بسم الله الرحمان الرحيم
ثبوت النسب بين القواعد الشرعية والبصمة الوراثية
من إعداد : الأستاذة بوسطلة شهرزاد
أستاذ مساعد "أ"بقسم الحقوق جامعة بسكرة.
مقدمة :
يعتبر النسب من أكثر المباحث الفقهية والقانونية أهمية لما يترتب عليه من حقوق والالتزامات ترتبط في أحكامها بجملة من القواعد الشرعية والآثار الفقهية ، فمن حيث القواعد فإن النسب يحتكم في تأصيله إلى عدد من المبادئ التي تقوم عليها النظم التشريعية كالبينة والإقرار ، ومن حيث الآثار فإن النسب كما هو معلوم ثمرة العلاقة الزوجية ،الرابطة الاجتماعية التي تؤسس للمجتمع وتحدد معالم ازدهاره و ترابطه ، وهو السبب الأول في اكتساب الحقوق المعنوية كالاسم والحرمة أو المالية كالنفقة والميراث .
لذا نجد مباحث النسب ما فتئت تتصدر المباحث الفقهية و تسيل أقلام الباحثين، الفقهاء والحقوقيين ؛ فثبوت النسب قد استقرت قواعد إثباته وسار عليها الفقهاء في اجتهادهم وحكم بناء عليها القضاة في ما يعرض عليهم من منازعات . وقد سار الفقهاء في النسب وثبوته على مبدأ الاحتياط لخطورته وتعلق الأحكام به ، حتى إذا ظهر ما يؤيد هذا المبدأ ويرسي دعائمه نجدهم يتلقونه بالقبول ، فيطرح في ميزان الشرع فما وافقه وحقق مقاصده كان العمل وفقه وما كان غير ذلك لم يلتفت إليه.
و قيام ثبوت النسب أو نفيه على قواعد محددة سار عليها الفقه والقضاء ، لم يخل من كثرة النوازل فيه والقضايا ، ناهيك عن التطور التكنولوجي التي عرفته البشرية في هذا العصر و الذي أظهر للوجود وسائل علمية دقيقة تؤكد أو تنفي علاقة البنوة أو الأبوة ، و بالتحديد ما اصطلح عليه بالبصمة الوراثية ؛ و قد ذهب المشرع الجزائري في التعديل الجديد لقانون الأسرة رقم 84/11إلى اعتماد الطرق العلمية في ثبوت النسب دون أن يبين الكيفية، حيث كان الاجتهاد القضائي على عدم الإقرار بحجية البصمة الوراثية فيه ، فجاء ليؤكده في نص المادة 40 (من الأمر 05/02)الذي عدل وتمم القانون المذكور أعلاه . لكن إلى أي مدى تكون الطرق العلمية والبصمة الوراثية على وجه الخصوص حجة في ثبوت النسب شرعا وقضاء؟ ،و إذا علمنا أنها من مستجدات العصر أن نسبة دقة نتائجها تكاد تكون قطعية ، فما مدى حجيتها على القواعد الشرعية الثابتة التي سار عليها الفقهاء منذ عهد النبوة ، وهل تقوم قاعدة مع تلك القواعد ؟ أم الأمر غير ذلك ؟ للإجابة على هذا التساؤل ارتأينا أن تكون هذه الورقة حول حجية ثبوت النسب بالبصمة الوراثية وتكييف هذه الوسيلة فقها وقضاء، من ثم فقد قسمنا الموضوع إلى قسمين الأول : في ثبوت النسب ،المفهوم والقواعد الشرعية التي يقوم عليها ،ثم القسم الثاني: في البصمة الوراثية، مفهومها وحجيتها في ثبوت النسب في ضوء ما كتبه المعاصرون وما جاءت به قرارات المجمعات الفقهية.
المبحث الأول : مفهوم ثبوت النسب والقواعد التي يقوم عليها .
لقد أولى الفقهاء للنسب أهمية كبرى، إن من حيث التأصيل أو من حيث التفريع و التطبيق،ومن ثم لزم معرفة مفهومه و القواعد التي يقوم عليها ،ومنه يكون هذا المبحث من مطلبين، الأول في: مفهومه والثاني :في القواعد التي يقوم عليه .
المطلب الأول : مفهوم ثبوت النسب .
ويكون بتحديد المصطلح وإبراز أهميته.
الفرع الأول :التعريف بمصطلح " ثبوت النسب".
ترتبط كلمة "ثبوت النسب" بلفظ "النسب" ومن ثم وجب تعريف كلمة "النسب" ثم المركب الإضافي "ثبوت النسب".
فالنسب في اللغة: يقصد به القرابة وسمي كذلك لما بين الأقارب من صلة ، و جاء في لسان العرب : النَسب: نَسب القَراباتِ، وهو واحدُ الأنساب. والنِسبة والنُسبة و النَسب: القرابة وقـيل: هو فـي الآباء خاصَّةً؛ وقـيل: النِّسْبَةُ مصدر الانتِساب؛ و النُّسْبَةُ: الاسمُ. والنَسَب يكون بالآباءِ، ويكون إِلـى البلاد، ويكون فـي الصناعة، وجمع النَّسب أَنْسابٌ. و انتَسَبَ و اسْتَنْسَبَ: ذَكَرَ نَسَبه. و نَسَبَهُ يَنْسُبُهُ و يَنْسِبُهُ نَسَباً: عزاه و نَسَبَه: سأَله أَن يَنْتَسِبَ. و نَسَبْتُ فلاناً إِلـى أَبـيه أَنْسُبه و أَنْسِبُهُ نَسْباً إِذا رَفَعْت فـي نَسَبه إِلـى جده الأَكبر. الـجوهري: نَسَبْتَ الرجل أَنْسُبه، بالضم، نِسْبةً و نَسْباً إِذا ذَكرت نسَبه، وانْتَسَبَ إِلـى أَبـيه أَي اعْتَزَى.
كما جاء في كتاب التعاربف:"النسب والنسبة، اشتراك من جهة أحد الأبوين وذلك ضربان نسب بالطول كالاشتراك بين الآباء والأبناء ونسب بالعرض كالنسب بين بني الأخوة وبني الأعمام وفلان نسيب فلان أي قريبه.."
وعرفه الجرجاني فقال:" النسبة إيقاع التعلق بين الشيئين والنسبة الثبوتية ثبوت شيء لشيء على وجه هو هو".
أما كلمة ثبوت :فتعني ؛ثبُتُ ثَبَاتاً و ثُبُوتاً فهو ثابتٌ و ثَبِـيتٌ و ثَبْتٌ،و أَثْبَتَه هو، و ثَبَّتَه بمعنىً. وشيء ثَبْتٌ: ثابتٌ.الثَّبَتُ، الـحجّة والبـينة. وفـي حديث قتادة بن النُّعْمان: بغير بـيِّنَة ولا ثَبَتٍ. و ثابَتَه و أَثْبَتَه: عَرَفَه حقَّ الـمَعْرِفة
وفي كتاب التعاريف:" الثبات ضد الزوال والثبات والثبوت ضد التزلزل،وثبت الأمر صح، وأثبت الكاتب الاسم كتبه عنده،و ثبت بالفتح ومنه قيل للحجة ثبت ورجل ثبت بفتحتين إذا كان عدلا ضابط ،الثبة الجماعة الثائب بعضهم إلى بعض في الظاهر، وثبة الحوض، ما يثوب إليه الماء أي يرجع"
ويقول الجرجاني :"الإثبات هو الحكم بثبوت شيء آخر "
وعليه فإن ثبوت النسب غير إثباته لأن معنى ثبوته يكون تعلقه به وإرجاعه إلى صاحبه وإسناده له بينما اثبات يعني إقامة البينة على ثبوته .
ومنها يمكن استخلاص مدلول المركب الإضافي "ثبوت النسب" ويعني: وجود صلة قرابة بالأخص في تلك التي تكون بين الآباء و الأبناء والحكم عليها بالإسناد بالحجة والبينة.
أما في الاصطلاح فلا يخرج مفهوم ثبوت النسب في اصطلاح الفقهاء والقانونيين عن معناه اللغوي، و يعني إسناد الأبناء للآباء بصلة قرابة و إقامة الحجة على ذلك .
الفرع الثاني : أهمية ثبوت النسب .
لقد امتن الله على عباده بالنسب "...وجعل منه نسبا وصهرا".الآية فعلق الأحكام عليهما حلا وحرمة ؛لذا اعتنت الشريعة الإسلامية بالنسب فكان تشريع الزواج و إحاطته بجملة أركان وشروط ، إذ التوالد بين الزوجين وانتساب كل ولد لأبيه وما يترتب عليه من قيام مسؤوليات في التربية والنفقة والعناية ،يحقق بالتأكيد الترابط بين أفراد المجتمع الواحد ويؤسس علاقات متينة بينهم؛فلا الشك أن رابطة الدم هي أقوى الروابط و أمتنها، ومن ثم نجد الشارع قد حث على الزواج واهتم بالنسب و وأقر أحقية كل فرد في الاسم والانتساب إلى أبوين وعائلة ،اسما و دما وصلة ؛ فأثبته بالزوجية القائمة حقيقة وحكما وشبهة . وفي مقابل ذلك شدد في جريمة الزنا "إنه كان فاحشة وساء سبيلا". الآية .فأهدر الماء الذي يخلق منه الولد حتى وإن كان الأب البيولوجي ، يقول النبي صلى الله عليه وسلم :"الولد للفراش وللعاهر الحجر " .
و شدد الشارع على الآباء الذين ينكرون نسب أولادهم لقوله -عليه الصلاة والسلام- حين نزلت آية المتلاعنين :" أيما ثمْ أيما امرأة أدخلت على قوم من ليس منهم فليست من الله في شيء ولن يدخلها الله جنته، وأي ما رجل جحد ولده وهو ينظر إليه احتجب الله منه وفضحه على رؤوس الأولين والآخرين " . وقوله أيضا :"من ادعى لغير أبيه وهو يعلم فالجنة عليه حرام ." ومن ثم فأهمية النسب تكمن في أنه يحقق الهوية للأفراد ويعطي لهم الشعور بالانتماء و يقوي الروابط الاجتماعية ويؤسس من ثم لدولة قوية. وكل ذلك في إطار ما حدده الشارع ورأى أنه يحقق المقصد من عمارة الأرض .
المطلب الثاني : قواعد ثبوت النسب.
لأن النسب من أهم الأمور التي تمس شخصية الإنسان وتؤثر فيه. فقد احتاطت الشريعة السمحاء لإثباته فأقرت ثبوته بأدنى دليل وسارت على التشديد في نفيه فلا ينتفي إلا بأقوى الأدلة. و لقد عدد الفقهاء لثبوت النسب منذ العصور الأولى للإسلام أمورا عدة هي : الفراش والإقرار والبينة و القيافة و القرعة.وقد أخذ المشرع الجزائري بالثلاث الأولى وهي موضع اتفاق بين الفقهاء ونعني الفراش والإقرار والبينة ، إذ نصت م40 (ق أ ج 84/11) على أنه :"يثبت النسب بالزواج الصحيح أو بالإقرار أو بالبينة أو بكل زواج تم فسخه بعد الدخول"
و تفصيل ذلك كما يلي :
الفرع الأول: في الطرق المتفق عليها في ثبوت النسب والفرع الثاني: في المختلف فيها.
الفرع الأول : الطرق المتفق عليها بين الفقهاء في ثبوت النسب .
اتفقوا على أن الفراش و الإقرار والبينة طرق يثبت بها النسب شرعا.
أولا- الفــراش:
الفراش كناية على قيام الزوجية حقيقة أو حكما عند مجيء الولد ، وأصلها الحديث المذكور أعلاه فقد جعل النبي – صلى الله عليه وسلم -قيام الزوجية دلالة على ثبوت النسب.فكونه ولد والزوجية قائمة فإنه لا يحتاج إلى إقرار ولا إلى بينة.غير أنه لا يكون صالحا لثبوت النسب إلا إذا توافرت فيه شروط ،وهو ما ذهب إليه المشرع الجزائري المادة 41 ق .أ.ج :" ينسب الولد لأبيه متى كان الزواج شرعيا و أمكن الاتصال ولم ينفه بالطرق المشروعة"-و في ما يلي بيان ذلك :
1. أن يكون الاتصال ممكنا : بمعنى إمكانية حدوث التلاقي بين الزوجين فعلا، بأن لا يكون هو مقيم في دولة وإقامتها هي في دولة أخرى تجعل التقاءهما مستبعد لبعد المسافات بينهما، ومثله صغر سنهما. ومن ثم فقد ذهب جمهور الفقهاء إلى اعتبار الدخول الحقيقي الممكن هو دليل الزوجية أو كما عبروا عنه بالفراش الذي يثبت به النسب. وهو شرط عند الجمهور وعبروا عنه بإمكان الوطء وخالف أبو حنيفة حيث يثبت النسب عنده بمجرد العقد .
2 .أن لا ينفه بالطرق المشروعة: وعليه نص المشرع الجزائري (م41)والمقصود هنا اللعان ومن ثم فإن الولد لا ينتفي نسبه عن الزوج إلا بحكم القاضي ،مع ملاحظة أن اللعان كما يكون في نفي الولد يكون في الرمي بالزنا ،وهو وسيلة يدرأ بها الزوجان عن نفسيهما الحد المقرر شرعا في مواجهة تلك الجريمة،وصورته: شهادات تجري بين الزوجين مؤكدة بالأيمان مقرونة باللعن من جانب الزوج وبالغضب من جانب الزوجة - قوله تعالى : "والذين يرمون أزواجهم ولم يكن لهم شهداء إلا أنفسهم فشهادة أحدهم أربع شهادات بالله إنه لمن الصادقين *والخامسة أن لعنة الله عليه إن كان من الكاذبين * ويدرأ عنها العذاب أن تشهد أربع شهادات بالله إنه لمن الكاذبين * والخامسة أن غضب الله عليها إن كان من الصادقين *" سورة النور : 6 – 9
وقد نقضت المحكمة العليا حكما بنفي النسب عن الولد لأنه جاء لفراش الزوجية وأن الزوج لم ينفه بالطرق المشروعة ويعني بها هنا اللعان :"إذ من المستقر قضاء أنه يمكن نفي النسب عن طريق اللعان في أجل محدد لا يتجاوز ثمانية أيام من يوم العلم بالحمل ".
3.أن يأتي للمدة المحددة التي يتصور منها مجيء الولد فلا يكون لأقل مدة وهي ستة أشهر من يوم إمكان الاتصال ولا لأكثرها وهي عشرة أشهر من الانفصال .
وتجدر الإشارة إلى أن المقصود بقيام الزوجية حقيقة يعني في ظل العقد الصحيح وحكما يعني أثناء العدة ؛ مع ملاحظة أن العقد الصحيح ليس وحده سببا لثبوت النسب ودليل فراش بل ألحق به العقد الفاسد وهو ما تخلف فيه شرط مختلف في فساده ، والعقد الباطل ما تخلف فيه شرط متفق على فساده ، وهو ما عبر عنه المشرع الجزائري ": بكل زواج تم فسخه بعد الدخول طبقا للمواد 32-33-34 "وهي المواد التي تناولت الزواج الفاسد ،والزواج الباطل في المادة 40 ق .أ.ج
فحكمه وجوب الفسخ إلا أن النسب يثبت للولد الذي يأتي ثمرة الاتصال في ظل ذلك العقد رعاية من الشارع لحق الولد في النسب . ويلحق به أيضا ما كان نتيجة الوطء بشبهة،ويعني به دخول الشخص على امرأة لا تحل له أصلا من غير علم ، معتقدا أنها حليلته ثم يتبين الأمر على غير ذلك. فهذا فعل درأ الحد به عن صاحبه فيثبت به النسب.
.وقد جاء في 34 ق .أ.ج أن :"كل زواج بالمحرمات يفسخ قبل الدخول وبعده ويثبت به النسب والاستبراء ".ومن ثم فهو زواج باطل أثبت به المشرع النسب ؛لكن ذلك يدفعنا إلى التساؤل عن نية الزوجين هنا هل يعلمان بالحرمة أم لا؟ فإن لم يكونا عالمين، فثبوت النسب لا يثير أي إشكال وهو من قبيل الوطء بشبهة بل هو أسلم، أما وأن يكونا عالمين بالحرمة فلا أرى عنهم اختلافا عن جريمة الزنا، ومن ثم فعموم النص هنا يحتاج إلى توضيح وضبط حتى لا نفتح بابا للتذرع بالعقد الباطل ونحل ما كان حراما ونثبت ما نفاه الشرع .
ثانيا –الإقرار:
وهو على ضربين : حمل النسب على النفس ويكون بأبوة أو ببنوة ،وإقرار يحمله المقر علي غيره وهو ما عدا الإقرار بالبنوة والأبوة كالإقرار بالأخوة ، والعمومة .
أما الإقرار على النفس أو ما يعرف بالاستلحاق ، فيعني ادعاء المدعي بأنه أب لغيره وهو حجة على المقر ويثبت به النسب،و إن كان من المرأة فقد جاء في المغني أن إقرار المرأة بالنسب لا يلحق الولد إلا إذا انتفى الضرر ويكون ذلك بأحد الأمور التالية: فإما أن تكون ذات زوج فإن إقرارها بالولد فإما أن يقره الزوج فينسب لأبيه أو لا يقر به، وهذا يعني أنها إما أتت به لزواج سابق فتحتاج إلى بينة أو أنه كان نتيجة وطء بشبهة فتحتاج إلى بينة أيضا فينسب للواطئ، أولا تكون لها فينسب لها ؛وفي ذلك ضرر بإخوتها لما يلحقهم من العار بإلحاق النسب لهم . ويرى غير الحنابلة من الفقهاء أن يؤخذ بقول المرأة في الإقرار بالنسب مطلقا سواء كانت متزوجة أم لا سواء صدقها الزوج أم لا لأن الإقرار حجة ،وهي أحد الوالدين وأن الأصل الاحتياط في إثبات النسب فلا بد من إلحاقه خشية ضياعه
و ذهب فريق من الفقهاء إلى القول بعدم صحة إقرار المرأة مطلقا سواء كانت متزوجة أم غير متزوجة
ومن ثم كان اختلاف الفقهاء في الأخذ بإقرار المرأة و إن اتفقوا على أن انتفاء الضرر لا يمنع ذلك.هذا و المشرع الجزائري على الأخذ بقول المرأة بالإقرار فقد جاء في نص م44 :" يثبت النسب بالبنوة أو الأبوة أو الأمومة ، لمجهول النسب و لو في مرض الموت متى صدقه العقل والعادة".
