إنضم
2 مارس 2014
المشاركات
21
مستوى التفاعل
2
النقاط
3
الإقامة
الجزائر
حالات عيب الانحراف في استعمال السلطة
يظهر عيب الانحراف في استعمال السلطة في تطبيقاته المختلفة، إمّا في صورة الانحراف عن المصلحة العامة كلية، أو في صورة مخالفة قاعدة تخصيص الأهداف، ولدراسة هاتين الصورتين أهمية بالغة في معرفة مواطن هذا العيب، والأشكال التي يتخذها، فالقاضي الإداري حتى يصل إلى تطبيق سليم لهذا النوع من العيوب، عليه أن يلمّ إلماما واسعا بالكيفيات التي يوجد عليها، مستندا في ذلك إلى ما كرّس من تطبيقات قضائية سابقة لهذا العيب، والتي سأحاول الإشارة إلى أشهرها، متبعا في ذلك التقسيم الآتي:
المطلب الأول: الانحراف في استعمال السلطة عن المصلحة العامة.
المطلب الثاني: الانحراف في استعمال السلطة عن قاعدة تخصيص الأهداف.

المطلب الأول
الانحراف في استعمال السلطة عن المصلحة العامة
تعدّ المصلحة العامة غاية كل نشاط إداري، بل هي أساس السلطة في المفهوم الحديث للدولة،( ) لذلك يعد الخروج بالقرار الإداري عن هذه الغاية أخطر خلل يمكن أن يصيب عمل الإدارة، لكونه يناقض تماما سبب وجودها، ويؤدي إلى زعزعة الثقة الواجب قيامها بينها وبين المواطنين، كما أنّ استفحال هذا الخلل وانتشاره سيعدم هذه الثقة تماما، وعادة ما يكون السبب وراء العصيان المدني، والتمرّدات الشعبية.
يتخذ الانحراف في استعمال السلطة عن المصلحة العامة عدة مظاهر، فقد يظهر في صورة رجل الإدارة الذي يسعى من وراء قراره إلى تحقيق نفع شخصي يعود عليه أو على غيره، كما قد يظهر في صورة إصدار قرار إداري بهدف الانتقام من الغير، و نجده أيضا في صورة القرار الذي يصدر بدافع سياسي، كما يمكن أن يتمثل في شكل رجل الإدارة الذي يهدف من وراء قراره إلى التحايل على تنفيذ الأحكام القضائية، أو إلى الغش نحو القانون، وسأتعرض لكل صورة من هذه الصور وفقا للتقسيم الآتي:
الفرع الأول : الانحراف في استعمال السلطة لتحقيق مصلحة مصدر القرار أو غيره.
الفرع الثاني: الانحراف بالسلطة انتقاما من الغير.
الفرع الثالث : الانحراف في استعمال السلطة لغرض سياسي.
الفرع الثالث : الانحراف في استعمال السلطة بهدف الغش نحو القانون أو تحايلا على تنفيذ أحكام القضاء .
الفرع الأول
الانحراف بالسلطة لتحقيق مصلحة مصدر القرار أو غيره
يقع رجل الإدارة الذي يستعمل السلطة المسندة إليه لخدمة مصالحه الخاصة في انحراف خطير في استعمال سلطته، ذلك أنّه استعمل وظيفته ووسائل القانون العام في سبيل تحقيق هدف لا يجانب المصلحة العامة فحسب، وإنّما يناقضها تماما.( )
يحدث كثيرا في الحياة العملية للإدارة أن يقوم بعض الموظفين الإداريين باستغلال سلطتهم لتحقيق مصلحة شخصية، أو نفع شخصي، و قد يستغل بعضهم سلطته من أجل محاباة الغير.( )
إلاّ أنّه يشترط لوصم القرار الإداري بعيب الانحراف، نتيجة تحقيقه لمصلحة خاصة، أن تكون هذه المصلحة هي دافع مصدر القرار الأصيل، و محرّكه الرئيسي.( )
أكدت المحكمة الإدارية العليا – في مصر – على مشروعية قرار ضبط فيما ذهب إليه من إلغاء لإجراءات بيع أرض محجوز عليها بالمزاد العلني، بالرغم ممّا فيه من تحقيق لمصلحة خاصة لحائزي الأراضي المتعيّن بيعها، حيث اعتبرت أنّ الحفاظ على النظام العام هو هدف القرار الرئيسي، و أنّ تحقيق المصلحة الخاصة لا يعدو أن يكون ثانويا إلى جواره.( )
يلاحظ بأنّ سلطة الضبط الإداري هي الأكثر استعمالا لتحقيق مصالح خاصة لمصدر القرار أو لغيره، فتحت غطاء من المشروعية وإيهام بأنّ القرار الإداري يهدف إلى حماية النظام العام، يسعى رجل الإدارة إلى تحقيق منافع شخصية تعود عليه أو على غيره، فمفهوم المصلحة الخاصة إمّا أن يعني النفع الشخصي المباشر الذي يعود على مصدر القرار ذاته، و إمّا أن يتمثل في النفع الذي يعود على غيره، مقابل مكسب مادي أو أدبي.
سنقوم بضرب أمثلة من أشهر التطبيقات القضائية لكل من هاتين الصورتين على حدى :

أولا: الانحراف قصد تحقيق نفع شخصي مباشر لمصدر القرار:
من أشهر التطبيقات وأعتقها لهذه الحالة، قرار مجلس الدولة الفرنسي الذي ألغى بموجبه قرارا صادرا عن أحد رؤساء البلديات في فرنسا، يقضي بتحديد أوقات العمل في قاعات الرقص خلال فترات معيّنة، معللا ذلك بكون الرقص قد صرف الشباب عن العمل، حيث تبيّن أنّ رئيس البلدية كان يملك أحد المقاهي التي انصرف عنها الشباب، و أنّه كان يهدف من قراره السابق إلى الحدّ من منافسة مرقص معيّن، و تحقيق نفع شخصي له.( )
كما ألغى مجلس الدولة الفرنسي قرار رئيس بلدية يقضي بالموافقة على خطة استيلاء البلدية على الأرض التي يملكها هو وعائلته، حيث تبين بأنّ التعديلات التي اقترحها رئيس البلدية لا يبررها هدف من أهداف المصلحة العامة، وإنّما قصد بها تحقيق مصلحته الشخصية هو وعائلته، باعتبارهم مالكين للأرض.( )
ذهب القضاء الإداري المصري مذهبا أكثر عمقا في الرقابة على القرارات الإدارية التي يقصد من ورائها مصدرها تحقيق نفع شخصي، وذلك بإلغائه للقرارات التي تصدرها الهيئات العامة، والتي لا تقصد من ورائها تحقيق مصلحة عامة، بل تحقيق غرض ذاتي للهيئة مصدرة القرار قد يتمثل في الدعاية لنفسها، وتأسيسا على ما تقدّم ألغت المحكمة الإدارية العليا قرارا لإتّحاد الإذاعة والتلفزيون يقضي بتخصيص عشرين دقيقة لكل حزب سياسي حتى يشرح برنامجه للشعب إبّان فترة الانتخابات، حيث انتهت المحكمة إلى القول بأنّ مدة العشرين دقيقة المحدّدة لكلّ حزب سياسي لشرح برنامجه غير كافية لتحقيق الهدف المنشود، ولذا فإنّ القرار لا يهدف إلى بلوغ الغرض المراد منه، بل اتّخذ شكلا مظهريا خاليا من المضمون، مما جعل هذا القرار مشوبا بالانحراف في استعمال السلطة.( )
ثانيا: الانحراف قصد تحقيق نفع شخصي لغير مصدر القرار :
يصدر رجل الإدارة - في هذه الحالة- قراره بهدف خدمة مصلحة خاصة للغير، و تبعا لهذا ألغى مجلس الدولة الفرنسي قرارا إداريا تضمّن الاستيلاء على أرض و تخصيصها للمنفعة العامة، بغرض إنشاء بحيرة صناعية و أماكن للهو في الهواء الطلق، حيث ثبت لديه أنّ الهدف الحقيقي من إصدار القرار هو تسهيل استغلال محجر لإحدى الشركات الصناعية الخاصة.( )
