبدأ إلى المجال التشريعي ثم أكده الإعلان العالمي لحقوق الإنسان سنة 1948 في المواد 09-10-11 و منذ ذلك الحين التزمت الدولة الديمقراطية بالنص على هذا المبدأ في دساتيرها و منها الدستور الجزائري .
المطلب الثاني : تعريف مبدأ الشرعية و مضمونه:
الفرع الأول : معناها بالوجه العام :
الشرعية في اللغة مصدرها شرع ، و شرع الدين : سنة و بينة . و في تنزيل الحكيم " شرع لكم من الدين ما وصي به نوح " ، و شرع الأمر جعله مشروعا مسنونا ، و الشرع ما شرعه الله تعالى ، و الشريعة هي المبادئ التي يتعين مراعاتها في كل الأفعال و الأقوال .
ولدى فقهاء القانون يقصد بها تلك المبادئ التي تكفل احترام حقوق الإنسان و إقامة التوازن بينها و بين المصلحة العامة ، و التي يتعين على الدولة عند ممارسة وظائفها التقيد بها.
ويختلف مضمون الشرعية باختلاف مصدرها ، فإذا كان المصدر هو الدستور كنا حيال شرعية دستورية ، يقابلها التزام سلطات الدولة بمراعاتها و إذا كان المصدر هو القانون كنا حيال شرعية قانونية يقابلها التزام المخاطبين بأحكامه باحترامها.
الفرع الثاني : مضمون الشرعية الجزائية :
يخضع القانون الجنائي بمختلف فروعه لمبدأ الشرعية فهذا القانون يتتبع بالخطى الواقعة الإجرامية منذ تجريمها و المعاقبة على ارتكابها إلى ملاحقة المتهم بالإجراءات اللازمة لتقرير مدى سلطة الدولة في معاقبته حتى تنفيذ العقوبة المحكوم بها عليه ، وفي كافة هذه المراحل يضع القانون الجنائي النصوص التي تمس حرية الإنسان سواء عن طريق التجريم و العقاب أو عن طريق الإجراءات التي تباشر ضده أو بواسطة تنفيذ العقوبة عليه .
تقوم قاعدة شرعية التجريم على مبدأ "لا جريمة و لا عقوبة أو تدابير امن إلا بقانون". و هذا المبدأ ضمنه المشرع الجنائي في المادة الأولى من قانون العقوبات و كرسته المادة 43 من دستور فبراير 1989 و المادة 46 من دستور 1996.
و إذا كان هدف مبدأ الشرعية هو إقامة التوازن في المجتمع بما يضمن حقوق الفرد و المجتمع فان هذا المبدأ قد يصبح مجرد ضمانة شكلية لا تخدم سوى مصالح الدولة و أهدافها لذلك فان الشرعية في حد ذاتها تحتاج لضمانات من اجل حماية النظام الاجتماعي و تمثلت في :
 الرقابة على الدستورية : يقتضي قيام الرقابة على دستورية النصوص الجنائية من خلال محكمة دستورية يخول لها صلاحية النظر في الدعاوي المرفوعة إليها و هذا مرجعه اختصاص القاضي بالفصل بما يتفق مع مبدأ الشرعية .
 يجب أن تكون السلطة المشرعة و المختصة بسن النصوص التجريمية معبرة عن إرادة الجماعة من حيث أن النص التجريمي هو حكم تقييمي لقاعدة أو مبدأ سائد في الجماعة .
 يجب أن يكون التجريم و الجزاء محددا بالضرورة الاجتماعية، و أن تلتزم الجهة المشرعة بمبدأ عدم الإسراف في التجريم و الجزاء ، إن عدم الإسراف في التجريم من شانه أن يمكن الفرد من معرفة جيدة لدائرة التجريم و الإباحة.





المطلب الثالث : أهمية المبدأ :
يهدف مبدأ شرعية التجريم إلى إقامة التوازن بين مصلحة الفرد و مصلحة المجتمع عن طريق حمايتها بالقدر الذي لا يهدر احدها لفائدة الأخرى.
* حماية مصلحة الفرد أي يحقق هذا المبدأ الحماية الكافية لمصلحة افرد و حقوقه من خلال :
 منع السلطة من التحكم في حريات الأفراد و انتهاك حقوقهم إذ يقتضي هذا المبدأ ألا يعاقب هذا الفرد على سلوك أتاه ما لم يكن مجرما وقت إتيانه ، فحصر التجريم في نصوص سارية هو بمثابة إنذار مسبق بتوقيع العقاب .
 إن هذا المبدأ يضع الحدود الفاصلة بين التجريم و الإباحة و هو بالتالي يخطر الأفراد بالسلوكات الإجرامية و من ثم يمكنهم معرفة الوجهة الاجتماعية المقبولة لممارسة نشاطاتهم في مأمن عن المسؤولية الجنائية .
* حماية مصلحة المجتمع :
 يحقق هذا المبدأ الحماية الكافية للمجتمع من خلال إضفائه على العقوبة أساسا قانونيا يجعلها مقبولة باعتبارها توقع على سبيل المصلحة العامة .
 تتحقق حماية المصلحة العامة من خلال إسناد وظيفة التجريم و الجزاء إلى الشرع وحده ، لان من شان ذلك أن يضفي على الجزاء الجنائي صيغة التأكيد مما يعطي له صفة الفعاليــة و في هذا الصدد يقول بكاريا " العقاب المؤكد و لو كان معتدلا هو أكثر تأثير من خشية توقيع عقاب غير مؤكد و لو كان شديدا " و من جهته يقول مونتيسكيو " إن فعالية العقوبة تقاس بمقدار خشية العقاب و هذه الخشية تقاس بمقدار التأكد من توقيع العقوبة و الإحاطة بها سلفا أكثر من شدتها ".

المبحث الثاني : ماهية مبدأ الفصل بين السلطات
لا ريب أن لمونتيسكيو الفضل الأكبر في صياغة مبدأ الفصل بين السلطات فقد ورثت الأجيال اللاحقة من كتاب روح القوانين نظريتين هما : أشكال الحكم و الفصل بين السلطات ، و قد اعتبر مونتيسكيو كفقيه و منظر و رائـد لعلـم الاجتمـاع و كتابـه "روح القوانين" هو" القوانيـن و الأعراف المختلفة والعادات لكل الشعوب، وهو ذو طابع موسوعي،وأن جدة الموضوع تتضمن ثورة منهجية ، لان المؤلف ينطلق من الوقائع لا من المبادئ". و المؤلف كان يشير بوجود ثنائية واضحة جدا بين قوانين الطبيعة و القوانين التي تضعها السلطة ليؤكد بعدها " يجب اكتشاف طبيعة شكل الحكم ، أي البحث عمن تعود له السلطة هاهنا تتخل ما سميت فيما بعد نظرية الفصل بين السلطات" و من هنا و انطلاقا من الفكرة التي وصل إليها مونتيسكيو أصبح المبدأ يشغل مكانة مركزية في فقه القانون.
المطلب الأول : نشأة المبدأ و مضمونه :
لقد نشا المبدأ على يد مونتيسكـيو و لكنه لم يكن رائد هذا الإبـداع بل سبقه إلى ذلك فلاسفـة و مفكرون لآخرون أمثال أرسطو و أفلاطون في اليونان و أمثال جون لوك صاحب كتاب الحكومة المدنيـة ففي كنف الاستبـداد و إطلاق السلطـة بدا نور تقييد السلطات و تقسيمها يبزغ تدريجيـا إلى أن اكتمل .