هذا و ثبوت النسب بالاستلحاق له شروط لا يثبت إلا بتحققها وهي:
1. أن يكون مجهول النسب : ذلك أن معلوم النسب لا يصح استلحاقه ولا يسمع لدعوى مدعي الأبوة لأن النسب قد تأكد ثبوته وهو مما لا يقبل الفسخ، ولا يلحقه الإبطال بأي حال من الأحوال.
2. أن لا ينافي العقل والعادة،بأن يكون المقر له بالنسب ممن يمكن ثبوت نسبه من المقر، وذلك بأن يولد من مثله لمثله، فلو أقر من عمره عشرون ببنوة من عمره خمسة عشر لم يقبل إقراره ، لاستحالة ذلك عادة ،مع وجوب أن يكون المقر بالنسب بالغاً عاقلاً فلا يصح إقرار الصغير ولا المجنون لانعدام الأهلية .
3. لأن الإقرار حجة قاصرة فإنه يلزم عنه تصديق المقر له،و المقر له في هذه الحالة إما أن يكون مميزا فيلزم عنه التصديق أو يكون غير مميز فلا يصح منه، لانعدام الأهلية وعليه سار اجتهاد الفقهاء. فإن لم يكن أهلا لذلك أو سكت عن التصديق وقت الإقرار فله أن يقر فيما بعد، ولا تحديد لوقت الإقرار فمتى بلغ أو بدا له تصديق المقر نفذ ذلك ولو بعد وفاة المقر، وإليه ذهب الجمهور؛ أما المالكية فلا يشترطون تصديق المقر له لأن النسب حق للولد على الأب فثبت بإقراره دون توقف على تصديق من الابن .
4. أن لا يصرح المقر بأن المقر له ولده من الزنا ، فإن صرح لم يثبت لأن ولد الزنا لا يثبت نسبه من أبيه بل من أمه لحديث النبي صلى الله عليه وسلم :"الولد للفراش و للعاهر الحجر".
و النوع الثاني من الإقرار :هو تحميل النسب على الغير كإقرار بأخوة أو بعمومة فيشترط فيه بالإضافة إلى ما سبق من الشروط : أن يصدقه المقر عليه ، الأب عند الإقرار بالأخوة و الجد عند الإقرار بالعمومة (م45 ق أج) مع إقامة البينة على ذلك.
ثالثا- البينة :
و يقصد هنا الحجة وإذا أطلقت انصرفت شهادة العدل الفرد أو العدد يقول ابن القيم :"البينة في كلام الله ورسوله وكلام الصحابة اسم لكل ما يبين الحق فهي أعم من البينة في اصطلاح الفقهاء حيث خصوها بالشاهدين أو الشاهد واليمين ولا حجر في الاصطلاح ما لم يتضمن حمل كلام الله ورسوله عليه ".
و يفهم من كلام ابن القيم أن البينة لا تنحصر في شهادة الشهود بقدر ما تشمل كل ما يصح أن يقيم الحجة على الدعوى.وتكون البينة عند التنازع بين المقرين بالنسب و حال إنكار المقر عليه بالنسب سواء كان الإقرار بحمل النسب على النفس إذا كان المقر له بالغا، أو كان حمل نسب على الغير وتعذر تصديق المقر عليه بالنسب لوفاة مثلا .
و البينة أقوى دلالة من الإقرار ذلك أن الإقرار يحتاج إلى تصديق المقر له بينما الشهادة تثبت الواقعة لقوة حجيتها دون أن يحتاج إلى تصديق المدعى عليه ، وقد حصر الفقهاء البينة في شهادة عدول وهي في النسب شهادة عدلين .
وذهب المشرع الجزائري إلى اعتبار شهادة رجل وامرأتين في قضايا النسب .
الفرع الثاني : الطرق المختلف في اعتبارها في ثبوت النسب .
وقد اختلف الفقهاء في اعتبار القيافة والقرعة كطرق لإثبات النسب و بيان ذلك كما يلي:
أولا – القيافة:
و هي لغة تتبع الآثار لمعرفة أصحابها ، والقائف : من يتبع الأثر ويعرف صاحبه ، وجمعه قافه والقائف في الاصطلاح الشرعي : هو الذي يعرف النسب بفراسته ونظره إلى أعضاء المولود .
وقد اختلف الفقهاء في اعتبارها طريقا لثبوت النسب ، فقال بالقافة من فقهاء الأمصار مالك والشافعي وأحمد وأبو ثور والأوزاعي وأبى الحكم ،ومثلوا له كما إذا ادعى رجلان ولدا و لم يكن لأحدهما فراش مثل أن يكون لقيطا أو كانت المرأة الواحدة لكل واحد منهما فراشا كالوطء في العدة، واحتج القائلون بالقافة بحديث ابن شهاب عن عروة عن عائشة قالت دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم مسرورا تبرق أسارير وجهه فقال:" ألم تسمعي ما قال محرز المدلجي لزيد وأسامة ورأى أقدامهما فقال إن هذه الأقدام بعضها من بعض" قالوا وهذا مروي عن ابن عباس وعن أنس بن مالك ولا مخالف لهم من الصحابة .وأما الحنفية فقالوا الأصل أن لا يحكم لأحد المتنازعين في الولد إلا أن يكون هنالك فراش لقوله عليه الصلاة والسلام:" الولد للفراش" فإذا عدم بالحق أو اشتركا للفراش كان ذلك بينهما وكأنهم رأوا ذلك بنوة شرعية لا طبيعية، فإنه ليس يلزم من قال إنه لا يمكن أن يكون ابن واحد عن أبوين بالعقل أن لا يجوز وقوع ذلك في الشرع وروي مثل قولهم عن عمر ورواه عبد الرازق عن علي .
والذين قالوا بحجية القيافة في إثبات النسب اشترطوا لذلك شروطا منها أن لا تقبل إلا من رجلين و هو قول الشافعي، أما الإمام مالك فذهب إلى قبول قول واحد ، وسبب الخلاف هل القيافة حكم أم شهادة؟ فمن قال بأن القائف حكم اكتفى بقول الواحد ومن رأى بأنها شهادة اشترط العدد.
هذا وقد أشترط الجمهور لاعتبار قول القائف ، والحكم به في إثبات النسب عدة شروط من أهمها :
- أن يكون القائف مسلماً مكلفاً،عدلاً،ذكراً، سميعا، بصيراً عارفاً بالقيافة مجرباً في الإصابة .
- أن لا يخالف من هو أقوى دلالة فإن ثبت النسب بالفراش لم يرجع إلى قول القائف،والنبي صلى الله عليه وسلم ألحق الولد عندما ادعى رجل أن الذي ولدته زوجته أسود بينما الزوجين كانا ابيضا البشرة وقال له :" هل لك من إبل قال: نعم، قال: فما ألوانها ؟قال: حمر، قال :فهل فيها من أورق؟ قال: نعم ،إن فيها لورقا ،قال: فأنى لها ذلك ؟قال: عسى أن يكون نزعه عرق، قال: وهذا عسى أن يكون نزعه عرق ". يقول ابن القيم :" قيل إنما لم يعتبر الشبه هاهنا لوجود بالحق الذي هو أقوى منه كما في حديث ابن أمة زمعة ولا يدل ذلك أنه لا يعتبر مطلقا بل في الحديث ما يدل على اعتبار الشبه فإنه -صلى الله عليه وسلم- أحال على نوع آخر من الشبه وهو نزع العرق وهذا الشبه أولى لقوته بالفراش .
-أن لا يختلف القافة في إلحاق مجهول النسب ،فإذا تباينت أقوالهم لا يِؤخذ بقول كل منهما ،فأما إن ألحقته القافة بواحد ثم جاءت قافة أخرى فألحقته بآخر كان لاحقا بالأول، لأن قول القائف جرى مجرى حكم الحاكم ،ومتى حكم الحاكم حكما لم ينتقض بمخالفة غيره له ،وكذلك إن ألحقته بواحد ثم عادت فألحقته بغيره ، فإن أقام الآخر بينة أنه ولده حكم له به وسقط قول القائف ،لأنه بدل فيسقط وجود الأصل، كالتيمم مع الماء .ولو ادعى نسب اللقيط إنسان فألحق نسبه به لانفراده بالدعوى، ثم جاء آخر فادعاه، لم يزل نسبه عن الأول لأنه حكم له به فلا يزول بمجرد الدعوى. فإن ألحقته به القافة لحق به وانقطع عن الأول لأنها بينة في إلحاق النسب ويزول بها الحكم الثابت بمجرد الدعوى كالشهادة .
ثانيا –القرعة:
وذلك عند التنازع على طفل ولا بينة لأحدهم فيجرى القرعة وهي في أولاد الإماء.عن زيد بن أرقم قال أتي أمير المؤمنين علي رضي الله عنه وهو ظاهرا في ثلاثة وقعوا على امرأة في طهر واحد فسأل اثنين فقال: أتقران لهذا بالولد ؟قالا :لا ،ثم سأل اثنين: أتقران لهذا بالولد ؟قالا :لا، فجعل كلما سأل اثنين أتقران لهذا بالولد قالا لا فأقرع بينهم فألحق الولد بالذي أقرع له وجعل عليه ثلثي الدية فذكر ذلك للنبي صلى الله عليه وآله وسلم فضحك حتى بدت نواجذه". رواه الخمسة إلا الترمذي ورواه النسائي وأبو داود موقوفا على علي بإسناد أجود من إسناد المرفوع ..... وقد أخذ بالقرعة مطلقا مالك والشافعي وأحمد والجمهور حكى ذلك عنهم ابن رسلان
هذا والقرعة أضعف الطرق في اعتماد الفقهاء عليها في إثبات النسب ؛ إنما يلجأ إليها إذا انعدم المرجح بين الأدلة السابقة كالبينة والإقرار والقيافة في ذلك يقول ابن القيم :"قد تستعمل في فقدان مرجح سواها من بينة أو إقرار أو قافة، وليس ببعيد تعيين المستحق بالقرعة في هذه الحال إذ هي غاية المقدور عليه ترجيح الدعوى ،ولها دخول في دعوى الأملاك المرسلة التي لا تثبت بقرينة ولا أمارة ،فدخولها في النسب الذي يثبت بمجرد الشبه الخفي المستند إلى قول القائف أولى وأحرى .
مما سبق يتبين أن طرق ثبوت النسب وإن تعددت إلا أنها تعود كلها إلى قاعدة الاحتياط فيه وأن أقوى طريق هو ما كان راجعا إلى الفراش أو شبه الفراش أما ما يأتي بعدها من طرق إنما يبني على الطريق الأول فكل من البينة والإقرار وحتى القيافة أو القرعة لا تثبت النسب إذا عدم الفراش أو ما يلحق به،فلا نسب لابن الزنا لأنه من ماء سفاح وهو ماء مهدور شرعا .
المبحث الثاني : البصمة الوراثية ومدى حجيتها في إثبات النسب.
وفي هذا المبحث سنتناول أمرين، الأول في طبيعة البصمة الوراثية، والثاني في اعتبار حجيتها في ثبوت النسب.
المطلب الأول : مفهوم البصمة الوراثية.
وفيه التعريف اللغوي والعلمي للبصمة الوراثية وكذا اكتشافها ومجالات استعمالها .
الفرع الأول :تعريف البصمة الوراثية.
فالبصمة لغة : مشتقة من البُصم وهو فوت ما بين طرف الخنصر إلى طرف البنصر وبَصَمَ بصماً إذا ختم بطرف إصبعه ، والبصمة أثر الختم بالإصبع .
والبصمة عند الإطلاق ينصرف مدلولها إلى بصمات الأصابع ،وهي : خطوط البشرة الطبيعية على باطن اليدين والقدمين و تتكون البصمات عندما توضع هذه الخطوط على حامل الأثر(أشياء غير خشنة وأسطح لامعة).
و البصمة الوراثية أو الجينية هي :أصل كل العلامات الوراثية الموجودة بالجنين منذ بداية نشأته و تكوينه و هي التي تحدد نوع فصيلة دم الجنين و نوع بروتينه و أنزيماته وشكل بصمات الأصابع و لون البشرة كما تتحكم في وظائف جميع الخلايا صحة وعلة .
وقد عرفها المجمع الفقهي بمكة بالتعريف التالي:"البصمة الوراثية هي البنية الجينية نسبة إلى الجنيات أي المورثات التي تدل على هوية كل إنسان بعينه"
فإذا علمنا أن كل خلية في الجسم ما عدا خلايا الدم الحمراء,فيها نواة تحمل 46 صبغياً (كروموسوم) وتتكون الصبغيات من خيطين لولبيين من الحمض النووي (دنا )DNA) (Deoxyribo nuclic acid) وهي بدورها تحمل الجينات التي تتحكم في الصفات الظاهرية كلون العين والشعر والجلد والطول بل هي مسئولة أيضا عن تخليق البروتينات المكونة لجسم الإنسان والتي تتحكم أيضا في عملياته الحيوية.كما توجد تلك الصبغيات في الخلايا الجنسية؛ الحيوان المنوي في الذكر والبويضة في الأنثى –و تحوي نصف هذا العدد من الصبغيات – .
فالحيوان المنوي يحتوي على 22 صبغيا جسدياً وصبغيًا واحدًا جنسيًا وهو إما صبغي x أو y, أما البويضة فتحوي 22 صبغيا جسديًا وصبغيًا جنسيًا x ويتكون الكائن الحي من اتحاد الحيوان المنوي الذكري مع البويضة الأنثوية لتكوين الزيجوت الذي يحوي 46 صبغيا, وكل صبغي جسدي متماثل في شكله وكذلك في نوع الجينات التي يحملها. أي أن كل خلية تحوي نسختين من كل جين, نسخة على كل صبغي من الصبغيين المتماثلين وكل نسخة تسمى «أليل» .
وعليه فإن البصمة الوراثية يمكن استخدامها في التحقق من البنوة حيث لا بد من تطابق ألائل الطفل مع ألائل الأب والأم إذ إن نمط الـ (دنا (لا جنسي) في الحيوان المنوي له ما يماثله في البويضة؛ أي أن الزيجوت يحتوي على 22 زوجا من الصبغيات الجسدية المتماثلة وصبغي x وy في الذكر أو x و x في الأنثى وكل زوج من الصبغيات الجسدية) للطفل هو مركب مشترك من نمط (دنا) الأم ونمط (دنا) الأب, ولا بد أن يكون في الأب الحقيقي ما يماثل ألائل الطفل
هذا وتحليل البصمة الوراثية غير تحليل فصائل الدم فبينما تكون نتائج البصمة الوراثية 99،99بالمئة في ثبوت النسب و100 بالمئة في نفيه لا تحقق تحليل فصائل الدم إلا جانب النفي دون الإثبات
الفرع الثاني :اكتشاف البصمة الوراثية ومجالات استعمالها.
لم تُعرَف البصمة الوراثية حتى عام 1984 حينما نشر د. "آليك جيفريز" عالم الوراثة بجامعة "ليستر" بلندن بحثًا أوضح فيه أن المادة الوراثية قد تتكرر عدة مرات، وتعيد نفسها في تتابعات عشوائية غير مفهومة.. وواصل أبحاثه حتى توصل بعد عام واحد إلى أن هذه التتابعات مميِّزة لكل فرد، ولا يمكن أن تتشابه بين اثنين إلا في حالات التوائم المتماثلة فقط؛ بل إن احتمال تشابه بصمتين وراثيتين بين شخص وآخر هو واحد في الترليون، مما يجعل التشابه مستحيلاً؛ لأن سكان الأرض لا يتعدون المليارات الستة، وسجل الدكتور "آليك" براءة اكتشافه عام 1985، وأطلق على هذه التتابعات اسم "البصمة الوراثية للإنسان" The DNA Fingerprint ، وعرفت على أنها "وسيلة من وسائل التعرف على الشخص عن طريق مقارنة مقاطع "(DNA)"، وتُسمَّى في بعض الأحيان الطبعة الوراثية "DNA typing"
وعليه فإن كل إنسان له صفاته التي حملها عند تكوينه تميزه عن غيره من البشر ومنه كانت البصمة الوراثية وسيلة إثبات هوية الأشخاص .هذا و يتميز الحمض النووي (البصمة الوراثية) بأنه دليل إثبات ونفي قاطع بنسبة مائة بالمائة إذا تم تحليل الحمض بطريقة سليمة، حيث إن احتمال التشابه بين البشر في الحمض النووي غير وارد ؛ومن الميزات الهامة أن بصمة الحمض النووي تظهر على شكل خطوط عرضية تسهل قراءتها والتعرف عليها وحفظها وتخزينها في الكمبيوتر للمقارنة عند الحاجة إلى ذلك، بعكس بصمات الأصابع التي لا يمكن حفظها في الكمبيوتر لفترات طويلة.
لذا فقدتم استعمال البصمة الوراثية في الأبحاث الجنائية كما في قضايا النسب لما تتميز به من دقة في النفي أو الثبوت ،وهي قرينة قوية في التعرف على الجناة ،فقد تعدت الاكتشافات الطبية الحديثة معرفة هذه الخاصية من جسم الإنسان إلى اعتماد البصمة الوراثية عن طريق أجزاء كثيرة من جسم الإنسان من لعاب أو شعر أو مني أو بول أو عظم أو غير ذلك.
هذا و كل خلية من خلايا جسم الإنسان تحمل في نواتها ما يسمى بالحمض النووي D.N.Aوهو عبارة عن بروتين يحمل مورثات أو جينات لها مواصفات تختلف من شخص لآخر وتبقى ثابتة مدى الحياة حتى بعد تحلل الجثة بعد الموت . لذلك صار الدليل الأوحد للكشف عن هوية الأشخاص بدقة متناهية سواء كانوا من المجرمين أو الضحايا في الأعمال الجنائية و التحقق من شخصيات المتهربين من عقوبات الجرائم ، و في إثبات أو نفي الجرائم، وذلك بالاستدلال بما خلفه الجاني في مسرح الجريمة،من أي خلية تدل على هويته كما هو الحال في دعاوى الاغتصاب والزنا والقتل والسرقة وخطف الأولاد.وللتأكد من صحة نسب الأبناء في قضايا الفصل في تنازع البنوة في حالات إنكار الشخص أبوته لطفل غير شرعي نتيجة الاغتصاب أو الزنا، أو ادعاء امرأة بأن طفلا لها يخص شخصا معينا لإجباره على الزواج منها، أو طمعا في ميراث، وفي قضايا تبادل المواليد في المستشفيات خطأ أو عمداً، فتأتي مهمة الطب الشرعي في تحديد النتائج الصحيحة والأشخاص الحقيقيين في مختلف هذه القضايا.