كما ألغى نفس المجلس مرسوما اتخذ في مجلس الوزراء بناءا على اقتراح من وزير الداخلية، حيث ثبت لديه بأنّ هذا المرسوم غيّر التنظيم المتعلق بمفتشي الإدارة الرئيسيين، بهدف جعل ترقية رئيس مكتب وزير الداخلية أمرا ممكنا، بعد أن كان القانون لا يسمح له بذلك، مما يجعل هذا المرسوم قد صدر محاباة لشخص معيّن.( )
من تطبيقات هذه الصورة في القضاء الإداري المصري، نذكر الحكم الصادر بإلغاء قرار نقل موظف إلى وزارة الأوقاف ليشغل الدرجة الرابعة، و التي ما كان ليحوزها أصلا لو لم يتبع معه هذا الإجراء، مما يجعل قرار النقل معيبا لانحرافه عن استهداف المصلحة العامة، إلى ترتيب مصلحة شخصية بحتة لأحد الأفراد.( )
سار القضاء الإداري الجزائري على ذات النهج، حيث قضت الغرفة الإدارية بالمحكمة العليا في قرار لها مؤرخ في 13/01/1991، بإبطال مقرّر صادر عن والي ولاية تيزي وزو، يقضي بنزع الملكية للمنفعة العمومية، لمّا اتضح لها بأنّه كان يهدف لخدمة مصلحة خاصة، ومما جاء في حيثيات هذا القرار: "حيث أنّه يستنتج من تقرير الخبرة أنّه ليس هناك منفعة عامّة، لأنّ العملية لا تستجيب لأيّة حاجة ذات مصلحة عامة، و إنّما تفيد عائلة واحدة تتوفر على طريق."( )
نشير إلى أنّه لا يكفي أن يوفّر تدبير ما نفع لشخص معيّن، ليكون هناك انحراف في استعمال السلطة، مادام أنّ ذلك النفع كان نتيجة القرار الإداري، و لم ينتج عن أهدافه.( )
كما نشير إلى أنّه توجد العديد من التطبيقات القضائية لهذه الصورة من الانحراف في استعمال السلطة، سواء في قضاء مجلس الدولة الفرنسي، أو نظيره المصري ( )
الفرع الثاني
الانحراف بالسلطة انتقاما من الغير
جاء في قرار لمجلس الدولة الجزائري أنّ: " ... حق السلطة وامتيازات الإدارة التي أعطيت لها من طرف المشرّع لخدمة الصالح العام، لا يعني المساس بحقوق الأشخاص ... ."( )
يستعمل رجل الإدارة في هذه الحالة سلطته للإيقاع بأعدائه، و لإشباع الرغبة في الانتقام التي تتأجّج في قلبه، و هذه و لا شك أخطر صور الانحراف على الإطلاق( )، إذ أنّ الامتيازات التي منحت لرجل الإدارة العامة بغية تحقيق الصالح العام، تنقلب إلى سلاح خطير في يده لجلب الأذى والشرّ.( )
أكثر ما تظهر هذه الحالة في مجال الوظيفة العامّة، عند استعمال الهيئات الرئاسية لسلطاتها التأديبية " وهذا الاختصاص التقديري إلى حدّ كبير، ما اعترف به للإدارة إلاّ لخير المرفق، وتحقيق الانسجام و النظام في سيره، فإذا خرج به الرئيس الإداري عن مقصوده، واتّخذ منه سلاحا يسلّطه على رقاب أعدائه، فإنّه يشيع الفوضى في صفوف الإدارة ذاتها، و يعدم الثقة بين أفرادها، لأنّ الموظف جزء أصيل من الإدارة."( )
بالرجوع إلى مجال الوظيفة العمومية، نجد أنّه وبالرغم من كافة الضمانات الواجب توافرها عند مباشرة وإعمال السلطة التأديبية( )، فإنّ ذلك لم يمنع من استعمالها لبواعث وأهداف غير مشروعة، تنمّ عن الكيد و الانتقام، لذلك كانت مهمّة القاضي الإداري منصبّة في هذا الصدد على مراقبة أهداف القرار التأديبي، بعد التأكد من سلامته من حيث الاختصاص والإجراءات.
درج القاضي الإداري - بصفته حامي الحقوق والحريات ضد تعسّف الإدارة وانحرافها- على إلغاء القرارات التأديبية التي يتبيّن له بأنّها صدرت بباعث الكيد أو الانتقام، فقد ألغى مجلس الدولة الفرنسي قرارا صادرا من أحد المجالس البلدية، يقضي بفصل السيدة ( L’Hermitte) من وظيفة سكرتير البلدية نصف الوقت، حيث ادّعت البلدية أنّ الفصل تمّ لأسباب اقتصادية، في حين كلّف المجلس البلدي سكرتير إحدى البلديات المجاورة، بممارسة نفس اختصاصات السيّدة المفصولة، و استخلص المجلس من ذلك أن قرار الفصل جاء بهدف الانتقام، ولأهداف شخصية بحتة.( )
سلك مجلس الدولة المصري مسلك نظيره الفرنسي، إذ وضعت محكمة القضاء الإداري تصوّرا قانونيا للانحراف في استعمال السلطة بهدف الانتقام، ذهبت فيه إلى أنّ꞉"القرار الإداري متى أشفّ عن بواعث تخرج به عن استهداف الصالح العام المجرد، إلى اشفاء غل، أو إرضاء هوى في النفس، فإنّه يكون منحرفا عن الجادة، مشوبا بإساءة استعمال السلطة".( )
استنادا على هذا الأساس ألغت المحكمة الإدارية العليا قرارا إداريا، ثبت لها بأنّه صدر بدافع الانتقام, مؤكدة في ذلك: " أنّ ملاحقة الجهة الإدارية للطاعن على إثر اعتراضه هو وبعض زملائه (على بعض التنظيمات الإدارية الجديدة) بتوقيع ثلاثة جزاءات عليه في أيام متوالية، ثم الامتناع عن ترفيعه ( ترقيته )، ثمّ نقله إلى وظيفة أدنى، ثمّ صرفه بعد ذلك من الخدمة ... كل ذلك يدلّ على أنّ هذا القرار إنّما صدر للتنكيل بالطاعن, لأنّه طالب بحقّه فأنصفه القضاء، وبالتالي يكون مشوبا بإساءة استعمال السلطة"( ).
كما ألغت محكمة القضاء الإداري قرارا صادرا عن رئيس جامعة الأزهر، يقضي بنقل أحد الموظفين من مستشفى الحسين الجامعي من وظيفة صرّاف أوّل، إلى جامعة الأزهر بالقاهرة، دون بيان الوظيفة المنقول إليها، بعد أن تبيّن لها من ملابسات القضية أنّ القرار صدر دون مراعاة الصالح العام، بل اتخذ منه مصدره وسيلة للتنكيل بالمدعي، و إنزال العقاب به، و هو ما ينطوي بحق على إساءة جهة الإدارة المدعى عليها لسلطتها( ).
الفرع الثالث
الانحراف بالسلطة لغرض سياسي
يستعمل رجل الإدارة في هذه الحالة السلطات المخوّلة له، مدفوعا باعتبارات سياسية توافق ميولاته الشخصية، وهذا بالنظر إلى طبيعة العلاقة السياسية بين السلطتين التشريعية والتنفيذية، و التي من نتائجها المسلّم بها السّماح للموظفين الإداريين بالانتماء إلى الأحزاب السياسية، احتراما لحقّهم في حرّية التوجّه السياسي.) (
قد تشكل هذه الحرّية خطرا كبيرا على مبدأ الحياد المفترض في الإدارة العامّة، و تؤدي بالموظف الإداري إلى استعمال سلطته ليس لتحقيق مصلحة عامة، وإنّما لإدراك هدف سياسي, أو حزبي( ).