انتشر المبدأ و اعتنقه المفكرون وواضعـو الدساتير في ذلك العصر و أصبح لبنة أساسيــة في تشكيل النظم الدستورية و خصوصا الدستور الأمريكي الذي وضعه الكونغرس عام 1787 و قد كتب لهذه النظرية التوفيق المطرد في عالم السياسة و الدستور و لم ينته القرن 18 حتى تبوأت منزلة المبدأ المقدس الذي لا يسع كل شعب يتوق للحرية . لقد تناول مونتيسكيو موضوع الفصل بين السلطات بشكل متكامل في كتابه روح القوانين في الفصل السادس من الكتاب الحادي عشر و تتضمن هذه النظرية مبدأين هما : " مبدأ التخصـص و مبدأ الاستقلالية ".
فالأول يدعى فصل الوظائف أو الفصل الوظيفي فالوظائف الكبرى للدولة التشريعية ،التنفيذية القضائية تمارس من قبل ثلاث سلطات أو أجهزة متميزة
أما المبدأ الثاني فهو فصل الأجهزة أو الفصل العضوي فان كلا من هذه السلطات تكون مستقلة كلية عن الآخرين و الأعضاء الذين يؤلفونها لا يعزلون أو يعينون من قبل سلطة أخرى .
وبتعبير آخر فلمبدأ الفصل بين السلطات بعدان ، الأول تنظيمـي و الذي يشمل البعـد الوظيفـي و العضوي ، أما البعد الثاني و هو البعـد القانوني فنعني به طبيعة العلاقـة بين سلطتـي التنفـيذ و التشريع ، و قد سلك مونتيسكيو المنهج العلمي التجريبي في التحليل السياسي ليكون رائدا في هذا المجال بعد ابن خلدون الذي يعد أول من نهج في تاريخ الفكر الإنساني منهج علمي تجريبي ، فقد انطلق مونتيسكيو من مقدمة مفادها : " أن الانفراد بالسلطة يؤدي إلى الاستبداد و السلطة قوة و لا يوقف القوة إلا القوة " فيشير بوجود ثنائية واضحة جدا بين القوانين التي تضعها السلطة ، ليؤكد بعدها على وجوب اكتشاف طبيعة شكل الحكم أي البحث عمن تعود له السلطة و هو ما سمي فيما بعد بنظرية الفصل بين السلطات .
ثم يعرض هذه المقدمة على التجربة ليؤكد صحتها فيقارن بين النظامين الفرنسي و الانجليزي في عصره و يستنتج أن الشعب الانجليزي يتمتع بالحرية على عكس الشعب الفرنسي ، و أن العامل الأساسي لذلك هو أن النظام الانجليزي يطبق الفصل بين السلطات عكس النظام الفرنسي .
و إذا كان لمونتيسكيو الفضل في صياغة نظرية الفصل بين السلطات ففي كتاب "السياسة " لأرسطو أشار إلى أن كل نظام سياسي دستوري يكون مشتملا على ثلاث سلطات و انه لابد لهذه السلطات من أن تكون منسجمة فيما بينها ليستقر الحكم و يأتي بثماره كما أن لآثار التقسيم الثلاثي للسلطات قد ظهرت حتى في عهد الفراعنة أي قبل أرسطو بألفي عام .
و بقيت هذه الأفكار مجرد أراء و انطباعات لم ترق إلى مستوى التطبيق إلى أن توصل جون لوك إلى وضع تصنيف لوظائف الدولة ،فجعل السلطة التشريعية مختصة بتنظيم قوى الدولة و السلطة الاتحادية مختصة بتمثيل الدولة في علاقاتها الخارجية و نادى بضرورة فصل الهيئة التشريعية عن الهيئة التنفيذية كقاعدة للحكم " فإذا تمتع نفس الذين يتقلدون مهمة وضع الشرائع بسلطة تنفيذية أيضا فيجنحوا إلى الاستفادة من تلك الشرائع التي يسنونها .
و هذه العبارة لا تتعارض في مفهومها مع ما سيؤكده مونتيسكيو بعد أكثر من نصف قرن.و إذا ما قارنا مضمون نظرية مونتيسكيو بأفكار و أراء الفلاسفة و المفكرين الذين سبقوه نجد أن أرسطو قد جعل من تصوره لتقسيم وظائف الدولة مرآة تعكس واقع تنظيم السلطات العامة التي تباشرها الدولة و العلاقة السائدة بينها و نفس الحكم يصدق على نظرية جون لوك فنظريته لم تتجاوز حدود الصورة التي رسمها للنظام الانجليزي في عهده فلم ترق بذلك نظريته إلى درجة التجريد و العمومية على عكس نظرية مونتيسكيو التي تعدت حدود النظام الانجليزي ليضع نظري عامة مثالية مقرونة باسمه .
المطلب الثاني : مبررات المبدأ:
إن مبدأ الفصل بين السلطات هو احد أهم مبادئ التنظيم السياسي و التي تعتبر القيم الأساسية للأنظمة السياسية المعاصرة و المنطلقات الفكرية لتحديد أشكال النظم، و تصوير القواعد الوضعية التي تحكم المؤسسات السياسية في كيانها العضوي و الوظيفي من خلال ما يعرف بالدساتير.
1) صون الحرية و منع الاستبداد : لقد أوضح مونتيسكيو بجلاء خطورة جمع السلطات الثلاث في يد واحدة و منافاة ذلك للحريـة و لو كانـت هذه اليد هي يد الشعب نفسه أو يد البرلمان و عليه فمن الخطر على الحرية – كما قال مونتيسكيو – أن تتجمع سلطة التشريع و سلطة التنفيذ في يد شخص واحد أو هيئة واحدة إذ يخشى أن يسن ذلك الشخص أو تلك الهيئة قوانين جائزة لينفذها تحقيقا لمآربه الخاصة ، كما تنتفي الحرية إذا لم تكن سلطة القضاء منفصلة عن سلطة التشريع لان حرية أبناء الوطن و حياتهم تصبحان تحت رحمتها مادام القاضي هو المشرع ، و إذا كانت السلطة القضائية متحدة مع السلطة التنفيذية فان القاضي يصبح طاغيا.
2) تحقق شرعية الدولة : لقد أوضح مونتيسكيو الصلة بين الحرية الواردة في الحجة السابقـة و بين شرعية الدولة و ذلك بناء على أساس أن وجود هذه مرهون بصيانة تلك . وبيان ذلك أنه إذا جمع التشريع و التنفيذ بيد واحدة زالت عن القانون صفته الأساسية و هي كونه قواعد عامة محايدة توضع للمستقبل دون نظر ما إلى الحالات الخاصة التي قد تؤثر في حيادها و عموميتها فتجنح بها إلى الجوار أو المحاباة . و هذه الصفة في القانون لا تتحقق ان كان المنفذ في نفس الوقت مشرعا ، إذ يستطيع أن يعدل القانون في لحظة تنفيذه على الحالات الفردية التي يحوطها الغرض و يخشى بصددها الجوار أو المحاباة . و بهذا تنتفي عن القانون عموميته و حياده و تنتفي عن الدولة تبعا لذلك صفة حكم القانون. فيضع المشرع قوانين جائرة و ينفذها هو نفسه – باعتباره سلطة تنفيذية – تنفيذا جائرا كذلك. و ينطبق هذا القول تماما على الجمع بين التنفيذ و القضاء، لان من شان هذا الجمع أن يحول القاضي إلى طاغية، و هو ما أثبتته الأحداث في الدول الشمولية التي أخذت باندماج السلطات. 1
3) الإسهام في إتقان الدولة لوظائفها و حسن سير العمل: يعمل مبدأ الفصل بين السلطات على تقسيم الوظائف المختلفة للدولة على هيئات مستقلة ، مما يؤدي إلى تخصص كل سلطة بعملها الذي ينتج عنه إتقان كل سلطة لعملها ، وقيامها به على خير وجه ، فيتحقق بالتالي سير العمل في كل مجالات الدولة الرئيسية، التشريعية، التنفيذية، القضائية.