ويمكن تطبيق هذه التقنية والاستفادة منها في المجالات تحديد الشخصية أو نفيها مثل عودة الأسرى والمفقودين بعد غيبة طويلة وتحديد شخصية الأفراد في حالة الجثث المشوهة من الحروب والحوادث
لكن إلى أي مدى يمكن اعتبار البصمة الوراثية دليلا شرعيا لثبوت النسب في الفقه الإسلامي ؟
المطلب الثاني:حجية البصمة الوراثية في الثبوت الشرعي للنسب .
وفيه موقف العلماء المعاصرين من البصمة الوراثية في ثبوت النسب وشروط اعتبارها .
الفرع الأول: موقف العلماء من البصمة الوراثية.
لأن النسب له خطورته على الفرد والمجتمع فإنه يثبت كما سبقت الإشارة إليه بمجرد قيام الزوجية المعتبرة شرعا وما يقوم في حكمها، لذا نجد الفقهاء قديما وحديثا لا يجيزون سماع دعوى ثبوت النسب إلا في حال التنازع على مجهولي النسب ،أما ما أثبته فراش الزوجية فلا يحتاج إلى إثبات ولا ينتفي إلا بالطرق المشروعة ونعني به اللعان.
ومن ثم فظهور البصمة الوراثية كأداة يتحقق بها من علاقة الولادة بين الأبناء والآباء بنسبة أقرب لليقين جعل الفقهاء المعاصرون يختلفون في تصنيفها كدليل يقوم بذاته أو قرينة تؤيد المعلوم من القواعد المعروفة شرعا .
بداية يلاحظ أنه قد تلا ظهور البصمة الوراثية ، انعقاد ندوات ملتقيات تبحث في الحد الذي يمكن الوقوف عنده في اعتمادها في ثبوت النسب ، مع العلم أن اعتمادها في الأبحاث الجنائية كان محل اتفاق بين الفقهاء كما اتفقوا على شروطها، لكن في ثبوت النسب لوحظ تباين في آرائهم واجتهاداتهم خاصة فيما يتعلق بتكييف البصمة الوراثية مع قيام القواعد التي سار عليها الاجتهاد قديما وحديثا ،بين من اعتبرها قاعدة مستقلة ومن اكتفى بجعلها قرينة ،ومن قاسها على القيافة و ضيق بالتالي من مجال الأخذ بها في ثبوت النسب .
أولا- المؤيدون لاستعمال البصمة في إثبات النسب مطلقا :يرى هؤلاء أن البصمة الوراثية قد أثبت العلم دقة صحتها و انتفاء الخطأ عنها ،اللهم إلا مكان سببه بشري وهو أمر سهل الاحتياط فيه ،فدعوا إلى اعتمادها وإلزام إجراء التحليل الجيني حتى في غير مجال التنازع واقترحوا على الجهات المعنية بتسجيل المواليد، وجوب إرفاق طالب التسجيل، شهادة تثبت صحة البنوة بأن تكون بصمة الطفل مطابقة لبصمة الأبوين اللذين ثبتت علاقتهما الشرعية في وثيقة الزواج.، وهذا الأمر يستوجب باليقين أن تسجل البصمة الوراثية لكل من الزوجين بمجرد العقد وقبل الدخول، وتقارن تلك البصمة الخاصة بالزوجين معًا بقسيمة الزواج الرسمية، حتى إذا ما رزقهما الله بمولود توجّها لتسجيل اسمه مع بصمته الوراثية التي يجب أن تتطابق مع بصمة والديه الثابتة على قسيمة الزواج.و عللوا ذلك بأن فيه مصلحة ودفع مفاسد كثيرة واستند هذا الرأي إلى ما يلي:
إذا كان الفقهاء قد نصوا على استحباب اتخاذ السجلات لقيد الحقوق والأحكام، ونص بعضهم على وجوب ذلك إذا تعلق بحق ناقص الأهلية أو عديمها، فمن الضروري استصدار قرار إداري بمنع استخراج شهادة بقيد ميلاد طفل إلا بعد إجراء "البصمة الوراثية" لترفق وتلصق بتلك الشهادة، على أن في مثل هذا القرار مسايرة للعصر وأخذًا بالحقائق العلمية، وله نتائج اجتماعية عظيمة؛ حيث سيضيق الخناق على المنحرفين والمزورين وهو أقل حق يمنح لطفل القرن الحادي والعشرين الميلادي، الخامس عشر الهجري، الذي ولد في ظل الثورة المعلوماتية.
هذا من جهة ومن جهة أخرى فإنه وإن اتفق الفقهاء على أن الفراش سبب في ثبوت النسب إلا أن إثبات العلاقة بالفراش أمر يستحيل إثباته قطعا لما لها من خصوصية والقائمة على الستر؛ حيث حذّر النبي –صلى الله عليه وسلم- من إفشاء تلك العلاقة فقال: "إن شر الناس عند الله منزلة يوم القيامة الرجل يفضي إلى امرأته وتفضي إليه ثم ينشر سرها".ولذلك نسب الرسول -صلى الله عليه وسلم- الولد لصاحب الفراش، والفراش هو الجماع، والله تعالى يقول: "وَحَلاَئِلُ أَبْنَائِكُمُ الَّذِينَ مِنْ أَصْلاَبِكُمْ" [سورة النساء: الآية 23]
و هذا الذي حمل الفقهاء على التوجّه إلى إثبات الفراش الحقيقي عن طريق مظنته بقيام حالة الزوجية وفي مثل هذه الحال هو قيام حالة الزوجية بالعقد كما ذهب الحنفية، أو بالدخول كما ذهب الجمهور،لذلك رأينا الفقهاء يطلقون على هذه الحالة "دليل الفراش"، فجعلوا مظنة الفراش فراشًا، وشاع هذا الاصطلاح -عند الفقهاء- بالفراش دليلاً للنسب، والحقيقة أنهم يقصدون في الواقع مظنة الفراش وليس الفراش، كما صرح بذلك الشيرازي، وقال: "إن أتت المرأة بولد يمكن أن يكون منه (أي الزوج) لحقه في الظاهر، لأنه مع وجود هذه الشروط (قيام الزوجية واجتماع الزوجين وهما ممن يولد لمثلهما) يمكن أن يكون الولد منه، وليس هنا ما يعارضه ولا ما يسقطه، فوجب أن يلحق به".
والبصمة الوراثية قطعية في إثبات الصفات الوراثية ومن ثم صحة البنوة والأبوة دون ما إخلال بسمة الستر التي تميز العلاقة الزوجية التي يأتي على إثرها الولد و دون ما تشكّك في ذمم الشهود أو المقرين أو القافة؛ لأن الأمر يرجع إلى كشف آلي مطبوع مسجل عليه صورة واقعية حقيقية للصفات الوراثية للإنسان، والتي تتطابق في نصفها مع الأم الحقيقية، ونصفها الآخر مع الأب الطبيعي،و اعتبر هذا الرأي أن هذه أدلة الظنية وليست تعبدية حتى يتحرج من استعمالها في مقابل قطعية البصمة الوراثية في ثبوت النسب، إذ أن استعمالها ضرورة لا غنى عنه إلا إذا لم تتيسر الإمكانات لتعميم البصمة الوراثية فليس أمامنا بدّ من الاستمرار في تلك الوسائل الشرعية المعروفة.
وصدق الله –تعالى- حيث يقول: "سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الآفَاقِ وَفِي أَنفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ * أَلا إِنَّهُمْ فِي مِرْيَةٍ مِّن لِّقَاء رَبِّهِمْ أَلا إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ مُّحِيطٌ" [سورة فصلت: الآيتان 53، 54]. وبناء عليه ذهب علماء من الأزهر نذكر منهم: الدكتور محمد رأفت عثمان عضو مجمع البحوث الإسلامية و الدكتور عبد المعطي بيومي عضو مجمع البحوث الإسلامية بالأزهر إلى أنها تيسر التحقق من نسب ولد الزنا و أن القول بأن: ماء الزنا هدر -أي ما ينتج عنه غير معترف به- فيه تجاهل لمصالح المسلمين، وما قام الشرع إلا لتحقيق هذه المصالح.
وأكد الدكتور بيومي أن إثبات النسب بالبصمة الوراثية، خاصة لولد الزنا سيؤدي إلى التقليل من جرائم الزنا؛ لأن الزاني إذا أدرك أنه سيتحمل عاقبة جريمته فسيفكر ألف مرة قبل ارتكاب الفاحشة، وكذلك الحال بالنسبة للمرأة.
واتفق الدكتور محمد رأفت عثمان عضو المجمع البحوث الإسلامية أيضا على ضرورة الأخذ بتحليل البصمة الوراثية لإثبات ولد الزنا لأبيه، إلا أنه يفرق بين حالة المرأة المتزوجة التي زنت، والمرأة غير المتزوجة.وأوضح أن طريقة إثبات الشرع للنسب تختلف عن نظرته لإقامة حد الزنا، ففي الأولى يتم إثباتها بأدنى دليل، أما في الحالة الثانية فيسقط الحد بوجود أي شبهة.
وقال: إنه يجوز أن ينسب ولد الزنا من المرأة غير المتزوجة إلى الزاني، حيث قال بذلك مجموعة من كبار الفقهاء منهم ابن تيمية وابن القيم، أما إذا كان ولد الزنا من امرأة متزوجة فلا يجوز بإجماع العلماء أن يدعيه الزاني، ويطالب بإلحاق نسبه به للقاعدة التي بينها رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهي قوله الشريف: "الولد للفراش وللعاهر الحجر".
وعليه ذهبوا إلى اعتبار البصمة الوراثية سببا في ثبوت النسب للوالد وإن كان ابن زنى فقدم على دليل الفراش و إن حصر في حالة زنى غير المتزوجة فيرى هؤلاء جواز الاستعانة به، معتبرين أنه سيقلل من جرائم الزنا. وإعادة النظر في تنسيب ابن الزنا للفاعل بناء على تفسير حديث "الولد للفراش" على حقيقته وليس على مظنته ، وقياسا على وطء الشبهة ، وعملا بتكملة الحديث "واحتجبي منه يا سودة" لما رأى الشبه بينا بعتبة بن أبى وقاص ، ولعدم وجود دليل شرعي يمنع من هذا التنسيب الذى ذهب إليه بعض المالكية وبه قال الحسن وابن سيرين والنخعى وإسحاق وعروة وسليمان بن يسار كما ذهب إليه الحنفية بشرط الزواج منها إن كانت خلية ( بدون زوج ) .
ولأن أكثر الفقهاء يرخصون فى استلحاق مجهول النسب دون استفصال طالب الإلحاق شريطة أن يكون ذلك ممكنا عقلا . وأخذا بروح النص فى قوله تعالى :[ادعوهم لآبائهم هو أقسط عند الله فإن لم تعلموا آبائهم فإخوانكم فى الدين ومواليكم وليس عليكم جناح فيما أخطأتم به ولكن ما تعمدت قلوبكم وكان الله غفورا رحيماً ] الأحزاب الآية 5 .حيث نفى الله الإثم لمصلحة الأطفال عند عدم تعمد الخطأ فى تنسيبهم.
وإذا ما أخذنا بهذا التوجه حققنا فوائد كثيرة منها :
1. الإستفادة بنعمة الله تعالى فى ظهور البصمة الوراثية كآية من آيات الله فى الإنسان ، التى تحقق الهوية الشخصية بصفاتها الذاتية والمرجعية.
2. إنقاذ المتشردين من أطفال المسلمين وتقليل ظاهرة إلقاء المولودين على أعتاب المساجد أو بجوار صناديق القمامة.
3. تحميل المتسبب مسئولية التربية والإنفاق إعمالا للقاعدة الشرعية " الغرم بالغنم ".
وبناءا عليه فلا مانع من الأخذ بالبصمة الوراثية بدل امن "اللعان" لإثبات جريمة الزنا أو نفيها عن الزوجة لدى اتهام الزوج لها وعدم اعترافه بالأبناء،يقول د.بيومي في : "إن الأخذ بالوسائل العلمية -خاصة تحليل الـDNA بوصفها شهادة- قاطع للنزاع ومنصف للأبناء، ومحقق لمصلحتهم، وواضع للعدالة موضعها الصحيح -حيث يردع المتطاولين على الشرف- وحفظ الأنساب"، مؤكدا أن الأخذ بهذا التحليل أمر ضروري لأن "الأيمان التي يحلف بها الزوجان في اللعان كانت رادعة للناس في عصور كان الخوف فيها من الله يردع الناس عن ارتكاب المظالم وظلم النساء والأولاد، أما اليوم أصبح لا يعبأ الكثيرون بحدود الله ولا بالأيمان الغموس".
ثانيا- من يرى التقيد في الأخذ بالبصمة الوراثية في اثبات النسب و قد رأى فريق أخر من العلماء أن ما ذهب إليه الفريق الأول فيه توسع في الأخذ بالبصمة الوراثية في ثبوت النسب والقول بوجوب التحليل الجيني للزوجين قبل الزواج أمر فيه مشقة على الناس وإن كان فيه معنى الاحتياط لذا نجد من الفقهاء من يرى بأن أخذ بصمة الزوجين قبل الزواج وتسجيلها في الدوائر الحكومية،يعود إلى حرية الاختيار للزوجين ليس على سبيل الإلزام ولا يجوز إجبار الناس عليه. وأن الدعوة لتسجيل بصمة الوالدين ينافي ما قرره الشرع من مبدأ الستر.
أما القول بتقديم البصمة على دليل الفراش، قول فيه تجاوز لما سار عليه الاجتهاد و ما دلت عليه النصوص وإن حقق مصالح ظاهرة كتلك التي عدوها فإن في الأمر تشجيع على فعل الزنا لا تقليل منه و إليه ذهب الدكتور يوسف القرضاوي رئيس الاتحاد العالمي لعلماء المسلمين فقال:"إن البصمة الوراثية لا يثبت بها النسب في حالة الزنا؛ وذلك لأن الشرع وإن كان يتشوف لإثبات النسب، فإنه في ذات الوقت يرى أن الستر مقصد هام تقوم عليه الحياة الاجتماعية؛ لئلا تشيع الفاحشة في الذين آمنوا، ودليله ما قاله النبي صلى الله عليه وسلم لمن دفع ماعز بن مالك من الإقرار بالزنا "هلا سترته بطرف ثوبك".وهذا مبني على أن الشرع يقر بأن "الولد للفراش"، فالأصل في إثبات النسب هو فراش الزوجية، كما أن الشرع تشدد في جريمة الزنا، واشترط لها أربعة شهود، فكل وسيلة غير شهود الأربعة بقيام رجل وامرأة بعملية الزنا الحقيقي، فلا قيمة له، ولا يتم به نفي نسب.و الشرع لا يعاقب على جريمة الزنا وإنما يعاقب على الاستهتار والمجاهرة بها، حتى يرى الشخص أربعة من الناس جهارًا نهارًا عيانًا بيانًا يقوم بإتيان تلك الكبيرة، أما فعلها في الخفاء، فيكفي فيه الستر.ومن القواعد الفقهية في تلك المسألة أن الحدود تدرأ بالشبهات، وما لم نكن على يقين من القيام بالزنا، فلا يحكم به، وبالتالي لا يعتد بالبصمة الوراثية في إثبات النسب."
ويرى الدكتور علي جمعة مفتي مصر ،بأن الرد عليه من جهتين: الجهة الأولى أن الزنا غير معتبر، وأيضًا زنا المحارم ، فإذا اعترفنا بنسب ولد الزنا سنكون أمام حالة سنفرق فيها بين الناس، فالزنا بين الرجل والأجنبية غير معتمد وحرام، والزنا بين الأب والبنت، والأخ وأخته غير معتمد وحرام، فهل يعقل أن نقول في الأولى نثبت النسب، وفي الثانية لا نثبت النسب؟! وإذا أردنا أن نثبت النسب لكل زاني فإننا سنرفع نظام القرابة وهو أول معول في القضاء على الاجتماع البشري.. إذن عندما لا أعتمد الزنا أنا لا أرتكب جريمة.. بل على العكس فأنا أحافظ على الاجتماع البشري.
والجهة الأخرى هي صورة اللقيط مجهول الأب والأم أصلاً، فماذا نفعل فيه، وإلى أي شيء ننسبه، ومن ثم فمشكلات الطفل الذي جاء خارج الاعتماد الشرعي لها صور كثيرة لن تحل كلها، ونحن نحاول أن نحلها بقدر المستطاع ، إذن فكلامنا واجتهادنا الجديد يراعي طائفة كبيرة جدًّا، ويحاول أن يقي المجتمع وهو قال به الأستاذ محمد أحمد الميسر أستاذ بكلية أصول الدين بجامعة الأزهر .
أما الاستدلال بما ذهب إليه بعض فقهاء المسلمين من جواز استلحاق ابن الزنا بالزاني فإنه قد رده كثير من الفقهاء لأن هؤلاء قد عملوا القياس في مقابل النص و أن ما استدلوا به لفعل عمر إنما كان ذلك خاص بأولاد الجاهلية عندما كان يقضي بإلحاق أولاد الجاهلية بمن ادعاهم إذا لم يكن هناك فراش
وما نسب إلى فقهاء من المالكية والحنابلة إنما جاء في معرض عن الحديث عن ثبوت حرمة المصاهرة بالزنا.