بناءا على ذلك، إذا تبيّن أنّ مسؤولا إداريا (مركزيا كان أو محليا)، أنزل عقوبة بموظف معيّن لأسباب سياسية، كونه مثلا ينتمي لحزب معارض له، وحدث أن اقتنع القاضي الإداري بأنّ وراء القرار المتضمّن تلك العقوبة بواعث سياسية بحتة، لا تمتّ بصلة لمقتضيات الصالح العام، فإنّه يقضي بإلغاء ذلك القرار الإداري، مستندا إلى انحراف مصدر القرار بالسلطة المخولة له( ).
غير أنّ لهذه القاعدة استثناء، حيث يجوز فصل بعض الموظفين بناءا على اعتبارات سياسية بحتة، دون أن تكون قرارات الفصل تلك مشوبة بعيب الانحراف في استعمال السلطة، وهذا الاستثناء مرتبط بالموظفين الذين يشغلون مناصب ذات طابع سياسي( )، ومردّ ذلك إلى طبيعة ومقتضيات تلك الوظائف، التي لا بدّ من الالتزام فيها بسياسة الحكومة وأهدافها( ).
يلاحظ بعض فقهاء القانون الإداري( )، أنّ القرار الصادر بناءا على دوافع سياسية، لا يراقب في حالات عديدة على أساس الانحـراف في استعمال السلطة, وإنّما على أساس مخالفة القانون، وعليه فإنّ رفض الإدارة لمرشّح معيّن بسبب أرائه السياسية، يعدّ إخلالا بمبدأ المساواة، ومبدأ حرّية الرأي، دون التعرّض لمسألة الدافع الباعث على إصدار قرار الرفض.
إلاّ أنّ هذا لم يمنع من وجود العديد من التطبيقات القضائية التي أسّس الإلغاء فيها على عيب الانحـراف في استعمال السلطة لأغراض سياسية، نذكر من ذلك قضاء مجلس الدولة الفرنسي بوجود انحـراف في استعمال السلطة من جانب الإدارة في قرار تعيينها لأحد الموظفين، وذلك لاعتبارات عهدته الانتخابية، وليس لكفاءته المهنية.( )
من ذلك أيضا إلغاؤه لقرار الإدارة القاضي بإبعاد أجنبي، حيث اتضح للمجلس أنّ قرار الإبعاد قد اتّخذ لأسباب سياسية.( )
سلك القضاء الإداري المصري نهج نظيره الفرنسي، في إلغاء القرارات الإدارية، الصادرة بناءا على اعتبارات سياسية، مستندا في ذلك على عيب الانحـراف في استعمال السلطة، فقد قضت المحكمة الإدارية العليا بأنّها: " ترى من ظروف الدعوى وملابسات إصدار القرار المطعون فيه، و بوجه خاص من أنّه صدر بصورة غير عادية تنمّ عن الخلاف في شأنه بين الوزارة و بين رئيس الجمهورية، وقت ذاك، إذ رفض توقيع مرسوم صرف المدعي من الخدمة، فأصدرته الوزارة نفسها، ترى في هذا ما يؤيّد صدق ما ينعاه المدّعي على القرار المذكور، من أنّه صدر بالباعث الحزبي الذي أوضحه...و من ثمّ يكون القرار المطعون فيه، إذ صدر مشوبا بهذا العيب، قد وقع باطلا".) (
يلاحظ بأنّ القضاء الإداري الجزائري قد وقف نفس الموقف، وإن كان هذا يؤخذ بمفهوم المخالفة، من القرار الصادر عن الغرفة الإدارية بالمجلس الأعلى، و الذي جاء فيه: "إنّ الطاعن يدّعي بأنّ تسريحه يستند على دافع سياسي و ليس بسبب مهني كما تدفع الإدارة"، و بعد دراسة الملف، رأى المجلس بأنّه لا وجود للانحراف في استعمال السلطة و رفض الإدّعاء( ).
فلو تبيّن للقاضي بأنّ التسريح قد استند حقيقة على دافع سياسي، كما يدعي الطاعن، لقضى بإلغائه للانحراف في استعمال السلطة.( )
الفرع الرابع
الانحـراف بالسّلطة بهدف الغش نحو القانون أو تحايلا على تنفيذ أحكام القضاء
تنحـرف الإدارة في استعمال سلطتها في هذه الحالة، بلجوئها لإصدار قرارات تهدف من ورائها إلى الغش نحو القانون، أو إلى الوقوف ضد تنفيذ أحكام قضائية، حازت قوّة الشيء المقضي به، وسأتطرق لكل حالة على حدى:
أولا: الانحـراف بالسّلطة بهدف الغش نحو القانون:
علّة القضاء بالإلغاء للانحـراف في استعمال السلطة في هذه الحالة، أن الإدارة يتوجّب عليها تطبيق القانون وفقا لإرادة المشرّع، لا طبقا لما تراه هي، فرجل الإدارة يتوقف دوره على تطبيق القانون فحسب، ولأنّ القاعدة القانونية عامّة و مجرّدة، فهي موضوعة لتنفّذ بما يحقّق مصلحة الجميع، فإذا حرّفت لتنطبق على حالات معيّنة دون الأخرى، أو لتحدث آثارا لم يردها المشرّع، عدّ ذلك انحرافا في استعمال السلطة.( )
وعليه فلا يجوز للإدارة أن تتحايل على تنفيذ أحكام القانون، لتصل من وراء ذلك إلى انتهاك هذه الأحكام، فمثلا بالنسبة لإلغاء الوظائف العمومية، هذا الإلغاء يجب أن يكون حقيقيا، باعثه إعادة تنظيم الإدارة، أو إجراء اقتصاد في وظائفها، و تخفيفا من النفقات، أمّا إذا كان إلغاء الوظيفة لمجرّد الانتقام من موظف معيّن، وفصله بغير إتباع أحكام القانون، فإنّه يعدّ مشوبا بعيب الانحراف في استعمال السلطة.( )
ثانيا: الانحراف بالسلطة بهدف التحايل على تنفيذ أحكام القضاء
إنّ امتناع الإدارة عن تنفيذ أحكام قضائية حازت قوّة الشيء المقضي به، أو إصدارها لقرارات مخالفة لتلك الأحكام، يعدّ مخالفة للقانون، مما يستوجب إلغاء القرار المخالف للحكم القضائي، مع قيام مسؤولية الإدارة في حالة امتناعها عن تنفيذ ما حكم به القضاء ضدّها، و هذا ما استقر عليه مجلس الدولة الجزائري في العديد من قراراته، و التي نذكر منها قراره الذي جاء فيه: "حيث أنّ رفض الإدارة تنفيذ قرار قضائي يعتبر مخالفة للقانون، تؤدّي إلى مسؤولية الإدارة.
حيث أنّ عدم تنفيذ القرار من طرف مديرية التربية لولاية أمّ البواقي، و بقاء المستأنف أكثر مـن سنتيـن بـدون منصب وبـدون أجـرة وبــدون مدخـول، يكــــون قــد ألحـق بــه أضــرارا ماديـــة
ومعنوية يستحق التعويض عنها"( ).
لكن هناك بعض الحالات التي يصعب فيها القول بأنّ هناك مخالفة للقانون، لأن التحايل على قوّة الحكم المقضي به هو تحايل مستتر، وفي مثل هذه الحالة نستطيع أن نستند على عيب الانحـراف في استعمال السلطة.