المطلب الثالث: غايات مبدأ الفصل بين السلطات
1. إن المبدأ ضمانة أكيدة للحقوق و الحريات ، فمونتيسكيو يؤكد بأنه "لا توجد الحرية إلا في ظل الحكومات المعتدلة" و من الخطر جمع السلطة التشريعية مع السلطة التنفيذية في يد شخص واحد أو هيئة واحدة ، و تنتفي الحرية أيضا إذا لم تكن السلطة القضائية مستقلة عن سلطتي التشريع و التنفيذ.
2. إذا اجتمعت سلطة التنفيذ و التشريع في يد واحدة "زالت عن القانون صفته الأساسية ، و هي كونه قاعدة محايدة ، توضع للمستقبل دون نظرها إلى الحالات الخاصـة التي قد تؤثر في حيادهـا و عموميتها فتنجح بها إلى الجوار و المحاباة ".
3. يحقق مبدأ الفصل بين السلطات كل مزايا تقسيم العمل الذي يعتبر من أمهات المبادئ المقررة في علم الإدارة، فيتحقق بفضل هذا التقسيم إتقان العمل و جودته.
4. يعتبر المبدأ عماد الديمقراطيـة، ولا يمكن الحديث عن الديمقراطية في ظل تركيز السلطة والاستئثار بها، فزوال المبدأ زوال لأحد أهم أسس الديمقراطية.
5. لقد كان القصد من المبدأ في بداية عهده محاربة السلطان المطلق للملوك و قد حقق هدفه الأساسي ، فاندثرت الملكيات المستبدة بفضله ، و زالت عروش الطغيان و الظلم و الجور إلى غير رجعة...
6. إن فصل السلطات " يشكل العنصر اللازم لبنية الدولة الليبرالية، فهو لا يسلم بمجرد تقسيم تقني للعمل و إدارة الشؤون العامة فحسب بل يفرض على الأجهزة المستقلة عن بعضها تامين مختلف وظائف الدولة."
المطلب الرابع: دور الشرعية في الفصل بين السلطات:
يعتبر مبدأ الفصل بين السلطات من الضمانات المهمة التي تكفل قيام الدولة القانونية فهو وسيلة فعالة لكفالة احترام القوانين و تطبيقها تطبيقا عادلا و سليما.
ويقتضي مبدأ الشرعية الطبيعة الكتابية للقاعدة القانونية و بالتالي:
اعتماد التشريع كمصدر وحيد للتجريم و الجزاء ، فالأصل أن النصوص التجريمية هي من اختصاص السلطة التشريعية إلا أن الدستور يخول للسلطة التنفيذية في بعض الحالات صلاحية إصدار لوائح تكون مصدر للتجريم ، و الجزاء.
فإذا اجمع التنفيذ و التشريع بيد واحدة زالت عن القانون صفته الأساسية وهي كونه قواعد عامة و مجردة توضع للمستقبل دونما النظر إلى الحالات الخاصة التي قد تؤثر في حيادها و عموميتها فتجنح بها إلى جوار أو المحاباة.
هذه الصفة في القانون لا تتحقق إذا كان المنفذ في نفس الوقت مشرعا إذ يستطيع أن يعدل القانون في لحظة تنفيذه على الحالات الفردية التي يحوطها الغرض فتنفي عن الدولة بذلك صفة حكم القانون و يضع المشرع قوانين جائرة و ينفذها هو بنفسه باعتباره سلطة تنفيذية تنفيذا جائرا كذلك فعبر عن ذلك مونتيسكيو بقوله "إذا اجتمعت السلطة التشريعية مع السلطة التنفيذية في يد شخص واحد أو تركزت في هيئة واحدة فلن تكون هناك حرية لأنه يخشى في هذه الحالة أن يقوم ذلك الشخص أو تلك الهيئة بسن قوانين استبدادية جائرة و تنفيذها بطريقة ظالمة " و ينطبق هذا القول على حالة الجمع بين سلطتين التشريع و القضاء لان من شان هذا الجمع أن يحول القاضي إلى طاغية وهو ما أشار إليه مونتيسكيو : " مرة أخرى لن تكون هناك حرية إذا لم تكن السلطة القضائية منفصلة عن السلطتين التشريعية و التنفيذية لأنه إذا كانت متحدة أو مجتمعة مع السلطة التشريعية فان حياة المواطن و حريته تصبحان عرضة للتحكم و السيطرة الاستبدادية لان القاضي في هذه الحالة سيكون مشرع القانون و إذا كانت السلطة القضائية متحدة أو مجتمعة مع السلطة التنفيذية فان القاضي قد يتصرف بعنف و قسوة و يمارس الظلم و الاضطهاد .
فإذا كان مبدأ الشرعية واجه في بدايات نشأته السلطة القضائية و حرمانها من سياسة التجريم و جعلها جهازا تابعا للسلطة التشريعية في هذا المجال فانه يتعين أن لا تتدخل السلطة التنفيذية في هذه العملية و ألا تحول مبدأ الشرعية مجرد قاعدة شكلية تخفي وراءها جشع السلطة.
و تأكيدا على الطبيعة التشريعية لنص التجريم فان مبدأ الشرعية يفرض على المشرع بعض الالتزامات تتعلق بمصدر التجريم و بمضمون التجريم فبخصوص مصدر التجريم فان مبدأ الشرعية يجعل سياسة التجريم و الجزاء من صلاحيات المشرع وحده ، ويمنع الآخر من ممارسة هذه السلطة لضمان الحماية الكافية لهذه الأفراد ومن ثم يتعين على السلطة التشريعية وحدها القيام بسن النصوص التجريمية.
و بالتالي فان منطق مبدأ الفصل بين السلطات يؤدي إلى توزيع وظائف الدولة الثلاث : التشريعية و التنفيذية و القضائية على هيئات أو سلطات ثلاث فتمارس الأولى مهمة التشريع و الثانية مهمة التنفيذ في حين أن السلطة الثالثة تمارس مهمة القضاء ، و تقسيم الوظائف على هذا النحو ، يؤدي إلى تخصص كل سلطة من هذه السلطات بالمهام الموكلة إليها حسن سير العمل في كافة المجالات الرئيسية في الدولة من تشريع و تنفيذ و قضاء . كتطبيق لمبدأ الشرعية الذي يقتضي الفصل بين السلطات.