وأن ما نسب إلى الحنفية ،فقول فيه مغالاة لأننا نجد السرخسي من علماء الحنفية يقول:"إذا أقر رجل بأنه زنا بامرأة حرة وأن هذا الولد ابنه من الزنا وصدقته المرأة فإن النسب لا يثبت من واحد منهما لقوله صلى الله عليه وسلم :"الولد للفراش وللعاهر الحجر" ولا فراش للزاني وقد جعل رسول الله - صلى الله عليه وسلم -حظ الزاني الحجر فقط وقيل هو إشارة إلى الرجم وقيل هو إشارة إلى الغيبة كما يقال للغيبة الحجر أي هو غائب لا حظ له والمراد هنا أنه لا حظ للعاهر من النسب ونفي النسب من الزاني حق الشرع، إما بطريق العقوبة ليكون له زجرا عن الزنا إذا علم أن ماءه يضيع به،أو لأن الزانية نائبها غير واحد فربما يحصل فيه نسب الولد إلى غير أبيه وذلك حرام شرعا ولا يرتفع هذا المعنى بتصديق المرأة وكان نفي النسب عن الزاني لحق الولد فإنه يلحقه العار بالنسبة إلى الزاني وفيه إشاعة الفاحشة وهذا المعنى قائم بعد تصديق المرأة " .
وفي المؤتمر الذي عقدته المنظمة الإسلامية للعلوم الطبية والذي شارك فيه أبرز العلماء و الأطباء المتخصصين أكد المؤتمرون على أن البصمة الوراثية لا تعتبر دليلا على الفراش الزوجية فهذه الأخيرة تثبت بالطرق الشرعية لا غير ،وفي قرار للمجمع الفقهي لرابطة العالم الإسلامي بمكة في دورته السادسة عشر :" أنه لا بد أن تقدم النصوص والقواعد الشرعية على البصمة الوراثية.بما فيها البينة و الإقرار ذلك أن البصمة الوراثية لم يأت دليل على اعتبارها قاعدة في إثبات النسب كما هو الحال بالنسبة للفراش والبينة والإقرار و من ثم فلا مجال لتقديمها عليها ومتى ثبت النسب بإحدى هذه الطرق لم يكن هناك مجال لإعمال البصمة الوراثية.
وهي ليست دليل يقوم في إثبات النسب و لا نفيه بل هي مجرد قرينة لا تقدم على أي دليل شرعي و لا يقام بها حكم مستقل بل يستأنس بها عند الحكم ولا يعني ذلك أن تكون شرطا أو مانعا لإعمال البصمة الوراثية بل العكس هو الصحيح
ولأن هذه الطرق قد أجمعت الأمة على اعتبارها في ثبوت النسب و إثباته وفي المقابل فإن البصمة الوراثية أمر مستحدث و هو في طور الاختبار و أن الخطأ البشري و العملي وارد عليها باعتراف من الخبراء، ومن ثم نجد العلماء و القضاة في البلاد التي أخذت بها لم تكن كلمتهم محل اتفاق حول حجيتها في إثبات النسب .وإن قدم الأخذ بالبصمة الوراثية على القيافة و القرعة ،فمن باب الأولى ، ذلك أن القيافة تقوم على التخمين و استعمال القدرة على تمييز الشبه بين الناس فمن باب أولى إعمال البصمة الوراثية التي تستنبط الشبه بين الأشخاص على أساس تجريبي وحسي عملي مشاهد .
ثم إن النظريات العلمية الحديثة من طبية وغيرها مهما بلغت من الدقة والقطع بالصحة في نظر المختصين إلا أنها تظل محل شك ونظر ، لما علم بالاستقراء للواقع أن بعض النظريات العلمية المختلفة من طب وغيره يظهر مع التقدم العلمي الحاصل بمرور الزمن إبطال بعض ما كان يقطع بصحته علمياً ، أو على الأقل أصبح مجال شك ومحل نظر ، فكم من النظريات الطبية -علي وجه الخصوص - كان الأطباء يجزمون بصحتها وقطعيتها ، ثم أصبحت تلك النظريات مع التقدم العلمي الطبي المتطور ضرباً من الخيال وهذا أمر معلوم وثابت مما يحتم على الفقهاء والباحثين الشرعيين التروي في النظر ، وعدم الاندفاع بالأخذ بالنظريات العلمية كأدلة ثابتة توازي الأدلة الشرعية أو تقاربها ، فضلاً عن إحلال تلك النظريات محل الأدلة الشرعية الثابتة أمارات قد تحمل عليه ، أو قرائن قد تدل عليه ، لأن الشارع يحتاط للأنساب ويتشوف على ثبوتها . ويكتفي في إثباتها بأدنى سبب ، فإذا ما ثبت النسب فإنه يشدد في نفيه ، ولا يحكم به إلا بأقوى الأدلة .
والقول بإعمال البصمة الوراثية بدل اللعان فيه تجاوز لحكم ثبت بالنص القرآني ،لأن اللعان قد جعلته الشريعة الإسلامية فرجا و مخرجا للأزواج عند فقد الشهود الأربعة ؛وهو الطريق الوحيد لنفي النسب إذا ما توافرت شروط الملاعنة الصحيحة، وهو من باب تقديم أقوى الدليلين على الآخر كما بين ذلك ابن القيم، فكان إلغاء دلالة الشبه التي أبطلها النبي –صلى الله عليه وسلم بدلالة أقوى هي اللعان ، كما أبطلها مع قيام دلالة الفراش ، و من ثم كان العمل باللعان واجبا .
ولا يمنع ذلك من التفريق بين حالات اللعان لتحقيق مقاصد الشرع في النسب وعليه ذهب جمهور من العلماء الأزهر نذكرهم: د. عبد الحي عزب عبد العال، ود. عبد العزيز عزام، والشيخ عبد الله مجاور- على أنه من الممكن الأخذ بتحليل الـ"DNA" من أجل رفع الضرر عن الزوجة، واتخاذه كطريق لإثبات نسب الأبناء إلا أنه لا يمكن الأخذ به لإثبات جريمة القذف على الزوج الذي لاعن زوجته، مشيرين إلى أن الأخذ باللعان هو أمر محقق للستر بين الزوجين، وأن الأخذ بمسألة تحليل البصمة الوراثية إنما يكون من جانب الأخذ بعوامل مساعدة لرفع الضرر وليس لإثبات حكم شرعي أو نفيه
ومن ثم فإن البصمة الوراثية لا تقوم أبدا مع اللعان في حال قذف الزوج لزوجته بالزنا فبالإضافة إلى كونه حكما شرعيا ثابتا ،فإنه عمليا لا فائدة من إعمال البصمة الوراثية في مقابل اللعان لتثبيت جريمة الزنا على الزوجة و هو طريق-أي اللعان-شرع لرفع الحد و إبعاد التهمة عن كلا الزوجين، جريمة القذف عن الزوج و جريمة الزنا عن الزوجة ، إذ أن اللعان فيه تحقيق لمبدأ الستر الذي تشوف إليه الشارع حين شرعه ،ثم إن الاستشهاد بالبصمة الوراثية إما أن تأتي نتائجها مؤيدة لادعاء الزوج و من ثم يجني على الزوجة الفضيحة و عدم الستر و يترتب عليه عدم ثبوت نسب الولد و كان أولى الاكتفاء باللعان لأن النتيجة ستكون واحدة هي نفي النسب الولد والفرقة بينهما، ، أو تكون لصالح براءة الزوجة من ثم يكون الزوج قد أساء الظن بزوجته مع ما قد يكون قد كلفه هذا الإجراء من مصاريف كان في غنى عنها.
أما في ما يخص نفي النسب في اللعان ،و إقرارا لقاعدة رفع الضرر فإنه يؤخذ بقول الزوجة في ما يخص إجراء التحليل بالبصمة الوراثية – لأنه لا يتصور عقلا أن تطلب هي المتهمة دليل لإدانتها عن طريق البصمة الوراثية فلا تقدم على ذلك إلا إذا كانت متيقنة من براءتها – فيجرى التحليل لدفع التهمة عنها أولا ،و لإثبات نسب ولدها للزوج ، وفيه إراحة لنفس الزوج من الشكوك و الوساوس وهو ما قال به الشيخ القرضاوي
وهذا القول ليس فيه تقديم البصمة الوراثية على اللعان كما هو الحال إن كان بطلب من الزوج فلا يسمع له و يكتفى باللعان .
الفرع الثاني: شروط اعتبار البصمة الوراثية في النسب
ولان البصمة الوراثية مجرد قرينة لا يجوز تقديمها على الطرق الشرعية المتفق عليها في اثبات النسب فهي وسيلة علمية حديثة لا غنى للقضاء عنها ومن ثم جاء قرار المجمع الفقهي و سائر الندوات التي بحثت تكييفها الشرعي وكذا ما كتبه المتخصصون في الموضوع أن إعمال البصمة الوراثية في ثبوت النسب يجب أن يحاط بجملة ضوابط تعود كلها لحفظ النسب و العرض وهما من الضروريات التي جاءت أحكام الشريعة لحفظها هذه الضوابط إما شروط تتعلق بالعاملين عليها ، العلماء ومكان عملهم ؛ أو شروط تحدد الحالات التي يؤخذ بها بالبصمة.
أولا-من أجل ضمان صحة نتائج البصمة الوراثية فقد ذكر بعض الفقهاء والأطباء المختصين بالبصمة الوراثية ضوابط لابد من تحققها كي يمكن الأخذ بنتائج البصمة الوراثية وهذه الضوابط تتعلق بخبراء البصمة الوراثية وبطريقة إجراء التحاليل ، والمختبرات والمعامل الخاصة بالبصمة الوراثية وأهم هذه الضوابط ما يأتي :
1- أن تكون مختبرات الفحص للبصمة الوراثية تابعة للدولة أو تشرف عليها إشرافاً مباشراً ويكون بطلب من القضاء ، مع توفر جميع الضوابط العلمية والمعملية المعتبرة محلياً وعالمياً في هذا المجال.
2- أن يكون جميع القائمين علي العمل في المختبرات الخاصة بتحليل البصمة الوراثية سواء كانوا من خبراء البصمة الوراثية أو من المساندين لهم في أعمالهم المخبرية ممن توفر فيهم أهلية قبول الشهادة كما في القائف ، إضافة إلي معرفة كل منهم وخبرته في مجال تخصصه الدقيق في المختبر
3-يشترط أن يكون القائمون على العمل في المختبرات المنوطة بإجراء تحاليل البصمة الوراثية من يوثق بهم علما وخلقا وألا يكون أي منهم ذا صلة قرابة أو صداقة أو عداوة أو منفعة بأحد المتداعين أو حكم عليه بحكم مخل بالشرف أو الأمانة.
4- توثيق كل خطوة من خطوات تحليل البصمة الوراثية بدءاً من نقل العينات إلى ظهور النتائج حرصاً علي سلامة تلك العينات وضماناً لصحة نتائجها ، مع حفظ هذه الوثائق للرجوع إليها عند الحاجة .
5- عمل التحاليل الخاصة بالبصمة بطرق متعددة ، وبعدد أكبر من الأحماض الأمينية ، ضماناً لصحة النتائج قدر الإمكان
ثانيا- في ما يخص النسب: أن استعمال البصمة الوراثية في مجال النسب لابد أن يحاط
بمنتهي الحذر والحيطة و السرية ، ولذلك:
1. لابد أن تقدم النصوص والقواعد الشرعية علي البصمة الوراثية .
2. لا يجوز شرعاً الاعتماد علي البصمة الوراثية في نفي النسب ولا يجوز تقديمها على اللعان .
3. لا يجوز استخدام البصمة الوراثية بقصد التأكد من صحة الأنساب الثابتة شرعاً ، ويجب علي الجهات المختصة منعه وفرض العقوبات الزاجرة ، لأن في ذلك المنع حماية لأعراض الناس وصوناً لأنسابهم .
4. يجوز الاعتماد علي البصمة الوراثية في مجال إثبات النسب في الحالات الآتية :
• حالات التنازع علي مجهول النسب بمختلف صور التنازع التي ذكرها الفقهاء ، سواء أكان التنازع علي مجهول النسب بسب انتفاء الأدلة أو تساويها ، أم كان بسبب الاشتراك في وطء الشبهة ونحوه .
• - حالات الاشتباه في المواليد في المستشفيات ومراكز رعاية الأطفال ونحوها ، وكذا الاشتباه في أطفال الأنابيب .
• حالات ضياع الأطفال واختلاطهم ، بسبب الحوادث أو الكوارث أو الحروب ، وتعذر معرفة أهلهم ، أو وجود جثث لم يمكن التعرف علي هويتها ، أو بقصد التحقق من هويات أسرى الحروب والمفقودين .
الخاتمة :
يتبين لنا مما السبق أن النسب من المسائل المهمة التي حرصت أحكام الشريعة الإسلامية و الفقهاء في اجتهادهم على صونها وحمايتها فأثبتته بكل دليل وتشددت في نفيه فلا ينتفي إلا بأقواها ونعني هنا اللعان ، ولأنها شريعة صالحة لكل زمان ومكان كانت الاستفادة من كل ما تجد به التطورات العلمية ،كما هو الحال في النسب فكان اكتشاف البصمة الوراثية وما تلته من ندوات ومؤتمرات لبحث التكييف الشرعي لها، له دلالته على ريادة الفقه الإسلامي والعاملين عليه في رعاية النسب و المبادرة بالأخذ بالاكتشافات العلمية ، هذا والأخذ بالبصمة الوراثية في اثبات النسب لابد وان يوافق مقاصد الشريعة في الأحكام ،فلا يخالف المعلوم منها بالضرورة ولا ثابت بنص. ومن ثم كانت الضوابط التي وضعها المقررون في المجمع الفقهي بمكة لتأكيد أنه لا مانع من الاستفادة من الطرق العلمية في إثبات النسب بشرط أن تتناسق مع الطرق الثابتة شرعا فلا تعارضها ومن باب أولى لا تتقدمها .
قائمة المراجع:
ابن قيم الجوزية،زاد المعاد في هدي خير العباد الجزء الخامس
أعلام الموقعين. (دار الجيل بيروت 1973 تحقيق طه عبد الرؤوف سعد ) ج1.
أحمد عبد الحليم بن تيمية ،كتب و رسائل و فتاوى ابن تيمية (مكتبة ابن تيمية تحقيق : عبد الرحمن محمد قاسم الحنبلي )
محمد بن أبي سهل السرخسي ،المبسوط صحيح( بيروت دار المعرفة 1406هـ) ج17
ابن عبد البر المالكي ،التمهيد ( تحقيق :مصطفى العلوي ، محمد الكري المغرب وزارة عموم الأوقاف و الشؤون الإسلامية 1317 هـ) ج8
ابن رشد ،بداية المجتهد(دار الجيل بيروت ،مكتبة الكليات الأزهرية القاهرة تحقيق طه عبد الرؤوف سعد 142هـ-2004م) .ج2
محمد بن عبد الرحمن المغربي ،ومواهب الجليل ( دار الفكر بيروت 1398 هـ)ج5
ابن عابدين، حاشية رد المحتار (ط2 دار الفكر بيروت 1386هـ) ج5
ابن حزم ،المحلى (دار الآفاق الجديدة بروت تحقيق لجنة إحياء التراث العربي) ج 10
الشربيني ،المغني المحتاج (دار الفكر بيروت)ج 2 ج8.
أبو زكريا النووي شرح النووي على صحيح مسلم (ط2 دار إحياء التراث العربي بيروت 1392هـ.) ج10
البخاري ، صحيح البخاري.(دار أحياء التراث العربي بيروت تحقيق فؤاد عبد الباقي) ج2.
أبو داوود،سنن أبي داود.(دار الفكر تحقيق:محمد عبد الحميد) ج2.
ابن قدامةالمقدسي، المغني( ط1.دار الفكر بيروت 1405هـ ) ج6.
خليفة الكعبي، البصمة الوراثية و أثرها على الأحكام الشرعية ( مصر دار الجامعة الجديدة للنشر 2004)
منصور عمر المعاطي، الأدلة الجنائية و التحقيق الجنائي .(مكتبة دار الثقافة للنشر و التوزيع عمان 2000)
حسنين البوادي، الوسائل العلمية الحديثة في الإثبات الجنائي (منشأة المعارف الإسكندرية 2005)
منصور عمر المعايطة ، الأدلة الجنائية و التحقيق الجنائي –لرجال القضاء والإدعاء العام وأفراد الضابطة العدلية-ط1 مكتبة دار الثقافة للنشر والتوزيع عمان الأردن2000م.
عبد الوهاب خلاف ، أحكام الأحوال الشخصية في الشريعة الإسلامية (ط2 .دار القلم الكويت1410هـ.1990م).
بلحاج العربي .الوجيز في شرح قانون الأسرة الجزائري ج(1 الزواج والطلاق.ديوان المطبوعات الجامعيةالجزائر 1999م).
محمد محدة، سلسلة فقه الأسرة : الخطبة والزواج .(ط2.دد.دت.دن.)
لاجتهاد القضائي لغرفة الأحوال الشخصية عدد خاص 2001 ص70. ملف رقم 172379 قرار بتاريخ :28/10/1997
الاجتهاد القضائي لغرفة الأحوال الشخصية عدد خاص .(المحكمة العليا قسم الوثائق 2001 الديوان الوطني للأشغال التربوية).
قانون الأسرة الجزائري رقم 84/11 المعدا والمتمم بالأمر 05/02
معاجم لغوية:
علي بن محمدلجرجاني كتاب التعريفات (دار الكتاب العربي بيروت 1405هـ ط1تحقيق ابراهيم االأبياري. )
ابن منظور ، لسان العرب.(دار المعارف بيروت دت دط ).ج1.
محمد بن عبد الرؤوف المناوي،التوقيف على مهام التعاريف (دار الفكر المعاصر ،بيروت ، دار الفكر دمشق.1410هـ.ط1تحقيق محمد رضوان الداية .)