من هذا القبيل ما قامت به الإدارة الفرنسية، في سبيل التحايل على حكم مجلس الدولة الفرنسي، القاضي بإلغاء قرار تعيين أحد الموظفين – دون أن تظهر مخالفتها للحكم القضائي – وذلك باللجوء إلى تغيير شروط التعيين في تلك الوظيفة، حتى تتمكّن من إعادة تعيين الموظف الذي قضى مجلس الدولة بإلغاء قرار تعيينه.( )
أمّا بخصوص موقف مجلس الدولة المصري، فقد كان واضحا في إلغاء قرارات الإدارة التي تهدف من وراءها التصدي لتنفيذ أحكام قضائية، حيث اعتبر مثل تلك القرارات غير مشروعة، لكونها مشوبة بعيب الانحـراف في استعمال السلطة.( )
ترتيبا على ما تقدّم، ألغت المحكمة الإدارية العليا قرارا للإدارة تحايلت فيه على تنفيذ حكم قضائي، صادر لصالح أحد الموظفين، فبعد صدور حكم القضاء بإلغاء قرار فصل هذا الموظف، إذ بالإدارة تضعه في مرتبة أدنى من وظيفته السابقة، ثم إنّها لم تكتف بذلك، بل إنّها بعد رفع الموظف دعواه، طالبا إعادته لوظيفته بمرتبه و درجته، بادرت إلى إصدار قرارها بتسريحه من الخدمة مرة أخرى، مستندة في هذا التسريح إلى أسباب لا تخرج في مضمونها عن الأسباب التي استندت عليها في قرارها الأوّل، وعليه انتهت المحكمة إلى إلغاء قرار الإدارة، لكونه مشوب بعيب الانحـراف في استعمال السلطة.( )
كما ألغت نفس المحكمة قرارا سعى محافظ الشرقية لاستصداره، بالاستيلاء على عقار كانت المحافظة تستأجره كبيت للطالبات المغتربات، و ذلك بعد أن صدر حكم لصالح مالك العقار، بإخلائه و تسليمه له، فصدر قرار الاستيلاء بهدف تعطيل حكم الإخلاء، و قد قالت المحكمة في هذا الخصوص: "إنّ الباعث الذي دفع محافظة الشرقية بادئ الأمر إلى السعي في استصدار القرار المطعون فيه، هو الحكم الصادر بإخلاء المبنى المطلوب الاستيلاء عليه، و قصدها من ذلك، هو تعطيل تنفيذ هذا الحكم، ثم تحوّل هدف المحافظة بعد أن تصالح معها المالك إلى الضغط عليه، بهدف تخفيض الأجرة عندما رأت أنّه مغال فيها"( ).
يظهر بأنّ القضاء الإداري الجزائري، يقف موقف نظيريه المصري والفرنسي، في التصدي لقرارات الإدارة التي تهدف إلى الوقوف في وجه الأحكام القضائية الحائزة لقوة الشيء المقضي به، وإن كان يبني ذلك في غالب الأحيان على أساس عيب مخالفة القانون، إلا أننا عثرنا في قرار للغرفة الإدارية بالمجلس الأعلى (سابقا) على ما يوحي باعتماد القضاء الإداري في الجزائر على عيب الانحراف في استعمال السلطة، لإلغاء القرار الذي يرمي للوقوف في وجه حكم قضائي، ومما جاء في حيثيات هذا القرار: " حيث أن المقررين المطعون فيهما، اللذين يستهدفان الوقوف في وجه حكم قضائي نهائي، يمسّان بالشيء المحكوم فيه من طرف المجلس الأعلى.
حيث أنّ المدّعي محق في تمسكه بكون المقرّرين المطعون فيهما مشوبان بعيب تجاوز السلطة و في مطالبته بالبطلان".( )
المطالب الثاني
الانحراف في استعمال السلطة عن قاعدة تخصيص الأهداف
قد يتدخل المشرع بصدد بعض القرارات الإدارية، بأن يحدد الهدف منها، دون الاكتفاء بالالتزام العام بتحقيق المصلحة العامة، فإذا استهدف القرار هدف أخر غير الذي حدده المشرع، كان عرضة للإلغاء، لمخالفته قاعدة تخصيص الأهداف، حتى لو تذرعت الإدارة بأنّها تسعى لتحقيق المصلحة العامة، لأنّ القانون إذا قيّد الإدارة بهدف محدد، بصدد قرار إداري معين، فيجب عليها ألاّ تحيد عن هذا الهدف، وإلاّ أضحى قرارها مشوبا بعيب الانحراف بالسلطة.( )
كما أنّ رجل الإدارة، قد يسعى إلى تحقيق المصلحة العامة أو الهدف المخصص من المشرع، ولكنه يستخدم في سبيل ذلك وسائل غير تلك التي حددها القانون، لتحقيق تلك الغاية، ( ) وهو ما يعرف بالانحراف بالإجراءات، و على هذا الأساس سأتناول هذا المطلب في الفرعين الآتيين :
الفرع الأول: خطأ الموظف في تحديد الأهداف المنوط به تحقيقها .
الفرع الثاني: خطأ الموظف في استخدام وسائل تحقيق الأهداف المنوطة به.
الفرع الأول
خطأ الموظف في تحديد الأهداف المنوط تحقيقها
يجب على رجل الإدارة أن يسعى إلى تحقيق الهدف المحدد، الذي منح الاختصاص من أجله، وإلاّ كان منحرفا بالسلطة، حتّى و إن قصد إدراك أهداف تدخل في إطار المصلحة العامّة.( )
تولّت محكمة القضاء الإداري المصرية، تفصيل هذا الأمر على وجه متميّز، قلّ ما نجد له نظير،( ) وذلك في حكم لها جاء فيه:" أنّ الانحراف في استعمال السلطة كعيب يلحق القرار الإداري، و يتميّز عن غيره من العيوب التي تلحق القرارات الإدارية، لا يكون فقط حيث يصدر القرار لغايات شخصية ترمي إلى الانتقام وإلى تحقيق نفع شخصي أو أغراض سياسية أو حزبية أو نحو ذلك، بل يتحقق هذا العيب أيضا إذا صدر القرار مخالفا لروح القانون، فالقانون في كثير من أعمال الإدارة، لا يكتفي بتحقيق المصلحة العامّة في نطاقها الواسع، بل يخصّص هدفا معيّنا يجعله نطاقا لعمل إداري معين، وفي هذه الحالة يجب ألاّ يستهدف القرار الإداري المصلحة العامّة فحسب، بل أيضا الهدف الخاص الذي عيّنه القانون لهذا القرار، عملا بقاعدة تخصيص الأهداف التي تقيد القرار الإداري بالغاية المخصصة التي رسمت له، فإذا خرج القرار على هذه الغاية، و لو كان هدفه تحقيق المصلحة العامة في ذاتها، كان القرار مشوبا بعيب الانحراف و وقع باطلا ".( )
لخطأ الموظف في تحديد الأهداف المنوط به تحقيقها، العديد من التطبيقات، يظهر أهمّها في:
- أولا: الانحراف بسلطة الضبط الإداري لأغراض مالية.
- ثانيا: استعمال السلطة بقصد فض نزاع مدني.
- ثالثا: منع خدمات الإدارة عن أحد الأفراد لإجباره على إتيان تصرّف معيّن.