المبحث الثالث: علاقة الشرعية بمبدأ الفصل بين السلطات
المطلب الأول :انفراد التشريع في إطار مبدأ الشرعية:
يعتمد مبدأ الشرعية على السلطة التشريعية في تحديد الجرائم و العقوبات، وذلك باعتبار أن هذه السلطة تمثل المجتمع بأسره بمقتضى العقد الاجتماعي . فلقد جاء مبدأ الشرعية ثمرة لكفاح بين السلطة و الفرد ، فلقد عاشت المجتمعات فترة طويلة تستأثر فيها الطبقات الحاكمة بجميع السلطات، واتسم القرنان 18 و 19 بسيطرة الطبقة الارستقراطية البرجوازية من اجل الاحتفاظ بجميع السلطات في يدها و أدى في النهاية إلى وقوع صدام بين الحكومة و البرلمان ، ثم أسفر الصراع في النهاية إلى تأكيد سيادة الشعب ، و استئثار البرلمان بسلطته في التشريع في كل ما يتعلق بالحقوق و الحريات وقد أسفر هذا التطور عن مبدأ هام يتمثل في سيادة القانون بما في ذلك الدستور وهو السمة المميزة لدولة القانون للحيلولة دون تحكم السلطة و انحرافها وفي إطار هذا المبدأ كان يتعين تحديد دور السلطة التشريعية بالمقارنة بدور السلطة التنفيذية فكل منهما يملك سلطة إقرار قواعد قانونية ، الأولى في صورة التشريع و الثانية في صورة اللوائح ، إلا أن توزيع الاختصاص بين هاتين السلطتين في مجال القواعد القانونية لا يتم إلا في إطار مبدأ الشرعية أي سيادة القانون ، فالسلطة التشريعية تلتزم باحترام القواعد الدستورية و ما يتطلبه الالتزام بما تضمنته هذه القواعد بشان الحقوق و الحريات بضمانها فيما تقرره من تشريعات ، و السلطة التنفيذية تلتزم بتمكين الأفراد من ممارسة حقوقهم و حرياتهم العامة في مواجهتها و كفالة احترامها ، فإذا كانت الحقوق و الحريات تتم مباشرتها في مواجهة السلطة التنفيذية فان السلطة التشريعية تتم ممارستها بواسطة ممثلي الشعب صاحب السيادة ، لهذا كان طبيعيا أن يستأثر التشريع الصادر عن هذه السلطة بضمان الحقوق و الحريات ، وهو ما يعرف بمبدأ انفراد التشريع.
و عليه فمبدأ انفراد التشريع يعني اختصاص المشرع وحده بمعالجة المسائل التي تدخل في اختصاصه و يعني هذا المبدأ أن السلطة التنفيذية لا تملك من خلال اللوائح معالجة المسائل التي تدخل في اختصاص المشرع وحده ، و يهدف مبد انفراد التشريع إلى أن يكون تنظيم ممارسة الحقوق و الحريات و رسم حدودها بواسطة ممثلي الشعب ، والى الحيلولة دون موافقة السلطة التشريعية الممثلة للشعب سلفا ، فالتشريع على هذا النحو هو السند الذي يتوقف عليه تنظيم ممارستها و رسم حدودها . فهذا المبدأ لا يعني أكثر من منع تدخل السلطة التنفيذية من تلقاء نفسها و بغير إذن من المشرع في هذا المجال ، فعندما يتعلق الأمر بتعيين الحدود التي تتم ممارسة الحقوق والحريات فثمة سلطة واحدة في الدولة هي المختصة بذلك أصلا ، و هي السلطة التشريعية.
المطلب الثاني: مظاهر مبدأ الفصل بين السلطات:
تبنى الدستور الجزائري مبدأ الفصل بين السلطات و ذلك بإتباع احد القواعد الدستورية الأساسية للديمقراطية الكلاسيكية و التي تتمثل مهمتها في الحد من السلطة ، سنحاول من خلال هذا المطلب أن نتعرض للفصل العضوي و الوظيفي للسلطات.
الفرع الأول : الفصل العضوي:
إذا كان الشائع في النظام البرلماني الذي يأخذ بالفصل المرن بين السلطات القائم على أساس التعاون و التأثير المتبادل ، أن يكون لكل عضو منتخب في البرلمان و اختير كوزير الحق في الجمع بين وظيفتي تولي شؤون الوزارة و العضوية في البرلمان فالدستور الجزائري 1996 قد نص صراحة على مبدأ عدم الجمع بين المهام النيابية و المهام أو الوظائف الأخرى غير أن التشريع الحالي لم يحدد بصفة صريحة حالات التنافي لكنها تبرز من خلال قراءة المادة 119 من الأمر المتضمن القانون العضوي المتعلق بنظام الانتخابات التي تنص على استخلاف النائب المنتخب لدى المجلس الدستوري أو المعين في وظيفة حكومية.
و يجدر التذكير إلى أن القانون الأساسي للنائب لسنة 1989 ينص صراحة على فقدان النائب الذي يعين عضوا في الحكومة تلقائيا انتمائه إلى المجلس الشعبي الوطني .
ومن ثم يكون الفصل العضوي عبارة عن طلاق مادي بين الهيئتين التنفيذية و التشريعية ، فأعضاء السلطة التنفيذية لا يمكنهم الانتماء إلى البرلمان ، و النواب لا يحق لهم تقلد مناصب وزارية.
الفرع الثاني : الفصل الوظيفي:
يتجلى الفصل الوظيفي بين السلطـات اختصاص كل سلطة بوظيفتهـا بكل سيـادة و استقلالية ، فالسلطـة القضائيـة مستقلة و أن هذه الاستقلالية تمارس في إطار القانون و أن القاضي يخضع للقانون وهو محمي من كل أشكـال الضغوط و التدخـلات و المناورات التي قد يكون من شانها الإضرار بأداء مهمته أو المساس بنزاهة حكمه.
أيضا سيادة كل سلطة في ممارسة اختصاصاتها المحددة دستوريا، ومن ثم تقوم السلطة التشريعية بممارسة الوظيفة التشريعية بكل سيادة، حيث أن البرلمان له السيادة في إعداد القانون و التصويت عليه، كما يمارس وظيفته الرقابية على عمل الحكومة.
كما خولت للسلطة التنفيذية صلاحيات هامة لممارسة الوظيفة التنفيذية دون تدخل من السلطة التشريعية إلا في حدود ما نص عليه القانون.
إن مظاهر الفصل العضوي و الوظيفي التي ذكرناها سابقا لا تعني انعدام مجالات التعاون بين السلطتين التنفيذية و التشريعية ، بل هناك مجالات واسعة للتعاون بين السلطتين أو حتى للتأثير فيما بينها.
المطلب الثالث : التعاون و التوازن بين السلطات:
بتبني المشرع الجزائري لمبدأ الفصل بين السلطات أقام مجالات واسعة للتعاون بين السلطة التنفيذية و التشريعية ، كما منح لكل سلطة وسائل تؤثر بها على نظيرتها الأمر الذي من شانه تحقيق التوازن بينهما.
الفرع الأول : مجالات التعاون:
يظهر التعاون من خلال مشاركة كل سلطة في كثير من صلاحيــات نظيرتهـا و لعل ابرز صورة للتعاون تظهر في تدخل السلطة التنفيذية في عملية التشريع ، وفي مقابل ذلك نجد السلطة التشريعية تساهم في كثير من اختصاصات السلطة التنفيذية سواء بالتدخل المباشر كما هو الشأن بالنسبة للتصويت على قانون المالية أو في شكل استشارة كما هو الحال قبل اتخاذ كثير من القرارات الهامة.