مواقع الكترونية
• www.qaradawi.net
اثبات النسب بالبصمة الوراثية حق للمراة لا للرجل" ، فتاوى وأحكام 14/03/2006
• لرابطة العالم الإسلامي www.themwl.org:
1. عمر بن محمد السبيل البصمة الوراثية ومشروعية استجدامها في النسب و الجناية" أبحاث الدورة السادسة عشر للمجمع الفقهي بمكة المكرمة
2. قرارات المجمع للدورة السادسة عشر المنعقدة في المدة من 21-26/10/1422 هـ الذي يوافقه 5-10/1/2002 م
المنظمة الإسلامية للعلوم الطبية www.islamset.com ندوة : "مدىحجية استخدام البصمة الوراثية لاثبات البنوة"
1 "ملخص ورقة العمل عن البصمة الوراثية وعلائقها الشرعية "المقدمة للمنظمة الإسلامية للعلوم الطبية 3 ، 4 /5/2000 م
إعداد أ . د / سعد الدين مسعد هلالي
2 ملخص الحلقة النقاشية حلقة نقاش في يومي 28 ، 29 محرم 1421 هـ
”الهيئة العالمية للإعجاز العلمي في القرآن والسنة - مكة المكرمة www.nooran.org
د. سفيان العسولي ،"البصمة الوراثية ".
www.islamonline.net:
1. صبحي مجاهد-فقهاء ضد استبدال البصمة الوراثية باللعان القاهرة- / 18-6-2005
2. صبحي مجاهد" مفتي مصر:لا لإثبات نسب ولد الزنا بـ"DNA" الأخبار: الإثنين 24 ربيع الآخر 1427هـ - 22/05/2006م
3. سعد الدين مسعد الهلالي. البصمة الوراثية وقضايا النسب الشرعي. الإسلام وقضايا العصر
4. نهى سلامة،ا لبصمة الوراثية تكشف المستور! 18/01/2001
5. صبحي مجاهد آراء العلماء في إثبات ولد الزنا بـ"DNA القاهرة - - 22-5-2006
www.islamtoday.net
-عبد الرشيد محمد أمين بن قاسم "البصمة الوراثية" بحوث و دراسات/ 28/4/1425 16/06/2004
ثبوت النسب بين القواعد الشرعية والبصمة الوراثية
من إعداد : الأستاذة بوسطلة شهرزاد
أستاذ مساعد "أ"بقسم الحقوق جامعة بسكرة.
مقدمة :
يعتبر النسب من أكثر المباحث الفقهية والقانونية أهمية لما يترتب عليه من حقوق والالتزامات ترتبط في أحكامها بجملة من القواعد الشرعية والآثار الفقهية ، فمن حيث القواعد فإن النسب يحتكم في تأصيله إلى عدد من المبادئ التي تقوم عليها النظم التشريعية كالبينة والإقرار ، ومن حيث الآثار فإن النسب كما هو معلوم ثمرة العلاقة الزوجية ،الرابطة الاجتماعية التي تؤسس للمجتمع وتحدد معالم ازدهاره و ترابطه ، وهو السبب الأول في اكتساب الحقوق المعنوية كالاسم والحرمة أو المالية كالنفقة والميراث .
لذا نجد مباحث النسب ما فتئت تتصدر المباحث الفقهية و تسيل أقلام الباحثين، الفقهاء والحقوقيين ؛ فثبوت النسب قد استقرت قواعد إثباته وسار عليها الفقهاء في اجتهادهم وحكم بناء عليها القضاة في ما يعرض عليهم من منازعات . وقد سار الفقهاء في النسب وثبوته على مبدأ الاحتياط لخطورته وتعلق الأحكام به ، حتى إذا ظهر ما يؤيد هذا المبدأ ويرسي دعائمه نجدهم يتلقونه بالقبول ، فيطرح في ميزان الشرع فما وافقه وحقق مقاصده كان العمل وفقه وما كان غير ذلك لم يلتفت إليه.
و قيام ثبوت النسب أو نفيه على قواعد محددة سار عليها الفقه والقضاء ، لم يخل من كثرة النوازل فيه والقضايا ، ناهيك عن التطور التكنولوجي التي عرفته البشرية في هذا العصر و الذي أظهر للوجود وسائل علمية دقيقة تؤكد أو تنفي علاقة البنوة أو الأبوة ، و بالتحديد ما اصطلح عليه بالبصمة الوراثية ؛ و قد ذهب المشرع الجزائري في التعديل الجديد لقانون الأسرة رقم 84/11إلى اعتماد الطرق العلمية في ثبوت النسب دون أن يبين الكيفية، حيث كان الاجتهاد القضائي على عدم الإقرار بحجية البصمة الوراثية فيه ، فجاء ليؤكده في نص المادة 40 (من الأمر 05/02)الذي عدل وتمم القانون المذكور أعلاه . لكن إلى أي مدى تكون الطرق العلمية والبصمة الوراثية على وجه الخصوص حجة في ثبوت النسب شرعا وقضاء؟ ،و إذا علمنا أنها من مستجدات العصر أن نسبة دقة نتائجها تكاد تكون قطعية ، فما مدى حجيتها على القواعد الشرعية الثابتة التي سار عليها الفقهاء منذ عهد النبوة ، وهل تقوم قاعدة مع تلك القواعد ؟ أم الأمر غير ذلك ؟ للإجابة على هذا التساؤل ارتأينا أن تكون هذه الورقة حول حجية ثبوت النسب بالبصمة الوراثية وتكييف هذه الوسيلة فقها وقضاء، من ثم فقد قسمنا الموضوع إلى قسمين الأول : في ثبوت النسب ،المفهوم والقواعد الشرعية التي يقوم عليها ،ثم القسم الثاني: في البصمة الوراثية، مفهومها وحجيتها في ثبوت النسب في ضوء ما كتبه المعاصرون وما جاءت به قرارات المجمعات الفقهية.
المبحث الأول : مفهوم ثبوت النسب والقواعد التي يقوم عليها .
لقد أولى الفقهاء للنسب أهمية كبرى، إن من حيث التأصيل أو من حيث التفريع و التطبيق،ومن ثم لزم معرفة مفهومه و القواعد التي يقوم عليها ،ومنه يكون هذا المبحث من مطلبين، الأول في: مفهومه والثاني :في القواعد التي يقوم عليه .
المطلب الأول : مفهوم ثبوت النسب .
ويكون بتحديد المصطلح وإبراز أهميته.
الفرع الأول :التعريف بمصطلح " ثبوت النسب".
ترتبط كلمة "ثبوت النسب" بلفظ "النسب" ومن ثم وجب تعريف كلمة "النسب" ثم المركب الإضافي "ثبوت النسب".
فالنسب في اللغة: يقصد به القرابة وسمي كذلك لما بين الأقارب من صلة ، و جاء في لسان العرب : النَسب: نَسب القَراباتِ، وهو واحدُ الأنساب. والنِسبة والنُسبة و النَسب: القرابة وقـيل: هو فـي الآباء خاصَّةً؛ وقـيل: النِّسْبَةُ مصدر الانتِساب؛ و النُّسْبَةُ: الاسمُ. والنَسَب يكون بالآباءِ، ويكون إِلـى البلاد، ويكون فـي الصناعة، وجمع النَّسب أَنْسابٌ. و انتَسَبَ و اسْتَنْسَبَ: ذَكَرَ نَسَبه. و نَسَبَهُ يَنْسُبُهُ و يَنْسِبُهُ نَسَباً: عزاه و نَسَبَه: سأَله أَن يَنْتَسِبَ. و نَسَبْتُ فلاناً إِلـى أَبـيه أَنْسُبه و أَنْسِبُهُ نَسْباً إِذا رَفَعْت فـي نَسَبه إِلـى جده الأَكبر. الـجوهري: نَسَبْتَ الرجل أَنْسُبه، بالضم، نِسْبةً و نَسْباً إِذا ذَكرت نسَبه، وانْتَسَبَ إِلـى أَبـيه أَي اعْتَزَى.
كما جاء في كتاب التعاربف:"النسب والنسبة، اشتراك من جهة أحد الأبوين وذلك ضربان نسب بالطول كالاشتراك بين الآباء والأبناء ونسب بالعرض كالنسب بين بني الأخوة وبني الأعمام وفلان نسيب فلان أي قريبه.."
وعرفه الجرجاني فقال:" النسبة إيقاع التعلق بين الشيئين والنسبة الثبوتية ثبوت شيء لشيء على وجه هو هو".
أما كلمة ثبوت :فتعني ؛ثبُتُ ثَبَاتاً و ثُبُوتاً فهو ثابتٌ و ثَبِـيتٌ و ثَبْتٌ،و أَثْبَتَه هو، و ثَبَّتَه بمعنىً. وشيء ثَبْتٌ: ثابتٌ.الثَّبَتُ، الـحجّة والبـينة. وفـي حديث قتادة بن النُّعْمان: بغير بـيِّنَة ولا ثَبَتٍ. و ثابَتَه و أَثْبَتَه: عَرَفَه حقَّ الـمَعْرِفة
وفي كتاب التعاريف:" الثبات ضد الزوال والثبات والثبوت ضد التزلزل،وثبت الأمر صح، وأثبت الكاتب الاسم كتبه عنده،و ثبت بالفتح ومنه قيل للحجة ثبت ورجل ثبت بفتحتين إذا كان عدلا ضابط ،الثبة الجماعة الثائب بعضهم إلى بعض في الظاهر، وثبة الحوض، ما يثوب إليه الماء أي يرجع"
ويقول الجرجاني :"الإثبات هو الحكم بثبوت شيء آخر "
وعليه فإن ثبوت النسب غير إثباته لأن معنى ثبوته يكون تعلقه به وإرجاعه إلى صاحبه وإسناده له بينما اثبات يعني إقامة البينة على ثبوته .
ومنها يمكن استخلاص مدلول المركب الإضافي "ثبوت النسب" ويعني: وجود صلة قرابة بالأخص في تلك التي تكون بين الآباء و الأبناء والحكم عليها بالإسناد بالحجة والبينة.
أما في الاصطلاح فلا يخرج مفهوم ثبوت النسب في اصطلاح الفقهاء والقانونيين عن معناه اللغوي، و يعني إسناد الأبناء للآباء بصلة قرابة و إقامة الحجة على ذلك .
الفرع الثاني : أهمية ثبوت النسب .
لقد امتن الله على عباده بالنسب "...وجعل منه نسبا وصهرا".الآية فعلق الأحكام عليهما حلا وحرمة ؛لذا اعتنت الشريعة الإسلامية بالنسب فكان تشريع الزواج و إحاطته بجملة أركان وشروط ، إذ التوالد بين الزوجين وانتساب كل ولد لأبيه وما يترتب عليه من قيام مسؤوليات في التربية والنفقة والعناية ،يحقق بالتأكيد الترابط بين أفراد المجتمع الواحد ويؤسس علاقات متينة بينهم؛فلا الشك أن رابطة الدم هي أقوى الروابط و أمتنها، ومن ثم نجد الشارع قد حث على الزواج واهتم بالنسب و وأقر أحقية كل فرد في الاسم والانتساب إلى أبوين وعائلة ،اسما و دما وصلة ؛ فأثبته بالزوجية القائمة حقيقة وحكما وشبهة . وفي مقابل ذلك شدد في جريمة الزنا "إنه كان فاحشة وساء سبيلا". الآية .فأهدر الماء الذي يخلق منه الولد حتى وإن كان الأب البيولوجي ، يقول النبي صلى الله عليه وسلم :"الولد للفراش وللعاهر الحجر " .
و شدد الشارع على الآباء الذين ينكرون نسب أولادهم لقوله -عليه الصلاة والسلام- حين نزلت آية المتلاعنين :" أيما ثمْ أيما امرأة أدخلت على قوم من ليس منهم فليست من الله في شيء ولن يدخلها الله جنته، وأي ما رجل جحد ولده وهو ينظر إليه احتجب الله منه وفضحه على رؤوس الأولين والآخرين " . وقوله أيضا :"من ادعى لغير أبيه وهو يعلم فالجنة عليه حرام ." ومن ثم فأهمية النسب تكمن في أنه يحقق الهوية للأفراد ويعطي لهم الشعور بالانتماء و يقوي الروابط الاجتماعية ويؤسس من ثم لدولة قوية. وكل ذلك في إطار ما حدده الشارع ورأى أنه يحقق المقصد من عمارة الأرض .
المطلب الثاني : قواعد ثبوت النسب.
لأن النسب من أهم الأمور التي تمس شخصية الإنسان وتؤثر فيه. فقد احتاطت الشريعة السمحاء لإثباته فأقرت ثبوته بأدنى دليل وسارت على التشديد في نفيه فلا ينتفي إلا بأقوى الأدلة. و لقد عدد الفقهاء لثبوت النسب منذ العصور الأولى للإسلام أمورا عدة هي : الفراش والإقرار والبينة و القيافة و القرعة.وقد أخذ المشرع الجزائري بالثلاث الأولى وهي موضع اتفاق بين الفقهاء ونعني الفراش والإقرار والبينة ، إذ نصت م40 (ق أ ج 84/11) على أنه :"يثبت النسب بالزواج الصحيح أو بالإقرار أو بالبينة أو بكل زواج تم فسخه بعد الدخول"
و تفصيل ذلك كما يلي :
الفرع الأول: في الطرق المتفق عليها في ثبوت النسب والفرع الثاني: في المختلف فيها.
الفرع الأول : الطرق المتفق عليها بين الفقهاء في ثبوت النسب .
اتفقوا على أن الفراش و الإقرار والبينة طرق يثبت بها النسب شرعا.
أولا- الفــراش:
الفراش كناية على قيام الزوجية حقيقة أو حكما عند مجيء الولد ، وأصلها الحديث المذكور أعلاه فقد جعل النبي – صلى الله عليه وسلم -قيام الزوجية دلالة على ثبوت النسب.فكونه ولد والزوجية قائمة فإنه لا يحتاج إلى إقرار ولا إلى بينة.غير أنه لا يكون صالحا لثبوت النسب إلا إذا توافرت فيه شروط ،وهو ما ذهب إليه المشرع الجزائري المادة 41 ق .أ.ج :" ينسب الولد لأبيه متى كان الزواج شرعيا و أمكن الاتصال ولم ينفه بالطرق المشروعة"-و في ما يلي بيان ذلك :
1. أن يكون الاتصال ممكنا : بمعنى إمكانية حدوث التلاقي بين الزوجين فعلا، بأن لا يكون هو مقيم في دولة وإقامتها هي في دولة أخرى تجعل التقاءهما مستبعد لبعد المسافات بينهما، ومثله صغر سنهما. ومن ثم فقد ذهب جمهور الفقهاء إلى اعتبار الدخول الحقيقي الممكن هو دليل الزوجية أو كما عبروا عنه بالفراش الذي يثبت به النسب. وهو شرط عند الجمهور وعبروا عنه بإمكان الوطء وخالف أبو حنيفة حيث يثبت النسب عنده بمجرد العقد .
2 .أن لا ينفه بالطرق المشروعة: وعليه نص المشرع الجزائري (م41)والمقصود هنا اللعان ومن ثم فإن الولد لا ينتفي نسبه عن الزوج إلا بحكم القاضي ،مع ملاحظة أن اللعان كما يكون في نفي الولد يكون في الرمي بالزنا ،وهو وسيلة يدرأ بها الزوجان عن نفسيهما الحد المقرر شرعا في مواجهة تلك الجريمة،وصورته: شهادات تجري بين الزوجين مؤكدة بالأيمان مقرونة باللعن من جانب الزوج وبالغضب من جانب الزوجة - قوله تعالى : "والذين يرمون أزواجهم ولم يكن لهم شهداء إلا أنفسهم فشهادة أحدهم أربع شهادات بالله إنه لمن الصادقين *والخامسة أن لعنة الله عليه إن كان من الكاذبين * ويدرأ عنها العذاب أن تشهد أربع شهادات بالله إنه لمن الكاذبين * والخامسة أن غضب الله عليها إن كان من الصادقين *" سورة النور : 6 – 9
وقد نقضت المحكمة العليا حكما بنفي النسب عن الولد لأنه جاء لفراش الزوجية وأن الزوج لم ينفه بالطرق المشروعة ويعني بها هنا اللعان :"إذ من المستقر قضاء أنه يمكن نفي النسب عن طريق اللعان في أجل محدد لا يتجاوز ثمانية أيام من يوم العلم بالحمل ".
3.أن يأتي للمدة المحددة التي يتصور منها مجيء الولد فلا يكون لأقل مدة وهي ستة أشهر من يوم إمكان الاتصال ولا لأكثرها وهي عشرة أشهر من الانفصال .
وتجدر الإشارة إلى أن المقصود بقيام الزوجية حقيقة يعني في ظل العقد الصحيح وحكما يعني أثناء العدة ؛ مع ملاحظة أن العقد الصحيح ليس وحده سببا لثبوت النسب ودليل فراش بل ألحق به العقد الفاسد وهو ما تخلف فيه شرط مختلف في فساده ، والعقد الباطل ما تخلف فيه شرط متفق على فساده ، وهو ما عبر عنه المشرع الجزائري ": بكل زواج تم فسخه بعد الدخول طبقا للمواد 32-33-34 "وهي المواد التي تناولت الزواج الفاسد ،والزواج الباطل في المادة 40 ق .أ.ج
فحكمه وجوب الفسخ إلا أن النسب يثبت للولد الذي يأتي ثمرة الاتصال في ظل ذلك العقد رعاية من الشارع لحق الولد في النسب . ويلحق به أيضا ما كان نتيجة الوطء بشبهة،ويعني به دخول الشخص على امرأة لا تحل له أصلا من غير علم ، معتقدا أنها حليلته ثم يتبين الأمر على غير ذلك. فهذا فعل درأ الحد به عن صاحبه فيثبت به النسب.
.وقد جاء في 34 ق .أ.ج أن :"كل زواج بالمحرمات يفسخ قبل الدخول وبعده ويثبت به النسب والاستبراء ".ومن ثم فهو زواج باطل أثبت به المشرع النسب ؛لكن ذلك يدفعنا إلى التساؤل عن نية الزوجين هنا هل يعلمان بالحرمة أم لا؟ فإن لم يكونا عالمين، فثبوت النسب لا يثير أي إشكال وهو من قبيل الوطء بشبهة بل هو أسلم، أما وأن يكونا عالمين بالحرمة فلا أرى عنهم اختلافا عن جريمة الزنا، ومن ثم فعموم النص هنا يحتاج إلى توضيح وضبط حتى لا نفتح بابا للتذرع بالعقد الباطل ونحل ما كان حراما ونثبت ما نفاه الشرع .
ثانيا –الإقرار:
وهو على ضربين : حمل النسب على النفس ويكون بأبوة أو ببنوة ،وإقرار يحمله المقر علي غيره وهو ما عدا الإقرار بالبنوة والأبوة كالإقرار بالأخوة ، والعمومة .