أولا: الانحراف بسلطة الضبط الإداري لأغراض مالية:
يجب أن تهدف كل أعمال وإجراءات وسلطات الضبط الإداري، إلى تحقيق النظام العام والمحافظة عليه طبقا لقاعدة تخصيص الأهداف،( ) وكل عمل أو إجراء تقوم به هيئات ورجال الضبط الإداري خارج ذلك الهدف المخصص، يعتبر غير مشروع، و مشوب بعيب الانحـراف في استعمال السلطة، حتى ولو حقق هذا العمل أو الإجراء مصلحة عامة اجتماعية، أو سياسية، أو مالية، للدولة.( )
كثيرا ما يحدث الانحراف في استخدام سلطة الضبط الإداري لتحقيق مصلحة مالية لإدارة من الإدارات، ويكون ذلك إمّا لتخفيف الأعباء المالية التي تقع على عاتقها، أو لزيادة إيراداتها المالية، خارج الرسوم المفروضة، ونلاحظ أنّ هذه الأغراض لا تتنافى مع الصالح العام، لكنها تخالف الأهداف المخصصة لسلطة الضبط الإداري، وقد درج القضاء الإداري في كل من فرنسا ومصر، على إلغاء قرارات الضبط الهادفة إلى تحقيق أغراض مالية للإدارة، فقد ألغى مجلس الدولة قرارا صادرا عن أحد رؤساء البلديات يقضي بتحريم خلع المستحمين لملابسهم على الشواطئ، إلاّ في داخل وحدات خلع الملابس التابعة للبلدية، مقابل دفع مبلغ معيّن، وذلك لأنّ الهدف الرئيسي لرئيس البلدية لم يكن المحافظة على الأداب العامة، وإنّما تحقيق مصلحة مالية للبلدية. ( )
كما ألغى أيضا قرارا إداريا يقضي بقصر المرور في طريق معين على العربات التي يصرّح لها بذلك، بعد تعهد من أصحاب تلك العربات بالمساهمة في إصلاح الطرق العامة، لكونه يهدف إلى تحقيق مصلحة مالية، و من ثمّ يكون مشوبا بعيب الانحـراف.( )
قرّر مجلس الدولة الفرنسي في حكم آخر، بأنّ استعمال السلطة الضبطية ضمانا لتنفيذ عقد من العقود كانت الإدارة طرفا فيه، يدمغ القرار بعيب الانحراف بالسلطة.( )
ألغت محكمة القضاء الإداري في مصر قرارا برفض الترخيص للمدعي بالاستيراد، كونه يقوم على سعي الإدارة - بدون مبرر من القانون - لمناهضة ما وافقت عليه من قبل، و أنّ الباعث الحقيقي لهذا الرفض هو خوفها من بوار سلعة مماثلة، كانت قد استوردتها، ولتغطية المسؤولية في هذا الشأن على حساب المدعي، وهو لا ذنب له، فإن ّقرارها يكون منطويا على إساءة استعمال السلطة.( )
تراجع مجلس الدولة الفرنسي عن موقفه السابق من الانحراف في استعمال السلطة لأغراض مالية، إذ أخرج مبدأ المصلحة المالية من دائرة تخصيص الأهداف، إلى دائرة أوسع مجالا، ألا وهي دائرة المصلحة العامة، لتتطابق معها، ولتنتقل بالتالي من دائرة اللامشروعية إلى نطاق المشروعية.( )
يعزى هذا التحوّل في قضاء مجلس الدولة الفرنسي، إلى ظهور مبادئ سياسية و اجتماعية بعد سنوات الحرب العالمية الأولى، و ما صاحبها من انكماش في المذهب الفردي، و نهوض بالمذهب الجماعي، ممّا أدى إلى اتساع فكرة الصالح العام على حساب المصلحة الفردية، وكان ذلك داعيا إلى النظر لمبدأ الصالح العام بمنظور جديد، يعمل على التضحية بالمصالح الفردية في سبيل صالح المجموع في بعض الحالات، وقد أدّى تطور النظم الإقتصادية، وتدخل الدولة في النشاط الإقتصادي، إلى زيادة الأعباء المالية الملقاة على عاتق المرافق العامة، مما جعلها تفكر دائما في كيفيات الحصول على موارد مالية للقيام بتلك الأعباء، وكلّ هذا أدّى إلى التطوّر الذي لحق مبدأ الانحراف في استعمال السلطة للمصلحة المالية للإدارة،( ) إذ صار مشروعا بعد أن كان غير مشروع.
ظهر هذا التراجع بجلاء عندما رفض مجلس الدولة الفرنسي إلغاء قرار إداري صادر عن أحد رؤساء البلديات، يقضي بمنع شركة للنقل بالسيارات من مباشرة نشاطها في ذات المنطقة التي تمارس فيها شركة ترام متعاقدة مع المجلس المحلي نشاطها، حتى لا يتأثر المركز المالي للشركة الأخيرة، وبتالي لا تنقص حصّة المجلس البلدي في أرباحها. ( )
سار القضاء الإداري المصري على نهج نطيره الفرنسي، حيث أقرّ مبادئ النظرية الحديثة للمصلحة المالية، فقد قضت محكمة القضاء الإداري بأنّ : " الأسباب المالية التي دعت إلى سحب الترخيص لامتناع المدين عن دفع الإتاوة تدخل ضمن المصلحة العامة، و من ثمّ فإنّ المجلس البلدي إذا استهدف من إلغائه أن يستفيد ماليا، ليتسنى له إصلاح شوارع المدينة، والتي تتأثر بعمل الشركات المرخص لها ... و أن نفقات إصلاحها تصل إلى مبالغ كبيرة، إنّما استهدف هدفا مشروعا، ليس ثمّة من شك في أنّ موازنة الميزانية المحلية من أغراض المصلحة العامة."( )
يختلف اتجاه مجلس الدولة الفرنسي عن نظيره المصري، في أنّ الأول يشترط ألاّ تهدف الإدارة إلى مجرّد الحصول على مغنم مالي، دون النظر إلى صالح المنتفعين بالمرفق،( ) أمّا الثاني فلا يشترط ذلك، ومن ثمّ لا يلغي قرار الإدارة حتى ولو قصدت من ورائه تحقيق المصلحة المالية وحدها.( )
هناك من عارض موقف القضاء الإداري المصري من القرارات الإدارية الصادرة لمصلحة مالية، ورأى بأنّ عليه أن يساير نظيره الفرنسي، بأن يشترط أن يقوم إلى جانب الهدف المالي هدف آخر، وهو تحقيق المصلحة العامة.( )
ثانيا: استعمال الإدارة سلطتها في فض نزاع مدني:
لكلّ سلطة من سلطات الدولة اختصاصاتها المحددة، و ينبغي عليها -لتكون أعمالها مشروعة- ألاّ تخرج عن حدود ما تختص به، إلى اختصاص سلطة أخرى.
تتدخل الإدارة بسلطتها في هذه الحالة من أجل فض نزاعات خاصة بين الأفراد، عادة ما تكون ذات طابع مدني، و هذا التدخل -و إن كان يقع في كثير من الأحيان بدوافع نبيلة من الإدارة- إلاّ أنّه مشوب بالانحراف، و فيه نوع من التعدّي على السلطات القضائية، التي من اختصاصها النظر في تلك المنازعات الخاصة.( )
قضى مجلس الدولة الفرنسي بعدم مشروعية قرار ضبط قصد به حل نزاع بين الأفراد،( ) كما ألغت محكمة القضاء الإداري المصرية، قرارا إداريا يقضي بإلغاء زوائد التنظيم منعا للمنازعات، و رأت بأنه حتى و إن كان هذا التصرّف قد يؤدي إلى فض المنازعة و التزاحم بين جارين بشأن شراء الأرض أو الانتفاع بها، فإنّه لا يدخل ضمن وظيفة البلدية و اختصاصاتها.( )
سار القضاء الإداري الجزائري على نهج نظيريه الفرنسي والمصري، إذ استقر على إلغاء القرارات الإدارية التي تهدف إلى الفصل في نزاع يدخل في اختصاص القضاء، فقد جاء في قرار صادر عن الغرفة الإدارية بالمجلس الأعلى أنّه : " ... ليس من سلطات الرئيس أو المجلس الشعبي البلدي الحلول محل الجهة القضائية، و البتّ في قضية من قضايا الملكية، أو شغل مكان ما يخص المواطنين، إذ أنّ دورها يجب ألاّ يتعدى تحقيق المصالحة بين الطرفين .
حيث أنّ القرار المتخذ بالتالي على النحو السابق عرضه مشوب بعيب تجاوز السلطة الواضـح و يستوجب من أجل هذا البطلان ...". ( )
كما جاء في قرار آخر صادر عن مجلس الدولة الجزائري مايلي : "حيث يستخلص من أوراق ملف الدعوى أنّ المستأنف عليه استأجر المحل التجاري من السيدة (م.س)... و على إثر نزاع بينهما طلبت المؤجرة من محافظة الجزائر الكبرى التدخل، فيفاجأ المستأنف عليه بقرار من الوزير المحافظ يقضي بغلق المحل التجاري، و ذلك بسبب النزاع القائم بين المؤجر و المستأجر بعد انقضاء مدة عقد الإيجار.