أولا:مشاركة السلطة التنفيذية في اختصاصات السلطة التشريعية:
تتجلى مساهمة السلطة التنفيذية في العملية التشريعية التي هي أصلا اختصاصا برلمانيا ، من خلال التشريع عن طريق الأوامر ، و المبادرة بمشاريع القوانين و تحديدها لجدول أعمال البرلمان بل و تمكينها من إضفاء طابع الاستعجال على بعض النصوص القانونية لإدراجها في جدول الأعمال .
1. التشريع عن طريق الأوامر : إذا كان البرلمان هو صاحب السيادة في التشريع من خلال إعداد القوانين و التصويت عليها إلا أن الدستور خول لرئيس الجمهورية ممارسة السلطة التشريعية عن طريق الأوامر.
2. المبادرة بالتشريع: إذا كان المشرع قد نص على أن السلطة التشريعية يمارسها البرلمان الذي له السيادة في إعداد القانون و التصويت عليه فان هذا لا يعني أن الاختصاص حكر على البرلمان دون مشاركة سلطة أخرى.
3. تحديد جدول الأعمال و الدعوة للانعقاد: إن تدخل الحكومة في تحديد جدول الأعمال و إضفائها للطابع الاستعجالي على بعض القوانين يجعلها تتدخل بشكل واضح في العملية التشريعية و التي يتحول فيها البرلمان إلى جهاز منتج للنصوص القانونية التي تكون الحكومة في حاجة إليها لتنفيذ مخطط عملها.
4. حق الحضور و المخاطبة: إذا كان الوزراء في النظام الرئاسي لا يسمح لهم بدخول البرلمان إلا كزائرين فان أعضاء الحكومة في النظام السياسي الجزائري يدخلون من أبواب واسعة. تتمتع اللجان الدائمة لغرفتي البرلمان بحق الاستماع إلى ممثل الحكومة ، و إلى أعضاء الحكومة كلما دعت الضرورة ذلك ، إلى جانب ذلك خول الدستور لرئيس الجمهورية إمكانية توجيه خطاب إلى البرلمان ، و لعل ذلك يتيح له الفرصة " لعرض آراءه و توجهاته السياسية و تفسيرها" أمام غرفتي البرلمان.
ثانيا : تدخل السلطة التشريعية في اختصاصات السلطة التنفيذية:
تجسيدا لمبدأ التعاون بين السلطات الذي تبناه المشرع ، وفي مقابل مجالات تدخل السلطة التنفيذية في اختصاصات السلطة التشريعية ، أتاحت النصوص القانونية في الجزائر إمكانية مشاركة و تدخل السلطة التشريعية في اختصاصات السلطة التنفيذية.
إن ابرز صورة لهذا التدخل تظهر في أهم اختصاصين تستأثر بهما السلطة التنفيذية وهما الاختصاص المالي و السياسة الخارجية للدولة بالإضافة إلى مشاركة السلطة التشريعية للسلطة التنفيذية في اتخاذ كثير من القرارات الهامة خاصة في الظروف الاستثنائية.
1. التصويت على ميزانية الدولة و المخطط الوطني:
على الرغم من أن الحكومة هي المسؤولة سياسيا أمام المجلس الشعبي الوطني على تنفيذ برنامجها و لتجسيد ذلك تعتمد على التخطيط و جلب الموارد المالية ، إلا أن البرلمان هو المختص بالمصادقة على المخطط الوطني و التصويت على ميزانية الدولة و إحداث الضرائب و الجبايات و الرسوم و الحقوق المختلفة و تحديد أساسها و نسبها . وهو ما يتيح للبرلمان فرصة ممارسة رقابة مالية على عمل الحكومة.
كما يظهر الاختصاص الرقابي المالي للبرلمان من خلال إلزام الدستور للحكومة بان تقدم لكل من غرفة من البرلمان عرضا عن استعمال الاعتمادات المالية التي أقرتها لكل سنة مالية.
2. فتح مناقشة حول السياسة الخارجية:
إن سلطة البرلمان في الرقابة على السياسة الخارجية المنتهجة من الحكومة تمارس من خلال التصديق على كثير من الأعمال الدبلوماسية مثل إعلان الحرب الهجومية و عقد المعاهدات ، خاصة معاهدات الصلح مما يكون من شانه تعديل في أراضي الدولة أو نقص في حقوق سيادتها أو تحميل خزانتها شيئا من النفقات.
كما يقوم البرلمان في بعض الأحيان بتفويض الحكومة بالمصادقة على بعض المعاهدات دون الرجوع إليه و لكن بشرط الالتزام بالمبادئ العامة للتفويض و دستورية المعاهدات و الاتفاقيات، وألا يترتب عليها مساس بمصالح الدولة.
3. المشاركة في اتخاذ القرارات الهامة:
اشترط الدستور على رئيس الجمهورية ضرورة استشارة رئيسي غرفتي البرلمان قبل إقدامه على تقرير حالات الطوارئ أو الحصار و الحالة الاستثنائية و التعبئة العامة و إعلان الحرب. ولعل هذه الاستشارة تعود إلى خطورة القرارات و انعكاسات الأوضاع الناجمة عنها على حريات الأفراد و أمنهم و استقرارهم ، ومن ثم كانت استشارة ممثليهم ضمانا لعدم التعسف أو التهور في اتخاذ هكذا قرارات.
الفرع الثاني: وسائل التأثير المتبادلة بين السلطة التنفيذية و السلطة التشريعية:
لقد حاول المشرع الجزائري من خلال الدستور إقامة نوع من التوازن بين السلطة التشريعية و السلطة التنفيذية ، وابرز صورة لهذا التوازن هي جعل الحكومة مسؤولة سياسيا أمام المجلس الشعبي الوطني في مقابل إمكانية تعرضه للحل من طرف رئيس الجمهورية تحقيقا لقاعدة توازن الرعب بين السلطتين ، هذه القاعدة التي تعتبر ركنا من أركان الأنظمة البرلمانية.
أولا : حق الحل و اللجوء إلى الاستفتاء:
خول القانون لرئيس الجمهورية صلاحيات في المجال التشريعي تمكنه من التأثير على البرلمان ، فإضافة إلى منافسته للبرلمان في التشريع من خلال التشريع عن طريق الأوامر يمتلك رئيس الجمهورية سلطات أخرى لا تقل أهمية أهمها إمكانية اعتراضه على القوانين من خلال طلبه من البرلمان إجراء مداولة ثانية على قانون صوت عليه في غضون الثلاثين يوما الموالية لتاريخ إقراره .
زيادة على ذلك يمتلك رئيس الجمهورية سلطات أخرى تمكنه من الضغط على البرلمان و تجاوزه أحيانا عبر اللجوء إلى استفتاء الشعب ، بل و تعطيل عمله أحيانا من خلال إمكانية لجوءه إلى حل المجلس الشعبي الوطني أو إجراء انتخابات تشريعية قبل أوانها .
1. حل المجلس الشعبي الوطني: تلجا السلطة التنفيذية إلى استعمال سلطتها في حل مجلس النواب و تجديد تشكيلته قبل انتهاء عهدته ، وذلك لتحقيق أهداف كثيرة.
وتكون سلطة الحل لرئيس الجمهورية و التي أخذت بعدا ذو طابع قانوني و سياسي نظرا لتركيبة المجلس الشعبي الوطني التي قد تضم أطياف سياسية متعددة ، الأمر الذي فرض وضع قيود على استعمال هذا الحق .