أما الإقرار على النفس أو ما يعرف بالاستلحاق ، فيعني ادعاء المدعي بأنه أب لغيره وهو حجة على المقر ويثبت به النسب،و إن كان من المرأة فقد جاء في المغني أن إقرار المرأة بالنسب لا يلحق الولد إلا إذا انتفى الضرر ويكون ذلك بأحد الأمور التالية: فإما أن تكون ذات زوج فإن إقرارها بالولد فإما أن يقره الزوج فينسب لأبيه أو لا يقر به، وهذا يعني أنها إما أتت به لزواج سابق فتحتاج إلى بينة أو أنه كان نتيجة وطء بشبهة فتحتاج إلى بينة أيضا فينسب للواطئ، أولا تكون لها فينسب لها ؛وفي ذلك ضرر بإخوتها لما يلحقهم من العار بإلحاق النسب لهم . ويرى غير الحنابلة من الفقهاء أن يؤخذ بقول المرأة في الإقرار بالنسب مطلقا سواء كانت متزوجة أم لا سواء صدقها الزوج أم لا لأن الإقرار حجة ،وهي أحد الوالدين وأن الأصل الاحتياط في إثبات النسب فلا بد من إلحاقه خشية ضياعه
و ذهب فريق من الفقهاء إلى القول بعدم صحة إقرار المرأة مطلقا سواء كانت متزوجة أم غير متزوجة
ومن ثم كان اختلاف الفقهاء في الأخذ بإقرار المرأة و إن اتفقوا على أن انتفاء الضرر لا يمنع ذلك.هذا و المشرع الجزائري على الأخذ بقول المرأة بالإقرار فقد جاء في نص م44 :" يثبت النسب بالبنوة أو الأبوة أو الأمومة ، لمجهول النسب و لو في مرض الموت متى صدقه العقل والعادة".
هذا و ثبوت النسب بالاستلحاق له شروط لا يثبت إلا بتحققها وهي:
1. أن يكون مجهول النسب : ذلك أن معلوم النسب لا يصح استلحاقه ولا يسمع لدعوى مدعي الأبوة لأن النسب قد تأكد ثبوته وهو مما لا يقبل الفسخ، ولا يلحقه الإبطال بأي حال من الأحوال.
2. أن لا ينافي العقل والعادة،بأن يكون المقر له بالنسب ممن يمكن ثبوت نسبه من المقر، وذلك بأن يولد من مثله لمثله، فلو أقر من عمره عشرون ببنوة من عمره خمسة عشر لم يقبل إقراره ، لاستحالة ذلك عادة ،مع وجوب أن يكون المقر بالنسب بالغاً عاقلاً فلا يصح إقرار الصغير ولا المجنون لانعدام الأهلية .
3. لأن الإقرار حجة قاصرة فإنه يلزم عنه تصديق المقر له،و المقر له في هذه الحالة إما أن يكون مميزا فيلزم عنه التصديق أو يكون غير مميز فلا يصح منه، لانعدام الأهلية وعليه سار اجتهاد الفقهاء. فإن لم يكن أهلا لذلك أو سكت عن التصديق وقت الإقرار فله أن يقر فيما بعد، ولا تحديد لوقت الإقرار فمتى بلغ أو بدا له تصديق المقر نفذ ذلك ولو بعد وفاة المقر، وإليه ذهب الجمهور؛ أما المالكية فلا يشترطون تصديق المقر له لأن النسب حق للولد على الأب فثبت بإقراره دون توقف على تصديق من الابن .
4. أن لا يصرح المقر بأن المقر له ولده من الزنا ، فإن صرح لم يثبت لأن ولد الزنا لا يثبت نسبه من أبيه بل من أمه لحديث النبي صلى الله عليه وسلم :"الولد للفراش و للعاهر الحجر".
و النوع الثاني من الإقرار :هو تحميل النسب على الغير كإقرار بأخوة أو بعمومة فيشترط فيه بالإضافة إلى ما سبق من الشروط : أن يصدقه المقر عليه ، الأب عند الإقرار بالأخوة و الجد عند الإقرار بالعمومة (م45 ق أج) مع إقامة البينة على ذلك.
ثالثا- البينة :
و يقصد هنا الحجة وإذا أطلقت انصرفت شهادة العدل الفرد أو العدد يقول ابن القيم :"البينة في كلام الله ورسوله وكلام الصحابة اسم لكل ما يبين الحق فهي أعم من البينة في اصطلاح الفقهاء حيث خصوها بالشاهدين أو الشاهد واليمين ولا حجر في الاصطلاح ما لم يتضمن حمل كلام الله ورسوله عليه ".
و يفهم من كلام ابن القيم أن البينة لا تنحصر في شهادة الشهود بقدر ما تشمل كل ما يصح أن يقيم الحجة على الدعوى.وتكون البينة عند التنازع بين المقرين بالنسب و حال إنكار المقر عليه بالنسب سواء كان الإقرار بحمل النسب على النفس إذا كان المقر له بالغا، أو كان حمل نسب على الغير وتعذر تصديق المقر عليه بالنسب لوفاة مثلا .
و البينة أقوى دلالة من الإقرار ذلك أن الإقرار يحتاج إلى تصديق المقر له بينما الشهادة تثبت الواقعة لقوة حجيتها دون أن يحتاج إلى تصديق المدعى عليه ، وقد حصر الفقهاء البينة في شهادة عدول وهي في النسب شهادة عدلين .
وذهب المشرع الجزائري إلى اعتبار شهادة رجل وامرأتين في قضايا النسب .
الفرع الثاني : الطرق المختلف في اعتبارها في ثبوت النسب .
وقد اختلف الفقهاء في اعتبار القيافة والقرعة كطرق لإثبات النسب و بيان ذلك كما يلي:
أولا – القيافة:
و هي لغة تتبع الآثار لمعرفة أصحابها ، والقائف : من يتبع الأثر ويعرف صاحبه ، وجمعه قافه والقائف في الاصطلاح الشرعي : هو الذي يعرف النسب بفراسته ونظره إلى أعضاء المولود .
وقد اختلف الفقهاء في اعتبارها طريقا لثبوت النسب ، فقال بالقافة من فقهاء الأمصار مالك والشافعي وأحمد وأبو ثور والأوزاعي وأبى الحكم ،ومثلوا له كما إذا ادعى رجلان ولدا و لم يكن لأحدهما فراش مثل أن يكون لقيطا أو كانت المرأة الواحدة لكل واحد منهما فراشا كالوطء في العدة، واحتج القائلون بالقافة بحديث ابن شهاب عن عروة عن عائشة قالت دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم مسرورا تبرق أسارير وجهه فقال:" ألم تسمعي ما قال محرز المدلجي لزيد وأسامة ورأى أقدامهما فقال إن هذه الأقدام بعضها من بعض" قالوا وهذا مروي عن ابن عباس وعن أنس بن مالك ولا مخالف لهم من الصحابة .وأما الحنفية فقالوا الأصل أن لا يحكم لأحد المتنازعين في الولد إلا أن يكون هنالك فراش لقوله عليه الصلاة والسلام:" الولد للفراش" فإذا عدم بالحق أو اشتركا للفراش كان ذلك بينهما وكأنهم رأوا ذلك بنوة شرعية لا طبيعية، فإنه ليس يلزم من قال إنه لا يمكن أن يكون ابن واحد عن أبوين بالعقل أن لا يجوز وقوع ذلك في الشرع وروي مثل قولهم عن عمر ورواه عبد الرازق عن علي .
والذين قالوا بحجية القيافة في إثبات النسب اشترطوا لذلك شروطا منها أن لا تقبل إلا من رجلين و هو قول الشافعي، أما الإمام مالك فذهب إلى قبول قول واحد ، وسبب الخلاف هل القيافة حكم أم شهادة؟ فمن قال بأن القائف حكم اكتفى بقول الواحد ومن رأى بأنها شهادة اشترط العدد.
هذا وقد أشترط الجمهور لاعتبار قول القائف ، والحكم به في إثبات النسب عدة شروط من أهمها :
- أن يكون القائف مسلماً مكلفاً،عدلاً،ذكراً، سميعا، بصيراً عارفاً بالقيافة مجرباً في الإصابة .
- أن لا يخالف من هو أقوى دلالة فإن ثبت النسب بالفراش لم يرجع إلى قول القائف،والنبي صلى الله عليه وسلم ألحق الولد عندما ادعى رجل أن الذي ولدته زوجته أسود بينما الزوجين كانا ابيضا البشرة وقال له :" هل لك من إبل قال: نعم، قال: فما ألوانها ؟قال: حمر، قال :فهل فيها من أورق؟ قال: نعم ،إن فيها لورقا ،قال: فأنى لها ذلك ؟قال: عسى أن يكون نزعه عرق، قال: وهذا عسى أن يكون نزعه عرق ". يقول ابن القيم :" قيل إنما لم يعتبر الشبه هاهنا لوجود بالحق الذي هو أقوى منه كما في حديث ابن أمة زمعة ولا يدل ذلك أنه لا يعتبر مطلقا بل في الحديث ما يدل على اعتبار الشبه فإنه -صلى الله عليه وسلم- أحال على نوع آخر من الشبه وهو نزع العرق وهذا الشبه أولى لقوته بالفراش .
-أن لا يختلف القافة في إلحاق مجهول النسب ،فإذا تباينت أقوالهم لا يِؤخذ بقول كل منهما ،فأما إن ألحقته القافة بواحد ثم جاءت قافة أخرى فألحقته بآخر كان لاحقا بالأول، لأن قول القائف جرى مجرى حكم الحاكم ،ومتى حكم الحاكم حكما لم ينتقض بمخالفة غيره له ،وكذلك إن ألحقته بواحد ثم عادت فألحقته بغيره ، فإن أقام الآخر بينة أنه ولده حكم له به وسقط قول القائف ،لأنه بدل فيسقط وجود الأصل، كالتيمم مع الماء .ولو ادعى نسب اللقيط إنسان فألحق نسبه به لانفراده بالدعوى، ثم جاء آخر فادعاه، لم يزل نسبه عن الأول لأنه حكم له به فلا يزول بمجرد الدعوى. فإن ألحقته به القافة لحق به وانقطع عن الأول لأنها بينة في إلحاق النسب ويزول بها الحكم الثابت بمجرد الدعوى كالشهادة .
ثانيا –القرعة:
وذلك عند التنازع على طفل ولا بينة لأحدهم فيجرى القرعة وهي في أولاد الإماء.عن زيد بن أرقم قال أتي أمير المؤمنين علي رضي الله عنه وهو ظاهرا في ثلاثة وقعوا على امرأة في طهر واحد فسأل اثنين فقال: أتقران لهذا بالولد ؟قالا :لا ،ثم سأل اثنين: أتقران لهذا بالولد ؟قالا :لا، فجعل كلما سأل اثنين أتقران لهذا بالولد قالا لا فأقرع بينهم فألحق الولد بالذي أقرع له وجعل عليه ثلثي الدية فذكر ذلك للنبي صلى الله عليه وآله وسلم فضحك حتى بدت نواجذه". رواه الخمسة إلا الترمذي ورواه النسائي وأبو داود موقوفا على علي بإسناد أجود من إسناد المرفوع ..... وقد أخذ بالقرعة مطلقا مالك والشافعي وأحمد والجمهور حكى ذلك عنهم ابن رسلان
هذا والقرعة أضعف الطرق في اعتماد الفقهاء عليها في إثبات النسب ؛ إنما يلجأ إليها إذا انعدم المرجح بين الأدلة السابقة كالبينة والإقرار والقيافة في ذلك يقول ابن القيم :"قد تستعمل في فقدان مرجح سواها من بينة أو إقرار أو قافة، وليس ببعيد تعيين المستحق بالقرعة في هذه الحال إذ هي غاية المقدور عليه ترجيح الدعوى ،ولها دخول في دعوى الأملاك المرسلة التي لا تثبت بقرينة ولا أمارة ،فدخولها في النسب الذي يثبت بمجرد الشبه الخفي المستند إلى قول القائف أولى وأحرى .
مما سبق يتبين أن طرق ثبوت النسب وإن تعددت إلا أنها تعود كلها إلى قاعدة الاحتياط فيه وأن أقوى طريق هو ما كان راجعا إلى الفراش أو شبه الفراش أما ما يأتي بعدها من طرق إنما يبني على الطريق الأول فكل من البينة والإقرار وحتى القيافة أو القرعة لا تثبت النسب إذا عدم الفراش أو ما يلحق به،فلا نسب لابن الزنا لأنه من ماء سفاح وهو ماء مهدور شرعا .
المبحث الثاني : البصمة الوراثية ومدى حجيتها في إثبات النسب.
وفي هذا المبحث سنتناول أمرين، الأول في طبيعة البصمة الوراثية، والثاني في اعتبار حجيتها في ثبوت النسب.
المطلب الأول : مفهوم البصمة الوراثية.
وفيه التعريف اللغوي والعلمي للبصمة الوراثية وكذا اكتشافها ومجالات استعمالها .
الفرع الأول :تعريف البصمة الوراثية.
فالبصمة لغة : مشتقة من البُصم وهو فوت ما بين طرف الخنصر إلى طرف البنصر وبَصَمَ بصماً إذا ختم بطرف إصبعه ، والبصمة أثر الختم بالإصبع .
والبصمة عند الإطلاق ينصرف مدلولها إلى بصمات الأصابع ،وهي : خطوط البشرة الطبيعية على باطن اليدين والقدمين و تتكون البصمات عندما توضع هذه الخطوط على حامل الأثر(أشياء غير خشنة وأسطح لامعة).
و البصمة الوراثية أو الجينية هي :أصل كل العلامات الوراثية الموجودة بالجنين منذ بداية نشأته و تكوينه و هي التي تحدد نوع فصيلة دم الجنين و نوع بروتينه و أنزيماته وشكل بصمات الأصابع و لون البشرة كما تتحكم في وظائف جميع الخلايا صحة وعلة .
وقد عرفها المجمع الفقهي بمكة بالتعريف التالي:"البصمة الوراثية هي البنية الجينية نسبة إلى الجنيات أي المورثات التي تدل على هوية كل إنسان بعينه"
فإذا علمنا أن كل خلية في الجسم ما عدا خلايا الدم الحمراء,فيها نواة تحمل 46 صبغياً (كروموسوم) وتتكون الصبغيات من خيطين لولبيين من الحمض النووي (دنا )DNA) (Deoxyribo nuclic acid) وهي بدورها تحمل الجينات التي تتحكم في الصفات الظاهرية كلون العين والشعر والجلد والطول بل هي مسئولة أيضا عن تخليق البروتينات المكونة لجسم الإنسان والتي تتحكم أيضا في عملياته الحيوية.كما توجد تلك الصبغيات في الخلايا الجنسية؛ الحيوان المنوي في الذكر والبويضة في الأنثى –و تحوي نصف هذا العدد من الصبغيات – .
فالحيوان المنوي يحتوي على 22 صبغيا جسدياً وصبغيًا واحدًا جنسيًا وهو إما صبغي x أو y, أما البويضة فتحوي 22 صبغيا جسديًا وصبغيًا جنسيًا x ويتكون الكائن الحي من اتحاد الحيوان المنوي الذكري مع البويضة الأنثوية لتكوين الزيجوت الذي يحوي 46 صبغيا, وكل صبغي جسدي متماثل في شكله وكذلك في نوع الجينات التي يحملها. أي أن كل خلية تحوي نسختين من كل جين, نسخة على كل صبغي من الصبغيين المتماثلين وكل نسخة تسمى «أليل» .
وعليه فإن البصمة الوراثية يمكن استخدامها في التحقق من البنوة حيث لا بد من تطابق ألائل الطفل مع ألائل الأب والأم إذ إن نمط الـ (دنا (لا جنسي) في الحيوان المنوي له ما يماثله في البويضة؛ أي أن الزيجوت يحتوي على 22 زوجا من الصبغيات الجسدية المتماثلة وصبغي x وy في الذكر أو x و x في الأنثى وكل زوج من الصبغيات الجسدية) للطفل هو مركب مشترك من نمط (دنا) الأم ونمط (دنا) الأب, ولا بد أن يكون في الأب الحقيقي ما يماثل ألائل الطفل
هذا وتحليل البصمة الوراثية غير تحليل فصائل الدم فبينما تكون نتائج البصمة الوراثية 99،99بالمئة في ثبوت النسب و100 بالمئة في نفيه لا تحقق تحليل فصائل الدم إلا جانب النفي دون الإثبات
الفرع الثاني :اكتشاف البصمة الوراثية ومجالات استعمالها.
لم تُعرَف البصمة الوراثية حتى عام 1984 حينما نشر د. "آليك جيفريز" عالم الوراثة بجامعة "ليستر" بلندن بحثًا أوضح فيه أن المادة الوراثية قد تتكرر عدة مرات، وتعيد نفسها في تتابعات عشوائية غير مفهومة.. وواصل أبحاثه حتى توصل بعد عام واحد إلى أن هذه التتابعات مميِّزة لكل فرد، ولا يمكن أن تتشابه بين اثنين إلا في حالات التوائم المتماثلة فقط؛ بل إن احتمال تشابه بصمتين وراثيتين بين شخص وآخر هو واحد في الترليون، مما يجعل التشابه مستحيلاً؛ لأن سكان الأرض لا يتعدون المليارات الستة، وسجل الدكتور "آليك" براءة اكتشافه عام 1985، وأطلق على هذه التتابعات اسم "البصمة الوراثية للإنسان" The DNA Fingerprint ، وعرفت على أنها "وسيلة من وسائل التعرف على الشخص عن طريق مقارنة مقاطع "(DNA)"، وتُسمَّى في بعض الأحيان الطبعة الوراثية "DNA typing"
وعليه فإن كل إنسان له صفاته التي حملها عند تكوينه تميزه عن غيره من البشر ومنه كانت البصمة الوراثية وسيلة إثبات هوية الأشخاص .هذا و يتميز الحمض النووي (البصمة الوراثية) بأنه دليل إثبات ونفي قاطع بنسبة مائة بالمائة إذا تم تحليل الحمض بطريقة سليمة، حيث إن احتمال التشابه بين البشر في الحمض النووي غير وارد ؛ومن الميزات الهامة أن بصمة الحمض النووي تظهر على شكل خطوط عرضية تسهل قراءتها والتعرف عليها وحفظها وتخزينها في الكمبيوتر للمقارنة عند الحاجة إلى ذلك، بعكس بصمات الأصابع التي لا يمكن حفظها في الكمبيوتر لفترات طويلة.