حيث إن كان هناك فعلا نزاع في هذه الدعوى بين المؤجر و المستأجر لا يكون سببا لغلق المحل بهذه الطريقة التعسفية، و لا يجوز للوالي اتخاذ مثل هذا القرار الذي يوصف فعلا بتجاوز فادح للسلطة، و أنّ الهيئة الوحيدة المخوّلة قانونا للتصدي لهذه النزاعات هي القضاء، و بالتالي فالقرار المستأنف حين تصدّى بالإلغاء قد أصاب فيما قضى به، مما يتعين تأييده".( )
ثالثا: منع خدمات الإدارة عن أحد الأفراد لإجباره على إتيان تصرّف معيّن: على السلطات الإدارية أن تكفل للإفراد ما وفرّه القانون من خدمات، شريطة أن تنطبق عليهم شروط استحقاقها، و التي إن توفرت كانت الإدارة ملزمة بأداء تلك الخدمات، دون سلطة تقديرية، و تكون الإدارة قد ارتكبت انحرافا بالسلطة إن هي امتنعت أو تباطأت في أداء الخدمة أيّا كان باعثها على ذلك نبيلا أم خبيثا.( )
لا شك في أنّ تدخل الإدارة بسلطتها، لحمل أحد الأفراد على إتيان تصرّف معيّن، يمثّل انحرافا بالسلطة، وذلك بمخالفة قاعدة تخصيص الأهداف، فسلطة منح الخدمات لم تمنح لتحقيق ذلك الهدف الذي تتوخاه الإدارة، وإنّما تستعمل في كثير من الأحيان كعقوبة، أو كنتيجة لفقدان الأفراد شرطا من شروط الاستفادة من خدمة معيّنة.
لا شطط في القول أنّ تدخل الإدارة لحمل أحد الأفراد على إتيان تصرّف معيّن تحت طائلة منع خدماتها عنه، يدخل في إطار المصلحة العامة، خاصة إذا كان ذلك التصرف الذي سيؤديه الفرد يمثل حقّا مشروعا لصالح الإدارة، غير أنّ الانحراف في هذه الحالة يتعلق بمخالفة قاعدة تخصيص الأهداف.
قضى مجلس الدولة الفرنسي في هذا الصدد بإلغاء قرار رئيس البلدية، الذي استعمل ما خوّله المشرع من سلطات ضبط، لإجبار المتعاقد مع البلدية على الوفاء بالتزاماته التعاقدية.( )
كما ألغت محكمة القضاء الإداري المصرية قرارا لقلم المرور، يقضي بالامتناع عن تسليم أحد المواطنين رخصة سيارته، التي استوفى جميع شروط استخراجها، وذلك بهدف إجباره على سداد الرسوم المتأخرة عليه لإحدى الجهات الحكومية.( )

الفرع الثاني
خطأ الموظف في استخدام وسائل تحقيق الأهداف (الانحراف بالإجراء)
تحدث هذه الصورة عندما تستخدم الإدارة إجراء أو إجراءات معيّنة بصدد قرار معيّن، في حين تكون هذه الإجراءات مقرّرة لكي تستخدم بخصوص قرارات أخرى، فالإدارة هنا تحلّ الإجراءات محلّ بعضها، و تستخدمها في غير ما وضعت من أجله( )، والإدارة تلجأ إلى هذه الطريقة إمّا لتجنّب بعض الشكليات المعيقة، أو لربح الوقت( ).
انقسم الفقه بشأن الطبيعة الخاصة لعيب الانحراف بالإجراء إلى اتجاهين: اتجاه أول: يرى بأنّه عيب مستقل، واتجاه ثاني: يعتبره صورة من صور الانحراف بالسلطة.( )
و للانحراف بالإجراء عدة صور من أهمّها :
-أولا: الانحراف بسلطة نزع الملكية للمنفعة العامة.
-ثانيا: الانحراف بسلطة نقل الموظفين.
-ثالثا: الانحراف بسلطة وضع تقارير الترقية.
و سأتعرض لكل صورة من هذه الصور على حدى.
أولا: الانحراف بسلطة نزع الملكية للمنفعة العمومية: جاء في نص المادة 02 من القانون 91/11 المحدد للقواعد المتعلقة بنزع الملكية من أجل المنفعة العمومية( ) مايلي:" يعدّ نزع الملكية من أجل المنفعة العمومية طريقة استثنائية لاكتساب أملاك أو حقوق عقارية، و لا يتمّ إلاّ إذا أدى انتهاج كل الوسائل الأخرى إلى نتيجة سلبية.
و زيادة على ذلك، لا يكون نزع الملكية ممكنا إلا إذا جاء تنفيذا لعمليات ناتجة عن تطبيق إجراءات نظامية مثل التعمير و التهيئة العمرانية، و التخطيط تتعلق بإنشاء تجهيزات جماعية و منشآت و أعمال كبرى ذات منفعة عمومية." جاء القانون المذكور أعلاه تكريسا للمبادئ التي تبنّاها دستور 1989، و أهمّها حماية الملكية الخاصة، و عليه فقد أتى بأحكام تضمن أكثر حماية للأفراد و لممتلكاتهم، و تقيّد سلطة الإدارة في استعمال الطرق الجبرية لإرغام هؤلاء الأفراد على التنازل عن ممتلكاتهم، خارج نطاق المنفعة العمومية.( ) كانت المنفعة العمومية تعني في الأصل تكوين الأملاك العمومية أو تهيئة أشغال عامة، مثل الأشغال الكبرى (الطرقات)، لكن يظهر أنّ مفهومها اتسع تدريجيا إلى أن وصل إلى غاية شموله لكل انجاز ينطوي على تحقيق الصالح العام.( ) يبقى مع هذا مفهوم المنفعة العمومية مفهوما مطاطا، لذلك رأى بعض الأساتذة بضرورة إسناد مهمّة التحقّق من وجود منفعة عمومية إلى القاضي الإداري، عكس ما هو معمول به، و هو ترك الأمر للهيئات الإدارية تقدّر متى توجد المنفعة العمومية و متى تنعدم،( ) والمؤسف أنّ الإدارة انحرفت في كثير من المرات بإجراء نزع الملكية للمنفعة العمومية، لاسيما في بلادنا أين يلاحظ توجيه الأملاك المنزوعة نحو أغراض خاصة، لانجاز تعاونيات عقارية، وتوزيعها كقطع أرضية للخواص بغية انجاز سكنات فردية.( ) عرفت فرنسا أيضا هذه الظاهرة، أين كانت الإدارة تستعمل سلطة نزع الملكية لتحقيق نفع مادي لها، و مع أنّ مجلس الدولة الفرنسي كان و لا يزال يرى أنّ الإدارة تتمتّع بحرّية تقدير ملاءمة المشروع المراد تنفيذه، ( ) ومدى تحقيقه للمنفعة العامة، إلاّ أنّه كان يحتفظ لنفسه بحقّ مراقبة ما إذا كان ذلك المشروع يدخل في عداد الأعمال التي يمكن للإدارة أن تلجا في سبيل انجازها إلى إجراء نزع الملكية للمنفعة العمومية،( ) وتطبيقا لذلك ألغى مجلس الدولة الفرنسي قرارا لوزير الحرب، و الذي استأجر في سنة 1916 بعض الأراضي المجاورة لمصانع البارود في تولوز للأغراض الحربية، و تعهّد في العقد برد الأرض بحالتها وقت الإيجار عند نهاية المدة، و لما حان وقت الرد كانت الأرض قد أصابها عطب شديد، و كان ردها إلى حالتها الأولى سيكلف الدولة مبالغ مالية كبيرة، و للتهرب من الوفاء بذلك التعهّد، لجأت الإدارة إلى نزع ملكية الأرض، لأنّها وجدت أنّ المبلغ الذي تدفعه في هذه الحالة أقلّ بكثير من تكاليف إرجاع الأرض إلى حالتها الأولى، و قد ألغى مجلس الدولة قرار نزع الملكية، لأنّ الإدارة استعملته في غير ما أعدّ له.( )
ساير القضاء الإداري المصري نهج نظيره الفرنسي، في تحقيق مبدأ عدم جواز استعمال إجراء نزع الملكية للمنفعة العمومية خارج ما وجد لأجله، فقد ألغت المحكمة الإدارية العليا قرار رئيس الوزراء، و الذي استصدرته إحدى الجامعات بنزع ملكية بعض الأفراد، لاستكمال منشآتها الجامعية، حيث ثبت أنّ الجامعة تصرفت في أرض مملوكة لها في تاريخ سابق على تاريخ صدور قرار نزع الملكية، حيث ذهبت إلى أنّ في ذلك إساءة لاستعمال السلطة، و تجاوز للغاية التي حددها الدستور و القانون، و لما في ذلك من المساس بالملكية الخاصة، مع تنكّب للغاية التي قامت عليها فكرة التضحية بالمصالح الشخصية لحساب الصالح العام.( )