يحل المجلس الشعبي الوطني بطريقتين ، الأولى وجوبية تلقائية و الثانية بإرادة رئيس الجمهورية الذي يمتلك سلطة تقديرية للجوء إلى استعمال سلطة الحل.
2. اللجوء إلى الاستفتاء: يعتبر الاستفتاء وسيلة فعالة يلجا إليها الحكام لاستشارة الشعب مباشرة في الأمور التي تخص الدولة ، وذلك بإجابتهم على السؤال المطروح عليهم في ورقة الاستفتاء بالموافقة أو الرفض ، وهو بهذا الشكل صورة من صور ممارسة السلطة من قبل الشعب بطريقة مباشرة.
قد يتحول الاستفتاء إلى صورة من صور طرح الثقة أمام الشعب يريد رئيس الجمهورية من خلالها الحصول على مساندة الشعب لإدخال إصلاحات النظام السياسي ، من خلال هذه الثقة يتم إضعاف البرلمان و التقليل من دوره في مشاركة حقيقية في ممارسة السلطة خاصة إذا قام رئيس الجمهورية بعرض نصوص قانونية على استفتاء الشعب ، خاصة مع تمتعه بهذه السلطة دون قيد ، فقط ان يكون الاستفتاء إحدى القضايا ذات الأهمية الوطنية.
ثانيا : المسؤولية الجنائية للسلطة التنفيذية:
تحقيقا لمبدأ التوازن بين السلطتين التنفيذية و التشريعية ، وفي مقابل سلطة رئيس الجمهورية في حل المجلس الشعبي الوطني يمتلك هذا الأخير و إمكانية تقرير المسؤولية للحكومة بالوسائل الدستورية المتاحة له ، و بالتالي يصبح كل من رئيس الجمهورية و الوزير الأول مسؤولان جنائيا أمام المحكمـة العليا للدولـة عن الجنايـات و الجنح التي يرتكبانها أثناء تأديتهما لوظائفهما.
استبعد المؤسس الدستوري محاكمة كل من رئيس الجمهورية و الوزير الأول من طرف الجهات القضائية العادية أو من طرف البرلمان و تبنى موقفا ثالثا وهو تأسيس محكمة خاصة تختص بهذا النوع من القضايا.
يقضي مبدأ الشرعية انه لا جريمة و لا عقوبة إلا بنص ، لأجل ذلك فانه يصعب متابعة كل رئيس الجمهورية و الوزير الأول طالما أن عناصر جريمة الخيانة العظمى لم تحدد بدقة ، لان مبدأ الشرعية يطبق على بقية الجهات القضائية ، التي ليس في مقدورها سوى تجريم الأفعال المنصوص عليها في القانون الجنائي وفي نفس الوقت تلتزم بتطبيق العقوبات المقررة في ذلك القانون لتلك الجرائم ، كما أن الخيانة العظمى ليست متعلقة دائما بالتعاون مع الجهات أجنبية ضد مصالح الدولة ، وإنما تشمل كذلك عدم احترام الدستور ، أو حتى اللجوء إلى تطبيق أحكامه بطريقة تعسفية أو لمصالح شخصية.
المطلب الرابع: ضمانات استقلال القضاء :
في الواقع هناك عدة ضمانات لاستقلال القضاء و هي تختلف باختلاف مفهومها في كل دولة لكن يمكن إبراز أهمها فيما يلي :
أولا : عدم تدخل السلطة التشريعية في تنظيم القضاء أو إعادة تنظيمه:
ذلك عن طريق إصدار قرارات بقوانين أو قوانين تنظيم السلطة القضائية و مثل هذه القوانين تتيح للسلطتين التنفيذية و التشريعية القيام بتنظيم السلطة القضائية و إقصاء العناصر التي لا ترضى عنها السلطة ، لذلك نجد الدول التي تتبع هذه الطريقة التنظيم القضائي فيها غير مستقر لأنه مستهدف من قبل السلطة التشريعية .
فهذا الأسلوب يعد اعتداء على استقلال القضاء فلان الدستور عندما يقرر مبدأ استقلال القضاء كسلطة من سلطات الدولة فهو يمنع أي سلطة أخرى من التدخل في تنظيم القضاء أو إعادة تنظيمه مهما كانت الأداة التي تم بها هذا التدخل حتى لو كانت هذه الأداة هي القانون ، و من المسلمات التشريعية انه لا يجوز تنظيم المسائل المتصلة باستقلال القضاء بأداة تشريعية أدنى مرتبة من القانون الصادر من السلطة التشريعية .
فالدستور باعتباره القانون الأعلى في الدولة لا يجيز لأية أداة أن تخالفه لأنها تكون أداة أدنـى و لذلك فان استقلال القضاء في مواجهة السلطات الأخرى هو الذي يعطي الثقل الأكبر لقوة القضاء كسلطة في الدولة .
ثانيا: عدم تدخل السلطة التشريعية في أعمال السلطة القضائية:
في الواقع انه لا معنى لاستقلال القضاء إذا لم تكن سلطة القضاء تمتد لتشمل كافة المنازعـات و ترتيب على ذلك لا يجوز للسلطة التشريعية أن تتدخل في طريقة أداء القضاء لوظيفته ، فلا تملك أن تلغي أي حكم أصدرته المحاكم مهما كان ظاهر الخطأ ، سواء أكان الخطأ مدنيا أو جنائيا قطعيا أو غير قطعي أو أن توقف تنفيذ أي حكم قضائي و لا تعديله و نقضه مهما كان هناك من عدم احترام للقانون أو إخلال خطير بتطبيقه .
كما لا يجوز لها أن تناقش أي قاض في حكم أصدره أو أن تتعرض له بالنقد أو التصريح لأنها معتبرة عنوان للعدالة. و لان مثل ذلك يعد إخلالا لمبدأ الفصل بين السلطات و اعتداء ظاهر على استقلال القضاء.
ثالثا: التشريع اختصاص مخول للسلطة التشريعية و القاضي له أن يفسر النص في حالة غموضه:
من المتفق عليه أن السلطة القضائية تتولاها المحاكم على اختلاف أنواعها و درجاتها و تصدر أحكامها وفقا للقانون ، و أن القضاة مستقلون لا سلطان عليهم في قضائهم لغير القانون وانه لا يجوز لأي سلطة التدخل في القضايا أو في شؤون العدالة و على السلطة القضائية مراعاة مبدأ الفصل بين السلطات فلا تملك المحاكم و هي تفسر القوانين لتطبقها على الدعاوى المنظورة أمامها أن تصدر قرارات عامة لتطبق في كل منازعـة تعرض عليها ، كما أنها لا تملك إصدار لوائـح و قوانين و لو أريد بها تنظيم أعمالها لم يمنحها المشرع هذه السلطة .