لذا فقدتم استعمال البصمة الوراثية في الأبحاث الجنائية كما في قضايا النسب لما تتميز به من دقة في النفي أو الثبوت ،وهي قرينة قوية في التعرف على الجناة ،فقد تعدت الاكتشافات الطبية الحديثة معرفة هذه الخاصية من جسم الإنسان إلى اعتماد البصمة الوراثية عن طريق أجزاء كثيرة من جسم الإنسان من لعاب أو شعر أو مني أو بول أو عظم أو غير ذلك.
هذا و كل خلية من خلايا جسم الإنسان تحمل في نواتها ما يسمى بالحمض النووي D.N.Aوهو عبارة عن بروتين يحمل مورثات أو جينات لها مواصفات تختلف من شخص لآخر وتبقى ثابتة مدى الحياة حتى بعد تحلل الجثة بعد الموت . لذلك صار الدليل الأوحد للكشف عن هوية الأشخاص بدقة متناهية سواء كانوا من المجرمين أو الضحايا في الأعمال الجنائية و التحقق من شخصيات المتهربين من عقوبات الجرائم ، و في إثبات أو نفي الجرائم، وذلك بالاستدلال بما خلفه الجاني في مسرح الجريمة،من أي خلية تدل على هويته كما هو الحال في دعاوى الاغتصاب والزنا والقتل والسرقة وخطف الأولاد.وللتأكد من صحة نسب الأبناء في قضايا الفصل في تنازع البنوة في حالات إنكار الشخص أبوته لطفل غير شرعي نتيجة الاغتصاب أو الزنا، أو ادعاء امرأة بأن طفلا لها يخص شخصا معينا لإجباره على الزواج منها، أو طمعا في ميراث، وفي قضايا تبادل المواليد في المستشفيات خطأ أو عمداً، فتأتي مهمة الطب الشرعي في تحديد النتائج الصحيحة والأشخاص الحقيقيين في مختلف هذه القضايا.
ويمكن تطبيق هذه التقنية والاستفادة منها في المجالات تحديد الشخصية أو نفيها مثل عودة الأسرى والمفقودين بعد غيبة طويلة وتحديد شخصية الأفراد في حالة الجثث المشوهة من الحروب والحوادث
لكن إلى أي مدى يمكن اعتبار البصمة الوراثية دليلا شرعيا لثبوت النسب في الفقه الإسلامي ؟
المطلب الثاني:حجية البصمة الوراثية في الثبوت الشرعي للنسب .
وفيه موقف العلماء المعاصرين من البصمة الوراثية في ثبوت النسب وشروط اعتبارها .
الفرع الأول: موقف العلماء من البصمة الوراثية.
لأن النسب له خطورته على الفرد والمجتمع فإنه يثبت كما سبقت الإشارة إليه بمجرد قيام الزوجية المعتبرة شرعا وما يقوم في حكمها، لذا نجد الفقهاء قديما وحديثا لا يجيزون سماع دعوى ثبوت النسب إلا في حال التنازع على مجهولي النسب ،أما ما أثبته فراش الزوجية فلا يحتاج إلى إثبات ولا ينتفي إلا بالطرق المشروعة ونعني به اللعان.
ومن ثم فظهور البصمة الوراثية كأداة يتحقق بها من علاقة الولادة بين الأبناء والآباء بنسبة أقرب لليقين جعل الفقهاء المعاصرون يختلفون في تصنيفها كدليل يقوم بذاته أو قرينة تؤيد المعلوم من القواعد المعروفة شرعا .
بداية يلاحظ أنه قد تلا ظهور البصمة الوراثية ، انعقاد ندوات ملتقيات تبحث في الحد الذي يمكن الوقوف عنده في اعتمادها في ثبوت النسب ، مع العلم أن اعتمادها في الأبحاث الجنائية كان محل اتفاق بين الفقهاء كما اتفقوا على شروطها، لكن في ثبوت النسب لوحظ تباين في آرائهم واجتهاداتهم خاصة فيما يتعلق بتكييف البصمة الوراثية مع قيام القواعد التي سار عليها الاجتهاد قديما وحديثا ،بين من اعتبرها قاعدة مستقلة ومن اكتفى بجعلها قرينة ،ومن قاسها على القيافة و ضيق بالتالي من مجال الأخذ بها في ثبوت النسب .
أولا- المؤيدون لاستعمال البصمة في إثبات النسب مطلقا :يرى هؤلاء أن البصمة الوراثية قد أثبت العلم دقة صحتها و انتفاء الخطأ عنها ،اللهم إلا مكان سببه بشري وهو أمر سهل الاحتياط فيه ،فدعوا إلى اعتمادها وإلزام إجراء التحليل الجيني حتى في غير مجال التنازع واقترحوا على الجهات المعنية بتسجيل المواليد، وجوب إرفاق طالب التسجيل، شهادة تثبت صحة البنوة بأن تكون بصمة الطفل مطابقة لبصمة الأبوين اللذين ثبتت علاقتهما الشرعية في وثيقة الزواج.، وهذا الأمر يستوجب باليقين أن تسجل البصمة الوراثية لكل من الزوجين بمجرد العقد وقبل الدخول، وتقارن تلك البصمة الخاصة بالزوجين معًا بقسيمة الزواج الرسمية، حتى إذا ما رزقهما الله بمولود توجّها لتسجيل اسمه مع بصمته الوراثية التي يجب أن تتطابق مع بصمة والديه الثابتة على قسيمة الزواج.و عللوا ذلك بأن فيه مصلحة ودفع مفاسد كثيرة واستند هذا الرأي إلى ما يلي:
إذا كان الفقهاء قد نصوا على استحباب اتخاذ السجلات لقيد الحقوق والأحكام، ونص بعضهم على وجوب ذلك إذا تعلق بحق ناقص الأهلية أو عديمها، فمن الضروري استصدار قرار إداري بمنع استخراج شهادة بقيد ميلاد طفل إلا بعد إجراء "البصمة الوراثية" لترفق وتلصق بتلك الشهادة، على أن في مثل هذا القرار مسايرة للعصر وأخذًا بالحقائق العلمية، وله نتائج اجتماعية عظيمة؛ حيث سيضيق الخناق على المنحرفين والمزورين وهو أقل حق يمنح لطفل القرن الحادي والعشرين الميلادي، الخامس عشر الهجري، الذي ولد في ظل الثورة المعلوماتية.
هذا من جهة ومن جهة أخرى فإنه وإن اتفق الفقهاء على أن الفراش سبب في ثبوت النسب إلا أن إثبات العلاقة بالفراش أمر يستحيل إثباته قطعا لما لها من خصوصية والقائمة على الستر؛ حيث حذّر النبي –صلى الله عليه وسلم- من إفشاء تلك العلاقة فقال: "إن شر الناس عند الله منزلة يوم القيامة الرجل يفضي إلى امرأته وتفضي إليه ثم ينشر سرها".ولذلك نسب الرسول -صلى الله عليه وسلم- الولد لصاحب الفراش، والفراش هو الجماع، والله تعالى يقول: "وَحَلاَئِلُ أَبْنَائِكُمُ الَّذِينَ مِنْ أَصْلاَبِكُمْ" [سورة النساء: الآية 23]
و هذا الذي حمل الفقهاء على التوجّه إلى إثبات الفراش الحقيقي عن طريق مظنته بقيام حالة الزوجية وفي مثل هذه الحال هو قيام حالة الزوجية بالعقد كما ذهب الحنفية، أو بالدخول كما ذهب الجمهور،لذلك رأينا الفقهاء يطلقون على هذه الحالة "دليل الفراش"، فجعلوا مظنة الفراش فراشًا، وشاع هذا الاصطلاح -عند الفقهاء- بالفراش دليلاً للنسب، والحقيقة أنهم يقصدون في الواقع مظنة الفراش وليس الفراش، كما صرح بذلك الشيرازي، وقال: "إن أتت المرأة بولد يمكن أن يكون منه (أي الزوج) لحقه في الظاهر، لأنه مع وجود هذه الشروط (قيام الزوجية واجتماع الزوجين وهما ممن يولد لمثلهما) يمكن أن يكون الولد منه، وليس هنا ما يعارضه ولا ما يسقطه، فوجب أن يلحق به".
والبصمة الوراثية قطعية في إثبات الصفات الوراثية ومن ثم صحة البنوة والأبوة دون ما إخلال بسمة الستر التي تميز العلاقة الزوجية التي يأتي على إثرها الولد و دون ما تشكّك في ذمم الشهود أو المقرين أو القافة؛ لأن الأمر يرجع إلى كشف آلي مطبوع مسجل عليه صورة واقعية حقيقية للصفات الوراثية للإنسان، والتي تتطابق في نصفها مع الأم الحقيقية، ونصفها الآخر مع الأب الطبيعي،و اعتبر هذا الرأي أن هذه أدلة الظنية وليست تعبدية حتى يتحرج من استعمالها في مقابل قطعية البصمة الوراثية في ثبوت النسب، إذ أن استعمالها ضرورة لا غنى عنه إلا إذا لم تتيسر الإمكانات لتعميم البصمة الوراثية فليس أمامنا بدّ من الاستمرار في تلك الوسائل الشرعية المعروفة.
وصدق الله –تعالى- حيث يقول: "سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الآفَاقِ وَفِي أَنفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ * أَلا إِنَّهُمْ فِي مِرْيَةٍ مِّن لِّقَاء رَبِّهِمْ أَلا إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ مُّحِيطٌ" [سورة فصلت: الآيتان 53، 54]. وبناء عليه ذهب علماء من الأزهر نذكر منهم: الدكتور محمد رأفت عثمان عضو مجمع البحوث الإسلامية و الدكتور عبد المعطي بيومي عضو مجمع البحوث الإسلامية بالأزهر إلى أنها تيسر التحقق من نسب ولد الزنا و أن القول بأن: ماء الزنا هدر -أي ما ينتج عنه غير معترف به- فيه تجاهل لمصالح المسلمين، وما قام الشرع إلا لتحقيق هذه المصالح.
وأكد الدكتور بيومي أن إثبات النسب بالبصمة الوراثية، خاصة لولد الزنا سيؤدي إلى التقليل من جرائم الزنا؛ لأن الزاني إذا أدرك أنه سيتحمل عاقبة جريمته فسيفكر ألف مرة قبل ارتكاب الفاحشة، وكذلك الحال بالنسبة للمرأة.
واتفق الدكتور محمد رأفت عثمان عضو المجمع البحوث الإسلامية أيضا على ضرورة الأخذ بتحليل البصمة الوراثية لإثبات ولد الزنا لأبيه، إلا أنه يفرق بين حالة المرأة المتزوجة التي زنت، والمرأة غير المتزوجة.وأوضح أن طريقة إثبات الشرع للنسب تختلف عن نظرته لإقامة حد الزنا، ففي الأولى يتم إثباتها بأدنى دليل، أما في الحالة الثانية فيسقط الحد بوجود أي شبهة.
وقال: إنه يجوز أن ينسب ولد الزنا من المرأة غير المتزوجة إلى الزاني، حيث قال بذلك مجموعة من كبار الفقهاء منهم ابن تيمية وابن القيم، أما إذا كان ولد الزنا من امرأة متزوجة فلا يجوز بإجماع العلماء أن يدعيه الزاني، ويطالب بإلحاق نسبه به للقاعدة التي بينها رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهي قوله الشريف: "الولد للفراش وللعاهر الحجر".
وعليه ذهبوا إلى اعتبار البصمة الوراثية سببا في ثبوت النسب للوالد وإن كان ابن زنى فقدم على دليل الفراش و إن حصر في حالة زنى غير المتزوجة فيرى هؤلاء جواز الاستعانة به، معتبرين أنه سيقلل من جرائم الزنا. وإعادة النظر في تنسيب ابن الزنا للفاعل بناء على تفسير حديث "الولد للفراش" على حقيقته وليس على مظنته ، وقياسا على وطء الشبهة ، وعملا بتكملة الحديث "واحتجبي منه يا سودة" لما رأى الشبه بينا بعتبة بن أبى وقاص ، ولعدم وجود دليل شرعي يمنع من هذا التنسيب الذى ذهب إليه بعض المالكية وبه قال الحسن وابن سيرين والنخعى وإسحاق وعروة وسليمان بن يسار كما ذهب إليه الحنفية بشرط الزواج منها إن كانت خلية ( بدون زوج ) .
ولأن أكثر الفقهاء يرخصون فى استلحاق مجهول النسب دون استفصال طالب الإلحاق شريطة أن يكون ذلك ممكنا عقلا . وأخذا بروح النص فى قوله تعالى :[ادعوهم لآبائهم هو أقسط عند الله فإن لم تعلموا آبائهم فإخوانكم فى الدين ومواليكم وليس عليكم جناح فيما أخطأتم به ولكن ما تعمدت قلوبكم وكان الله غفورا رحيماً ] الأحزاب الآية 5 .حيث نفى الله الإثم لمصلحة الأطفال عند عدم تعمد الخطأ فى تنسيبهم.
وإذا ما أخذنا بهذا التوجه حققنا فوائد كثيرة منها :
1. الإستفادة بنعمة الله تعالى فى ظهور البصمة الوراثية كآية من آيات الله فى الإنسان ، التى تحقق الهوية الشخصية بصفاتها الذاتية والمرجعية.
2. إنقاذ المتشردين من أطفال المسلمين وتقليل ظاهرة إلقاء المولودين على أعتاب المساجد أو بجوار صناديق القمامة.
3. تحميل المتسبب مسئولية التربية والإنفاق إعمالا للقاعدة الشرعية " الغرم بالغنم ".
وبناءا عليه فلا مانع من الأخذ بالبصمة الوراثية بدل امن "اللعان" لإثبات جريمة الزنا أو نفيها عن الزوجة لدى اتهام الزوج لها وعدم اعترافه بالأبناء،يقول د.بيومي في : "إن الأخذ بالوسائل العلمية -خاصة تحليل الـDNA بوصفها شهادة- قاطع للنزاع ومنصف للأبناء، ومحقق لمصلحتهم، وواضع للعدالة موضعها الصحيح -حيث يردع المتطاولين على الشرف- وحفظ الأنساب"، مؤكدا أن الأخذ بهذا التحليل أمر ضروري لأن "الأيمان التي يحلف بها الزوجان في اللعان كانت رادعة للناس في عصور كان الخوف فيها من الله يردع الناس عن ارتكاب المظالم وظلم النساء والأولاد، أما اليوم أصبح لا يعبأ الكثيرون بحدود الله ولا بالأيمان الغموس".
ثانيا- من يرى التقيد في الأخذ بالبصمة الوراثية في اثبات النسب و قد رأى فريق أخر من العلماء أن ما ذهب إليه الفريق الأول فيه توسع في الأخذ بالبصمة الوراثية في ثبوت النسب والقول بوجوب التحليل الجيني للزوجين قبل الزواج أمر فيه مشقة على الناس وإن كان فيه معنى الاحتياط لذا نجد من الفقهاء من يرى بأن أخذ بصمة الزوجين قبل الزواج وتسجيلها في الدوائر الحكومية،يعود إلى حرية الاختيار للزوجين ليس على سبيل الإلزام ولا يجوز إجبار الناس عليه. وأن الدعوة لتسجيل بصمة الوالدين ينافي ما قرره الشرع من مبدأ الستر.
أما القول بتقديم البصمة على دليل الفراش، قول فيه تجاوز لما سار عليه الاجتهاد و ما دلت عليه النصوص وإن حقق مصالح ظاهرة كتلك التي عدوها فإن في الأمر تشجيع على فعل الزنا لا تقليل منه و إليه ذهب الدكتور يوسف القرضاوي رئيس الاتحاد العالمي لعلماء المسلمين فقال:"إن البصمة الوراثية لا يثبت بها النسب في حالة الزنا؛ وذلك لأن الشرع وإن كان يتشوف لإثبات النسب، فإنه في ذات الوقت يرى أن الستر مقصد هام تقوم عليه الحياة الاجتماعية؛ لئلا تشيع الفاحشة في الذين آمنوا، ودليله ما قاله النبي صلى الله عليه وسلم لمن دفع ماعز بن مالك من الإقرار بالزنا "هلا سترته بطرف ثوبك".وهذا مبني على أن الشرع يقر بأن "الولد للفراش"، فالأصل في إثبات النسب هو فراش الزوجية، كما أن الشرع تشدد في جريمة الزنا، واشترط لها أربعة شهود، فكل وسيلة غير شهود الأربعة بقيام رجل وامرأة بعملية الزنا الحقيقي، فلا قيمة له، ولا يتم به نفي نسب.و الشرع لا يعاقب على جريمة الزنا وإنما يعاقب على الاستهتار والمجاهرة بها، حتى يرى الشخص أربعة من الناس جهارًا نهارًا عيانًا بيانًا يقوم بإتيان تلك الكبيرة، أما فعلها في الخفاء، فيكفي فيه الستر.ومن القواعد الفقهية في تلك المسألة أن الحدود تدرأ بالشبهات، وما لم نكن على يقين من القيام بالزنا، فلا يحكم به، وبالتالي لا يعتد بالبصمة الوراثية في إثبات النسب."
ويرى الدكتور علي جمعة مفتي مصر ،بأن الرد عليه من جهتين: الجهة الأولى أن الزنا غير معتبر، وأيضًا زنا المحارم ، فإذا اعترفنا بنسب ولد الزنا سنكون أمام حالة سنفرق فيها بين الناس، فالزنا بين الرجل والأجنبية غير معتمد وحرام، والزنا بين الأب والبنت، والأخ وأخته غير معتمد وحرام، فهل يعقل أن نقول في الأولى نثبت النسب، وفي الثانية لا نثبت النسب؟! وإذا أردنا أن نثبت النسب لكل زاني فإننا سنرفع نظام القرابة وهو أول معول في القضاء على الاجتماع البشري.. إذن عندما لا أعتمد الزنا أنا لا أرتكب جريمة.. بل على العكس فأنا أحافظ على الاجتماع البشري.