يظهر في الجزائر أنّ القضاء الإداري قد تصدّى للعديد من الانحرافات بإجراء نزع الملكية للمنفعة العمومية، و من ذلك ما جاء في قرار للغرفة الإدارية بالمحكمة العليا:" و لما كان ثابتا في القضية... أنّ القطعة الأرضية محل النزع و التي منحت للبلدية، قد جزئت للخواص و سمحت لهم ببناء مساكن، فهنا يتبيّن أنّ الإدارة خرجت عن الهدف المقرر من وراء نزع الملكية."( )
ثانيا: الانحراف بسلطة نقل الموظفين: ورد في نص المادة 158 من القانون الأساسي العام للوظيفة العمومية( )أنّه: "يمكن نقل الموظف إجباريا عندما تستدعي ضرورة المصلحة ذلك..." يظهر من هذا النص أنّ المشرع قد قيد سلطة الإدارة في نقل الموظف من مكان عمله إلى مكان أخر لضرورة المصلحة،( ) كما يظهر مفهوم "ضرورة المصلحة" بأنّه مطاط أكثر من اللازم و خاضع لتقدير كل سلطة إدارية على حدى. لوحظ بأنّ الإدارة في بعض الأحيان تلجأ إلى هذا الإجراء كعقاب للموظف، و ليس بهدف ضرورة المصلحة، و هذا ما يشكل انحرافا بإجراء النقل عن هدفه المخصص من طرف المشرع، ولعلّ الإدارة عند لجوئها إلى مثل هذه الحيلة، ترغب في تجنب الضمانات المحاطة بالسلطة التأديبية، و إجراءاتها المعقّدة، مما يجعل إجراء النقل لضرورة المصلحة بمثابة عقوبة مقنعة، أو مستترة للموظف المنقول من مكان عمله إلى مكان آخر، ولهذا السبب يلاحظ أنّ مجلس الدولة الفرنسي يفحص بعناية بالغة قرار النقل لتحديد طبيعته الحقيقية، و ما إذا كان مجرّد تدبير داخلي يستند إلى سلطة الإدارة الرئاسية، أم أنّه في حقيقته عقوبة تأديبية مستترة خلف إجراء يتشح بثوب المشروعية، في حين أنّ الهدف المنشود من وراء اتخاذه هو إنزال العقاب بالموظف لا غير.( )
وقف مجلس الدولة المصري موقفا حاسما من قرارات النقل، التي قصدت بها الإدارة توقيع جزاءات مقنعة، حيث ألغت محكمة القضاء الإداري قرارا إداريا بنقل أحد أعضاء تنظيم نقابي، لمّا ثبت لديها أنّ القرار صدر بقصد التنكيل بالمدعي، بسبب نشاطه النقابي المناوىء للإدارة، و من ثمّ كان مشوبا بإساءة استعمال السلطة.( ) كما جاء في قرار آخر لمحكمة القضاء الإداري أنّه "إذا لم يتبيّن من الأوراق وجود سبب مصلحي يدعو إلى نقل المدعي من مديرية الجيزة إلى مديرية الفؤادية، و لم يمض على نقله إليه غير فترة وجيزة تقدمت سنة، حتى أصبح لا يقوى على العمل بالجهات البعيدة، فإنّ صدور قرار النقل في الظروف المتقدمة – و بعد أن أقام المدعي دعواه رقم 677 لسنة 5 ق – بأيام قلائل، ترى فيه المحكمة أنّه ما صدر إلاّ ردا على الدعوى التي رفعها، بالمطالبة بإلغاء قرار ترقية زميله و بالمطالبة بالتعويض عن نقله إلى مديرية الجيزة، وتنزيله إلى وظيفة كاتب، و بذلك تكون الإدارة قد انحرفت بسلطتها في نقل الموظفين من مكان إلى آخر عن الغاية التي وضعت لها، وهي وضع كل موظف في المكان المناسب لدرجته و كفايته، و تحقيق العدالة بين الموظفين في توزيع مدد الإقامة في الجهات النائية، و في المدن الكبيرة العامرة، حيث تتوافر وسائل المعيشة المتحضّرة و ألوان الرفاهية، و يكفل في النهاية مصلحة العمل، فاتخذتها أداة للعقاب، و بذلك ابتدعت نوعا من الجزاء التأديبي...".( ) يظهر أنّ القضاء الإداري الجزائري قد تبنى في وقت من الأوقات فكرة العقوبة المقنعة، أو المستترة تحت غطاء النقل لمصلحة الخدمة، وهذا ما يؤكّده قرار الغرفة الإدارية بالمحكمة العليا الصادر بتاريخ 08/09/1989، والذي جاء فيه أنّه: "من المستقرّ عليه في القضاء الإداري أنّه يجب إبلاغ الموظف في حالة النقل التلقائي، حتى و لو لم يكن هذا الإجراء مكتسب الطابع التأديبي، ومن ثمّ فإنّ القرار الإداري المتضمن نقل الموظف يعدّ إجراءا تأديبيا مقنّعا ما دام الإجراء المقرر في مجال النقل التلقائي لم يحترم، ومتى كان ذلك استوجب إبطال القرار".( ) من الواضح أنّ هذا القرار يمثّل اجتهادا قضائيا متميّزا، حيث طبّق القاضي الإداري فكرة العقوبة المقنعة بشكل أوسع مما هو متعارف عليه في القضاء الإداري الفرنسي أو المصري، كونه اتجه نحو عيب الانحراف بإجراء النقل كصورة من صور عيب الانحراف في استعمال السلطة، في حين كان بإمكانه الاكتفاء بتأسيس الإلغاء على عيب الإجراءات الذي ثبت لديه في بادئ الأمر. كما ألغت الغرفة الإدارية بالمحكمة العليا -في قرار لاحق لها- قرارا إداريا يقضي بنقل موظف، و ذلك على أساس صدوره كعقوبة مقنعة، و مما جاء في حيثيات قرارها أنّه: "من المقرّر قانونا أنّ السلطة هي التي لها صلاحية تحديد عقوبات الدرجة الثالثة بعد موافقة لجنة الموظفين. ومن المستقرّ عليه أنّ النقل يتم لصالح المرفق العام، بشرط أن لا يشكل نقلا تلقائيا، و لمّا كان الثابت في قضية الحال أنّ الطاعن كان محل تنزيل مقنّع في الرتبة تحت غطاء النقل، لأنّه كان متصرفا إداريا يتمتع بصنف 17/05 بينما صنف الأمين العام هو 17/02 و بمجرد رفضه قام الوالي بفصله دون أخذ رأي لجنة الموظفين، فإنّ قضاة الدرجة الأولى لما قضوا بإبطال قرار الوالي خرقا للقانون 85/59 طبقوا القانون تطبيقا سليما".( ) لعلّ ما قيل من تعليق على القرار الأول يمكن إعادته هنا، ذلك أنّ الغرفة الإدارية بالمحكمة العليا اتجهت نحو التأكيد على وجود انحراف بالإجراء، و صرّحت بوجود عقوبة مقنّعة بالرغم من وجود عيب واضح في الإجراءات، و المتمثل في فصل الموظف دون أخذ رأي لجنة الموظفين، إلاّ أنّها اضطربت في الأخير من حيث الوصف القانوني للعيب الذي شاب القرار الإداري المطعون فيه، حيث اتجهت للقول بوجود خرق للقانون، و هذا لا يتناسب مع ما استهلت به قرارها، إذ كان من الأجدر أن تلغي القرار على أساس عيب الانحراف بالإجراء كصورة من صور الانحراف في استعمال السلطة. يلاحظ أنّ مجلس الدولة الجزائري لا يأخذ الآن بفكرة العقوبة المقنعة بخصوص قرارات النقل لضرورة المصلحة، إذ يركز في غالب الأحيان على عيب الإجراءات، و يكتفي بالتأكد من استشارة اللجنة المتساوية الأعضاء على وجه الخصوص، دون أن يناقش الإدارة في مدى توافر ضرورة المصلحة التي تدعيها. إنّ حصر العمل القضائي في مجال الإلغاء في الجزائر على العيوب الخارجية، دون العيوب الموضوعية، لا سيما في مجال منازعات الوظيفة العمومية، يجعل الرقابة القضائية على أعمال الإدارة تنزل إلى حدّها الأدنى، و هذا على حساب مبدأ المشروعية، و حقوق الأفراد و حريّاتهم.