و يترتب على ذلك انه لا يجوز للقاضي و هو يحرر أسباب حكمه و المنطوق أن يتعرض لما هو داخل في صميم اختصاص التشريعية و هنا يظهر الفصل بين السلطات . فليس له إزاء حكم القانون إلا أن ينزله على الخصومة المطروحة عليه فلا يسوغ له أن يستبدل حكما بحكم و لا أن يأخذ بنص دون نص ولا أن يتناول حكم قانون السلطة التشريعية بأي تحريف أو تعديل و غاية ما يملكه أن يفسر النص إذا غمض ، ولكن هل يسوغ للقاضي وهو يحرر أسباب حكمه أن يتناول بالنقد أو التجريح قانونا أصدرته السلطة التشريعية في حدود سلطاتها ا وان يطالب باستكمال تشريع قائم أو استبداله بآخر أو تعديله أو إلغائه ؟
هنا وان كان القاضي لا يملك إلا أن يطبق حكـم القانـون إلا انه يوازع من ضمير العدالـة و الإحساس بما يملك أن يعرف عن اعتقاده بما شاب القاضي قصور أو عيوب أو ما انطوى عليه من مساس بمبادئ العدالة و الإنصاف ، ويملك تبعا لذلك أن يضمن أسباب حكمه دون المنطوق بطبيعة الحال ما اعتل في صدوره من هذه الأمور، وهو في هذه الحالة لا يوصف بأنه قد تدخل في أعمال السلطة التشريعية إنما يكون قد أسهم بوجهة نظر لها قيمتها و أثرها في تكوين و توفير القناعة العامة التي يحتاج إليها كل تشريع لكي يكتسب شرعيته الحقيقية في المجتمع فلا يكفي أن يصدر التشريع من مجلس الشعب إنما يتعين عليه لكي يتوفر له الشرعية الحقيقية لا الشكلية أن يكون كفيلا بسد حاجة يحسها أفراد المجتمع إزاء ما صدر بشأنه من أمور.
رابعا : حق التقاضي :
إن التشريع الذي يصدر حق التقاضي أو يقيد هذا الحق يعتبر غير دستوري و يشكل اعتداء على السلطة القضائية و لأجل ذلك يجب على المحاكم الامتناع عن تطبيق مثل هذه التشريعات لأنها تخالف مبدأ الشرعية الذي يعتبر عنصرا أساسيا من عناصر الدولة القانونية و يهدد مبدأ المساواة بين المواطنين.
كما أن عدم النص على حق التقاضي ليس انتقاص من شانه ولا إهدار له بل لأنه من الحقوق العامة الطبيعية لكل إنسان و التي استقرت في ضمير العالم المتمدين و التي لا تحتاج إلى نص يقررها. و على ذلك لا تملك السلطة التشريعية الحق في إصدار تشريعات تمنع بها القضاة من النظر في قضايا بذاتها ا وان تسلبه الحق في التصدي لنزاعات بعينها لان هذا المنع و ذلك السلب يعتبران اعتداء صارخا على حقوق السلطة القضائية بوصفها إحدى السلطات الثلاث الرئيسيــة في الدولة من جهة و من جهة أخرى فان ذلك يمثل انتهاكا لحق التقاضي المكفول لجميع المواطنين عن طريق الدستور .
خامسا: استقلال القاضي:
كما يعد استقلال القاضي من الضمانات الأساسية التي تتحقق بها استقلالية القضاة ولتحقيق ذلك لابد من توفر مجموعة من الضمانات لتوفير استقلالية القاضي نذكرها فيما يلي:
 استقلال القاضي من خلال طرق اختياره، لان هناك نوعان من هذه الطرق: الأولى تكون من خلال انتخاب القضاة من طرف الشعب و التي تجسد مبدأ سلطة الشعب في اختيار قضاته إلا أن هذا الأسلوب له عدة مساوئ هو خروج القاضي من خطر السلطة التنفيذية ليكون أمام خطر الناخبين لأنه من شان هذا النظام جعل المحاكم ساحة للصراعات السياسية و يجعل القضاة رجال سياسة أكثر منهم رجال قانون كما انه يجعل الوظيفة القضائية مؤقتة مما يتيح للناخبين بمختلف ميولهم السياسية التحكم في بقاء القاضي أو تنحيته الذي ينتج عنه استبعاد أفضل العناصر من الوسط القضائي.
أما الطريقة الثانية فتكمن في تعيين القضاة و أساس هذه الطريقة أن تقوم جهة معينة في الدولة بتعيين القضاة ، فقد تكون تلك الجهة السلطة التشريعية ، وقد يتم التعيين بوساطة أعضاء الهيئات القضائية، وتحقق هذه الطريقة مبدأ استقلال القضاء عن السلطتين التنفيذية والتشريعية إذ تمنع تدخل هاتين السلطتين في تعيين القضاة مظنة المحاباة فيلتزم القضاة بالحياد التام في أدائهم لوظيفتهم ، كما أنها تؤدي إلى اختيار الأصلح للعمل القضائي.
سادسا : حياد القاضي و نزاهته :
القاضي كما عرفه أرسطو هو الرجل العادل الذي يمسك بين الطرفين المتنازعين. فالعدالة تقتضي أن يكون القاضي محايدا و نزيها.
يقصد بنزاهة القاضي كأحد مقتضيات استقلاله، تحرره من جميع الدوافع الشخصية و العاطفية فلا يتأثر بروابط المصلحة، لذلك تحرص التشريعات العالمية و العربية على تنظيم الحالات التي يخشى معها القاضي ألا يحكم بغير ميل إلى احد الخصوم. ولذلك نظم المشرع العربي حالات عدم الصلاحية، كما منح القاضي سلطة التنحي عن نظر الدعوى من تلقاء نفسه. وقرر للخصوم وسيلة لاستبعاده إذا توفرت أي أسباب من شانها عدم الاطمئنان إلى نزاهة القاضي وهي حالات رد القاضي، و لضمان نزاهة القاضي تمنع القوانين العربية القاضي من تولي أعمال معينة لا تتفق واستقلال القضاء كممارسة التجارة أو الاشتغال بالسياسة.
أما حياد القاضي فيقصد ب هان يكون القاضي سلبيا بالنسبة للخصوم ، فليس له أن يبين حكمه إلا على الأدلة و الادعاءات التي طرحت أمامه ،فهو مقيد بما يقدمه الخصوم من وقائع فلا يجوز له تغيير السبب ، و أدلة هذه الوقائع وفقا لما حدده قانون الإثبات فلا يجوز له أن يقضي بناءا على علمه الشخصي و أخيرا ينبغي أن يسبب قراره ،فتجاوز هذه الحدود يعد إهدارا لاستقلاله الشخصي وتعسفا باستعمال السلطة.

الخـــــاتـمة
يشكل مبدأ الشرعية ضمانة من ضمانات حقوق الأفراد وحرياتهم كونه يوضح لهم ما هو مشروع و غير مشروع، كما أنه يشكل ضمانة لأحد حقوق المتهم إذ أنه يحول دون قيام السلطة بإصدار التشريعات الجزائية و توقيع الجزاءات نحو الأفراد لأن ذلك من اختصاص جهات أخرى كالسلطتين التشريعية و القضائية.
وعلى الرغم من الانتقادات الموجهة لمبدأ الشرعية إلا أنه مازال صامدا إلى وقتنا الحالي و يجد تطبيقا له في كثير من الدول بل اعتبرته بعض الدول من المبادئ الدستورية و نصت عليه في دساتيرها نظرا للأهمية العلمية لهذا المبدأ سواء بالنسبة للأفراد أو للقضاء فبالنسبة للأفراد يمثل هذا المبدأ إنذار مسبق للعلم بالأفعال المجرمة و العقوبة المقررة لها و بالتالي ترك الحرية للأفراد بإتيان الأفعال غير المنصوص عليها أما بالنسبة للقضاء فإنهم يجدون في مبدأ الشرعية الأساس القانوني لتجريم الأفعال و تحديد العقوبات فضلا عن أنه أفضل حل لمنع تسلط القضاة في الأحكام لأن مبدأ الشرعية تفرضه طبيعة النظام السياسي للمجتمع و ما يقتضيه اعتراف السلطات العامة بحقوق المواطنين و عدم جواز تقييدها إلا في إطار القانون.