ثالثا: الانحراف بسلطة وضع تقارير الترقية: ورد في نص المادة 97 من القانون الأساسي العام للوظيفة العمومية( ) مايلي: "يخضع كل موظف أثناء مساره المهني إلى تقييم مستمر و دوري يهدف إلى تقدير مؤهلاته المهنية وفقا لمناهج ملائمة."
كما نصت المادة 98 من نفس القانون على أنّه: "يهدف تقييم الموظف إلى:
- الترقية في الدرجات،
- الترقية في الرتبة،..."
يقصد بإجراء الترقية، نقل أو تعيين الموظف العام في وظيفة أعلى من وظيفته التي يشغلها، بناءا على شروط و مقوّمات توافرت فيه، و جعلته مؤهلا لشغل الوظيفة الجديدة التي رقي إليها.( )
أمّا عن الأساس الذي ترتكز عليه الترقية، فقد جاء في نص المادة 99 من القانون السالف الذكر مايلي: "يرتكز تقييم الموظف على معايير موضوعية تهدف على وجه الخصوص إلى تقدير:
- احترام الواجبات العامة و الواجبات المنصوص عليها في القوانين الأساسية،
- الكفاءة المهنية،
- الفعالية و المردودية،
- كيفية الخدمة،..."
يلاحظ أنّ معظم التشريعات المتعلقة بالوظيفة العمومية تتبنّى نظام تقارير الترقية، بهدف تقييم كفاءة الموظف العام، وتحقيق العدالة بين الموظفين، بإعطاء كل ذي حقّ حقه، و ذلك بالرغم من أوجه النقد العديدة التي توجّه إلى هذا النظام،( ) حيث أثبت العمل أنّه لا يوجد أيّ نظام بديل عنه يفوقه في مزاياه و يتلافى في ذات الوقت عيوبه،( ) وقد أسند المشرع الجزائري مهمّة التقييم والتقدير للسلطة السلمية المؤهلة.( ) يحدث أن تستعمل الإدارة سلطتها في هذا الشأن استعمالا منحرفا، لمجاملة موظف ما على حساب موظف آخر أولى منه بالترقية، أو لعقاب موظف كفء لا يحظى بقبول رؤسائه، لأسباب غير موضوعية، وهنا يقع الانحراف في استعمال السلطة في تقارير الترقية.( )
امتنع مجلس الدولة الفرنسي – في البداية – عن رقابة ملاءمة قرار تقدير الترقية، لذلك ذهب في أحد قراراته إلى أنّه: "لا يختص قاضي الإلغاء برقابة التقرير الذي يضعه رئيس المرفق، سواء كان هذا التقرير تقديرا عاما، أم درجة رقمية".( )
كان سند مجلس الدولة الفرنسي في هذا الموقف، أنّه يعتبر تقارير تقدير كفاءة الموظفين من الإطلاقات الإدارية التي لا يجوز للقضاء الإداري التدخل فيها، حيث أنّ السلطات الرئاسية للموظف العام هي أقدر الجهات على تقييمه، و على إعطائه الدرجات المعبّرة بدقة عن مستواه الوظيفي و كفاءته المهنية، دون معقّب عليها، طالما أنّها لم تخالف القانون.( ) غير أنّ تحولا هامّا طرأ على قضاء مجلس الدولة الفرنسي، حيث لم يكتف بجعل رقابته على تقارير تقدير الكفاءة رقابة مشروعية فحسب، بل بسط على تلك التقارير رقابة ملاءمة، وذلك حين ذهب إلى أنّه: "ومن حيث أنّ السيد (Lenca) منح عن سنة 1970 درجة رقمية مقدارها 17.25 درجة، متبوعا بتقدير عام عن كفاءته الوظيفية، و حيث أنّه لا يبين من ملف الدعوى أنّ تقدير كفاءة السيد (Lenca) مشوب بغلط بيّن في التقدير، أو إساءة استعمال السلطة...لذا فإنّه يكون غير محقّ في ادعائه بأنّ الحكم المطعون فيه قد أخطأ حين رفض دعواه".( )
بمفهوم المخالفة لو تبيّن لمجلس الدولة الفرنسي أنّ تقدير الإدارة مشوب بغلط واضح، أو بإساءة استعمال السلطة، لكان ألغاه لهذا السبب، و هنا ما يؤكد على حقيقة الانفراج الحاصل في القضاء الإداري الفرنسي من حيث الرقابة على ملائمة تقدير الإدارة لكفاءة الموظف.
أمّا عن موقف القضاء الإداري المصري من الرقابة على تقارير تقدير كفاءة الموظفين، فيظهر أكثر دقة و فعالية، و هذا ما يؤكده حكم محكمة القضاء الإداري الصادر في 19/11/1957، و الذي جاء فيه: "إذا كان الثابت من استقراء ملف خدمة الموظف أنّه لم يطرأ ما يؤثر في قدرته و كفايته حتى ينتهي الأمر بلجنة شؤون الموظفين إلى خفض كفايته من 85 درجة إلى 50 درجة، لا سيّما و أنّ اللجنة لم تتذرع بسبب ما لهذا الخفض، كما و أنّ التقدير جاء جزافا، دون بيان لمفرداته، على الوجه الوارد في التقرير السرّي، و خلافا لما تنطق به الأوراق، و إذا كان الثابت أيضا أنها رفعت كفاية موظف آخر على النحو الذي أهله للترقية بالاختيار في ذات الجلسة، الأمر الذي يقطع بأنّ ذلك الخفض وهذا الرفع لم يكونا إلاّ وسيلة استهدفت ترقية الموظف الأخير دون الأوّل، عن طريق التحكم في درجات الكفاية، التي هي في ذاتها الواقعة القانونية المنشئة للترقية بالاختيار، و تكون لجنة شؤون الموظفين عندما أصدرت قرارها بترقية الموظف الأخير عن طريق التحكم في درجات الكفاية، شاب تصرفها سوء استعمال السلطة".( ) غير أنّه تجدر الإشارة إلى أنّ رقابة القضاء الإداري المصري على تقارير الكفاءة لم تمتد إلى رقابة الملاءمة، مثلما حصل في فرنسا، بل بقيت محصورة في رقابة المشروعية، تاركة الحبل على الغارب للإدارة في وضع ما شاءت من تقارير، على حساب حقوق الموظفين و كفاءتهم الحقيقية.( )
 

المواضيع المتشابهة

أعلى