فلقد استقطبت مسألة السلطة اهتمام أهل الفكر و فقهاء القانون الدستوري و نتج عن ذلك التعدد في النظريات و الآراء و تمحورت أساسا على مبدأ الفصل بين السلطات و تفاوت مجالات تطبيقه من دولة إلى أخرى.
فمن خلال تناولنا لدراسة مبدأ الفصل بين السلطات تبين لنا انه يجب الأخذ بمبدأ الفصل بين السلطات باعتباره الوسيلة الناجعة لإضفاء الطابع الديمقراطي على أي نظام سياسي فمن دونه لا يمكن الحديث عن ديمقراطية حقيقية ، مادام جوهره هو توزيع وظائف الدولة على هيئات متفرقة تراقب بعضها البعض الأمر الذي تصان معه الحريات و يحترم فيه الاختصاص و يقضى من خلاله على التعسف و الاستبداد في ممارسة السلطة. إلا أن مبدأ الفصل بين السلطات لم يسلم من النقد حيث وجه المعارضون له مجموعة من الانتقادات يمكننا أن نلخصها في النقاط التالية:
1) لم تعد مبررات مبدآ الفصل بين السلطات قائمة في وقتنا الحاضر نظرا لان السيطرة التي احكمها الملوك على جميع السلطات لم يبقى لها اثر بتحويل السلطة التشريعية للبرلمانات الممارسة للسيادة نيابة عن الشعب، و مراقبة عمل السلطة التنفيذية.
2) من شان مبدأ الفصل بين السلطات أن يؤدي بكل سلطة إلى التهرب من مسؤوليتها مما يصعب معه تحديد المسؤوليات ومن ثم تستطيع كل هيئة أن تحمل غيرها المسؤولية في حين يؤدي تركيز السلطات إلى حصر المسؤولية و تحديدها.
3) يعتبر مبدأ الفصل بين السلطات مبدأ نظريا يصعب تحقيقه على ارض الواقع سواء على المستوى العضوي أو الوظيفي، حيث أن اختصاصات جميع الهيئات في الدولة أصبحت اليوم متشابكة و متشابهة، مما يصعب إقامة فصل صارم بين السلطات.
4) إن توزيع السلطات على هيئات منفصلة عن بعضها البعض من شانه أن يؤدي إلى المساس بسيادة الدولة .
إن هذه الانتقادات الكثيرة الموجهة لمبدأ الفصل بين السلطات ترجع إلى صعوبة الفصل المطلق بين السلطات في الوقت الحالـي ، كما إن هذه الصعوبــة ترجع إلى الترابط العضوي و الوظيفي الذي أصبح يجمع في ما بين السلطات خاصة السلطتين التشريعية و التنفيذية.
كما أن التجربة الدستورية الجزائرية في الأخذ بالمبدأ تراوحت بين الإنكار و الإقرار من خلال عدة عوامل أهمها أن الدولة الجزائرية حديثة الاستقلال مما لم يسمح لها ببناء مؤسسات قوية فبعد الاستقلال جاء دستور يعتمد على مرجعية فكرية تتبنى وحدة السلطة مع إقراره استقلالية مقيدة بشروط بحجة ضمان الاستقرار للدولة إلى غاية وضع دستور1976 الذي نص على توزيع السلطات بصفة وظائف وفي إطار توجيهات رئيس الجمهورية الذي يتمتع بحق ممارسة السلطات السامية حيث يساهم في التشريع بواسطة الأوامر دون مناقشتها من طرف الهيئة التشريعية و يرأس المجلس الأعلى للقضاء و يصدر العفو الحاسم و العام.
وكانت النتيجة أزمة سياسية و اجتماعية عجلت بإصلاحيات سياسية تجسدت في دستور 1989 الذي أقر مبدئيا الفصل بين السلطات قصد ضمان الحقوق الفردية والجماعية للأفراد.
وفي سنة 1996 وضع دستور جديد الذي أنشئ بموجبه مؤسسات جديدة أقرت من خلاله ازدواجية القضاء ثنائية السلطة التشريعية مع الإبقاء على الصلاحيات الواسعة لرئيس الجمهورية و رغم ذلك فهي اليوم تحاول أن تحجز مكانة معتبرة لها بين النظم السياسية المعاصرة و ذلك من خلال وضع قواعد و آليات لتجسيد مبدأ الفصـل بين السلطـات الثلاثـة و ضمان استقلالها من خلال وثيقة دستور ثابتة و مستقرة مع الإبقاء على إمكانية التعديل عند الاقتضاء.
قائمــة المراجـــع
1. د/ الأمين شريط، الوجيز في القانون الدستوري و المؤسسات السياسية المقارنة، (د،ط) ديوان المطبوعات الجامعية ، الجزائر 1998.
2. د/ بارش سليمان ، مبدأ الشرعية في قانون العقوبات الجزائري ، (د.ط) دار الهدى للطباعة و النشر و التوزيع ، الجزائر 2006.
3. د/ حسن مصطفى البحيري، الرقابة المتبادلة بين السلطتين التشريعية و التنفيذية كضمان لنفاذ القاعدة الدستورية، الطبعة الأولى، شركة ناس للطباعة، دمشق 2006
4. د/ حسين عصام، فلسفة التجريم و العقاب الشرعية في تجزئة القاعدة القانونية الجزائية الطبعة الأولى، دار الكتاب الحديث القاهرة، 2010.
5. د/ سعيد بو الشعير، القانون الدستوري و النظم السياسية المقارنة الجزء الأول، (د،ط) ديوان المطبوعات الجامعية، الجزائر 1989.
6. د/ سليمان محمد الطماوي ، النظم السياسية و القانون الدستوري (د،ط) ، دار الفكر العربي ، الإسكندرية ، 1988.
7. د/ عمار بوضياف، النظام القضائي الجزائري، (د،ط) ، دار ريحانة للكتاب جسور للنشر و التوزيع، 2002.
8. د/ عباس عمار ، العلاقة بين السلطات في الأنظمة السياسية المعاصرة وفي النظام السياسي الجزائري، الطبعة الأولى، دار الخلدونية 2010.
9. د/ علي محمد الدباس ، السلطة التشريعية و ضمانات استقلالها الطبعة الأولى، طبع بدعم من وزارة الثقافة، المملكة الأردنية الهاشمية 2008
10. د/محمد نور شحاتة ، استقلال القضاء من وجهة النظر الدولية و العربية و الإسلامية (د،ط) ، دار النهضة العربية، الإسكندرية (د،ت،ن).
11. أ/ ميلود ذبيح ، الفصل بين السلطات في التجربة الدستورية الجزائرية (د،ط) ، دار الهدى للطباعة و النشر و التوزيع ،الجزائر 2007.

ادعو لي بالخير :)
 

youcef66dz

عضو متألق
إنضم
3 أكتوبر 2009
المشاركات
3,786
مستوى التفاعل
114
النقاط
63
رد: الشرعية الجنائية و مبدأ الفصل بين السلطات

بارك الله فيك ...
 

المواضيع المتشابهة

أعلى