والجهة الأخرى هي صورة اللقيط مجهول الأب والأم أصلاً، فماذا نفعل فيه، وإلى أي شيء ننسبه، ومن ثم فمشكلات الطفل الذي جاء خارج الاعتماد الشرعي لها صور كثيرة لن تحل كلها، ونحن نحاول أن نحلها بقدر المستطاع ، إذن فكلامنا واجتهادنا الجديد يراعي طائفة كبيرة جدًّا، ويحاول أن يقي المجتمع وهو قال به الأستاذ محمد أحمد الميسر أستاذ بكلية أصول الدين بجامعة الأزهر .
أما الاستدلال بما ذهب إليه بعض فقهاء المسلمين من جواز استلحاق ابن الزنا بالزاني فإنه قد رده كثير من الفقهاء لأن هؤلاء قد عملوا القياس في مقابل النص و أن ما استدلوا به لفعل عمر إنما كان ذلك خاص بأولاد الجاهلية عندما كان يقضي بإلحاق أولاد الجاهلية بمن ادعاهم إذا لم يكن هناك فراش
وما نسب إلى فقهاء من المالكية والحنابلة إنما جاء في معرض عن الحديث عن ثبوت حرمة المصاهرة بالزنا.
وأن ما نسب إلى الحنفية ،فقول فيه مغالاة لأننا نجد السرخسي من علماء الحنفية يقول:"إذا أقر رجل بأنه زنا بامرأة حرة وأن هذا الولد ابنه من الزنا وصدقته المرأة فإن النسب لا يثبت من واحد منهما لقوله صلى الله عليه وسلم :"الولد للفراش وللعاهر الحجر" ولا فراش للزاني وقد جعل رسول الله - صلى الله عليه وسلم -حظ الزاني الحجر فقط وقيل هو إشارة إلى الرجم وقيل هو إشارة إلى الغيبة كما يقال للغيبة الحجر أي هو غائب لا حظ له والمراد هنا أنه لا حظ للعاهر من النسب ونفي النسب من الزاني حق الشرع، إما بطريق العقوبة ليكون له زجرا عن الزنا إذا علم أن ماءه يضيع به،أو لأن الزانية نائبها غير واحد فربما يحصل فيه نسب الولد إلى غير أبيه وذلك حرام شرعا ولا يرتفع هذا المعنى بتصديق المرأة وكان نفي النسب عن الزاني لحق الولد فإنه يلحقه العار بالنسبة إلى الزاني وفيه إشاعة الفاحشة وهذا المعنى قائم بعد تصديق المرأة " .
وفي المؤتمر الذي عقدته المنظمة الإسلامية للعلوم الطبية والذي شارك فيه أبرز العلماء و الأطباء المتخصصين أكد المؤتمرون على أن البصمة الوراثية لا تعتبر دليلا على الفراش الزوجية فهذه الأخيرة تثبت بالطرق الشرعية لا غير ،وفي قرار للمجمع الفقهي لرابطة العالم الإسلامي بمكة في دورته السادسة عشر :" أنه لا بد أن تقدم النصوص والقواعد الشرعية على البصمة الوراثية.بما فيها البينة و الإقرار ذلك أن البصمة الوراثية لم يأت دليل على اعتبارها قاعدة في إثبات النسب كما هو الحال بالنسبة للفراش والبينة والإقرار و من ثم فلا مجال لتقديمها عليها ومتى ثبت النسب بإحدى هذه الطرق لم يكن هناك مجال لإعمال البصمة الوراثية.
وهي ليست دليل يقوم في إثبات النسب و لا نفيه بل هي مجرد قرينة لا تقدم على أي دليل شرعي و لا يقام بها حكم مستقل بل يستأنس بها عند الحكم ولا يعني ذلك أن تكون شرطا أو مانعا لإعمال البصمة الوراثية بل العكس هو الصحيح
ولأن هذه الطرق قد أجمعت الأمة على اعتبارها في ثبوت النسب و إثباته وفي المقابل فإن البصمة الوراثية أمر مستحدث و هو في طور الاختبار و أن الخطأ البشري و العملي وارد عليها باعتراف من الخبراء، ومن ثم نجد العلماء و القضاة في البلاد التي أخذت بها لم تكن كلمتهم محل اتفاق حول حجيتها في إثبات النسب .وإن قدم الأخذ بالبصمة الوراثية على القيافة و القرعة ،فمن باب الأولى ، ذلك أن القيافة تقوم على التخمين و استعمال القدرة على تمييز الشبه بين الناس فمن باب أولى إعمال البصمة الوراثية التي تستنبط الشبه بين الأشخاص على أساس تجريبي وحسي عملي مشاهد .
ثم إن النظريات العلمية الحديثة من طبية وغيرها مهما بلغت من الدقة والقطع بالصحة في نظر المختصين إلا أنها تظل محل شك ونظر ، لما علم بالاستقراء للواقع أن بعض النظريات العلمية المختلفة من طب وغيره يظهر مع التقدم العلمي الحاصل بمرور الزمن إبطال بعض ما كان يقطع بصحته علمياً ، أو على الأقل أصبح مجال شك ومحل نظر ، فكم من النظريات الطبية -علي وجه الخصوص - كان الأطباء يجزمون بصحتها وقطعيتها ، ثم أصبحت تلك النظريات مع التقدم العلمي الطبي المتطور ضرباً من الخيال وهذا أمر معلوم وثابت مما يحتم على الفقهاء والباحثين الشرعيين التروي في النظر ، وعدم الاندفاع بالأخذ بالنظريات العلمية كأدلة ثابتة توازي الأدلة الشرعية أو تقاربها ، فضلاً عن إحلال تلك النظريات محل الأدلة الشرعية الثابتة أمارات قد تحمل عليه ، أو قرائن قد تدل عليه ، لأن الشارع يحتاط للأنساب ويتشوف على ثبوتها . ويكتفي في إثباتها بأدنى سبب ، فإذا ما ثبت النسب فإنه يشدد في نفيه ، ولا يحكم به إلا بأقوى الأدلة .
والقول بإعمال البصمة الوراثية بدل اللعان فيه تجاوز لحكم ثبت بالنص القرآني ،لأن اللعان قد جعلته الشريعة الإسلامية فرجا و مخرجا للأزواج عند فقد الشهود الأربعة ؛وهو الطريق الوحيد لنفي النسب إذا ما توافرت شروط الملاعنة الصحيحة، وهو من باب تقديم أقوى الدليلين على الآخر كما بين ذلك ابن القيم، فكان إلغاء دلالة الشبه التي أبطلها النبي –صلى الله عليه وسلم بدلالة أقوى هي اللعان ، كما أبطلها مع قيام دلالة الفراش ، و من ثم كان العمل باللعان واجبا .
ولا يمنع ذلك من التفريق بين حالات اللعان لتحقيق مقاصد الشرع في النسب وعليه ذهب جمهور من العلماء الأزهر نذكرهم: د. عبد الحي عزب عبد العال، ود. عبد العزيز عزام، والشيخ عبد الله مجاور- على أنه من الممكن الأخذ بتحليل الـ"DNA" من أجل رفع الضرر عن الزوجة، واتخاذه كطريق لإثبات نسب الأبناء إلا أنه لا يمكن الأخذ به لإثبات جريمة القذف على الزوج الذي لاعن زوجته، مشيرين إلى أن الأخذ باللعان هو أمر محقق للستر بين الزوجين، وأن الأخذ بمسألة تحليل البصمة الوراثية إنما يكون من جانب الأخذ بعوامل مساعدة لرفع الضرر وليس لإثبات حكم شرعي أو نفيه
ومن ثم فإن البصمة الوراثية لا تقوم أبدا مع اللعان في حال قذف الزوج لزوجته بالزنا فبالإضافة إلى كونه حكما شرعيا ثابتا ،فإنه عمليا لا فائدة من إعمال البصمة الوراثية في مقابل اللعان لتثبيت جريمة الزنا على الزوجة و هو طريق-أي اللعان-شرع لرفع الحد و إبعاد التهمة عن كلا الزوجين، جريمة القذف عن الزوج و جريمة الزنا عن الزوجة ، إذ أن اللعان فيه تحقيق لمبدأ الستر الذي تشوف إليه الشارع حين شرعه ،ثم إن الاستشهاد بالبصمة الوراثية إما أن تأتي نتائجها مؤيدة لادعاء الزوج و من ثم يجني على الزوجة الفضيحة و عدم الستر و يترتب عليه عدم ثبوت نسب الولد و كان أولى الاكتفاء باللعان لأن النتيجة ستكون واحدة هي نفي النسب الولد والفرقة بينهما، ، أو تكون لصالح براءة الزوجة من ثم يكون الزوج قد أساء الظن بزوجته مع ما قد يكون قد كلفه هذا الإجراء من مصاريف كان في غنى عنها.
أما في ما يخص نفي النسب في اللعان ،و إقرارا لقاعدة رفع الضرر فإنه يؤخذ بقول الزوجة في ما يخص إجراء التحليل بالبصمة الوراثية – لأنه لا يتصور عقلا أن تطلب هي المتهمة دليل لإدانتها عن طريق البصمة الوراثية فلا تقدم على ذلك إلا إذا كانت متيقنة من براءتها – فيجرى التحليل لدفع التهمة عنها أولا ،و لإثبات نسب ولدها للزوج ، وفيه إراحة لنفس الزوج من الشكوك و الوساوس وهو ما قال به الشيخ القرضاوي
وهذا القول ليس فيه تقديم البصمة الوراثية على اللعان كما هو الحال إن كان بطلب من الزوج فلا يسمع له و يكتفى باللعان .
الفرع الثاني: شروط اعتبار البصمة الوراثية في النسب
ولان البصمة الوراثية مجرد قرينة لا يجوز تقديمها على الطرق الشرعية المتفق عليها في اثبات النسب فهي وسيلة علمية حديثة لا غنى للقضاء عنها ومن ثم جاء قرار المجمع الفقهي و سائر الندوات التي بحثت تكييفها الشرعي وكذا ما كتبه المتخصصون في الموضوع أن إعمال البصمة الوراثية في ثبوت النسب يجب أن يحاط بجملة ضوابط تعود كلها لحفظ النسب و العرض وهما من الضروريات التي جاءت أحكام الشريعة لحفظها هذه الضوابط إما شروط تتعلق بالعاملين عليها ، العلماء ومكان عملهم ؛ أو شروط تحدد الحالات التي يؤخذ بها بالبصمة.
أولا-من أجل ضمان صحة نتائج البصمة الوراثية فقد ذكر بعض الفقهاء والأطباء المختصين بالبصمة الوراثية ضوابط لابد من تحققها كي يمكن الأخذ بنتائج البصمة الوراثية وهذه الضوابط تتعلق بخبراء البصمة الوراثية وبطريقة إجراء التحاليل ، والمختبرات والمعامل الخاصة بالبصمة الوراثية وأهم هذه الضوابط ما يأتي :
1- أن تكون مختبرات الفحص للبصمة الوراثية تابعة للدولة أو تشرف عليها إشرافاً مباشراً ويكون بطلب من القضاء ، مع توفر جميع الضوابط العلمية والمعملية المعتبرة محلياً وعالمياً في هذا المجال.
2- أن يكون جميع القائمين علي العمل في المختبرات الخاصة بتحليل البصمة الوراثية سواء كانوا من خبراء البصمة الوراثية أو من المساندين لهم في أعمالهم المخبرية ممن توفر فيهم أهلية قبول الشهادة كما في القائف ، إضافة إلي معرفة كل منهم وخبرته في مجال تخصصه الدقيق في المختبر
3-يشترط أن يكون القائمون على العمل في المختبرات المنوطة بإجراء تحاليل البصمة الوراثية من يوثق بهم علما وخلقا وألا يكون أي منهم ذا صلة قرابة أو صداقة أو عداوة أو منفعة بأحد المتداعين أو حكم عليه بحكم مخل بالشرف أو الأمانة.
4- توثيق كل خطوة من خطوات تحليل البصمة الوراثية بدءاً من نقل العينات إلى ظهور النتائج حرصاً علي سلامة تلك العينات وضماناً لصحة نتائجها ، مع حفظ هذه الوثائق للرجوع إليها عند الحاجة .
5- عمل التحاليل الخاصة بالبصمة بطرق متعددة ، وبعدد أكبر من الأحماض الأمينية ، ضماناً لصحة النتائج قدر الإمكان
ثانيا- في ما يخص النسب: أن استعمال البصمة الوراثية في مجال النسب لابد أن يحاط
بمنتهي الحذر والحيطة و السرية ، ولذلك:
1. لابد أن تقدم النصوص والقواعد الشرعية علي البصمة الوراثية .
2. لا يجوز شرعاً الاعتماد علي البصمة الوراثية في نفي النسب ولا يجوز تقديمها على اللعان .
3. لا يجوز استخدام البصمة الوراثية بقصد التأكد من صحة الأنساب الثابتة شرعاً ، ويجب علي الجهات المختصة منعه وفرض العقوبات الزاجرة ، لأن في ذلك المنع حماية لأعراض الناس وصوناً لأنسابهم .
4. يجوز الاعتماد علي البصمة الوراثية في مجال إثبات النسب في الحالات الآتية :
• حالات التنازع علي مجهول النسب بمختلف صور التنازع التي ذكرها الفقهاء ، سواء أكان التنازع علي مجهول النسب بسب انتفاء الأدلة أو تساويها ، أم كان بسبب الاشتراك في وطء الشبهة ونحوه .
• - حالات الاشتباه في المواليد في المستشفيات ومراكز رعاية الأطفال ونحوها ، وكذا الاشتباه في أطفال الأنابيب .
• حالات ضياع الأطفال واختلاطهم ، بسبب الحوادث أو الكوارث أو الحروب ، وتعذر معرفة أهلهم ، أو وجود جثث لم يمكن التعرف علي هويتها ، أو بقصد التحقق من هويات أسرى الحروب والمفقودين .
الخاتمة :
يتبين لنا مما السبق أن النسب من المسائل المهمة التي حرصت أحكام الشريعة الإسلامية و الفقهاء في اجتهادهم على صونها وحمايتها فأثبتته بكل دليل وتشددت في نفيه فلا ينتفي إلا بأقواها ونعني هنا اللعان ، ولأنها شريعة صالحة لكل زمان ومكان كانت الاستفادة من كل ما تجد به التطورات العلمية ،كما هو الحال في النسب فكان اكتشاف البصمة الوراثية وما تلته من ندوات ومؤتمرات لبحث التكييف الشرعي لها، له دلالته على ريادة الفقه الإسلامي والعاملين عليه في رعاية النسب و المبادرة بالأخذ بالاكتشافات العلمية ، هذا والأخذ بالبصمة الوراثية في اثبات النسب لابد وان يوافق مقاصد الشريعة في الأحكام ،فلا يخالف المعلوم منها بالضرورة ولا ثابت بنص. ومن ثم كانت الضوابط التي وضعها المقررون في المجمع الفقهي بمكة لتأكيد أنه لا مانع من الاستفادة من الطرق العلمية في إثبات النسب بشرط أن تتناسق مع الطرق الثابتة شرعا فلا تعارضها ومن باب أولى لا تتقدمها .
قائمة المراجع:
ابن قيم الجوزية،زاد المعاد في هدي خير العباد الجزء الخامس
أعلام الموقعين. (دار الجيل بيروت 1973 تحقيق طه عبد الرؤوف سعد ) ج1.
أحمد عبد الحليم بن تيمية ،كتب و رسائل و فتاوى ابن تيمية (مكتبة ابن تيمية تحقيق : عبد الرحمن محمد قاسم الحنبلي )
محمد بن أبي سهل السرخسي ،المبسوط صحيح( بيروت دار المعرفة 1406هـ) ج17
ابن عبد البر المالكي ،التمهيد ( تحقيق :مصطفى العلوي ، محمد الكري المغرب وزارة عموم الأوقاف و الشؤون الإسلامية 1317 هـ) ج8
ابن رشد ،بداية المجتهد(دار الجيل بيروت ،مكتبة الكليات الأزهرية القاهرة تحقيق طه عبد الرؤوف سعد 142هـ-2004م) .ج2
محمد بن عبد الرحمن المغربي ،ومواهب الجليل ( دار الفكر بيروت 1398 هـ)ج5
ابن عابدين، حاشية رد المحتار (ط2 دار الفكر بيروت 1386هـ) ج5
ابن حزم ،المحلى (دار الآفاق الجديدة بروت تحقيق لجنة إحياء التراث العربي) ج 10
الشربيني ،المغني المحتاج (دار الفكر بيروت)ج 2 ج8.
أبو زكريا النووي شرح النووي على صحيح مسلم (ط2 دار إحياء التراث العربي بيروت 1392هـ.) ج10
البخاري ، صحيح البخاري.(دار أحياء التراث العربي بيروت تحقيق فؤاد عبد الباقي) ج2.
أبو داوود،سنن أبي داود.(دار الفكر تحقيق:محمد عبد الحميد) ج2.
ابن قدامةالمقدسي، المغني( ط1.دار الفكر بيروت 1405هـ ) ج6.
خليفة الكعبي، البصمة الوراثية و أثرها على الأحكام الشرعية ( مصر دار الجامعة الجديدة للنشر 2004)
منصور عمر المعاطي، الأدلة الجنائية و التحقيق الجنائي .(مكتبة دار الثقافة للنشر و التوزيع عمان 2000)
حسنين البوادي، الوسائل العلمية الحديثة في الإثبات الجنائي (منشأة المعارف الإسكندرية 2005)
منصور عمر المعايطة ، الأدلة الجنائية و التحقيق الجنائي –لرجال القضاء والإدعاء العام وأفراد الضابطة العدلية-ط1 مكتبة دار الثقافة للنشر والتوزيع عمان الأردن2000م.
عبد الوهاب خلاف ، أحكام الأحوال الشخصية في الشريعة الإسلامية (ط2 .دار القلم الكويت1410هـ.1990م).
بلحاج العربي .الوجيز في شرح قانون الأسرة الجزائري ج(1 الزواج والطلاق.ديوان المطبوعات الجامعيةالجزائر 1999م).
محمد محدة، سلسلة فقه الأسرة : الخطبة والزواج .(ط2.دد.دت.دن.)
لاجتهاد القضائي لغرفة الأحوال الشخصية عدد خاص 2001 ص70. ملف رقم 172379 قرار بتاريخ :28/10/1997
الاجتهاد القضائي لغرفة الأحوال الشخصية عدد خاص .(المحكمة العليا قسم الوثائق 2001 الديوان الوطني للأشغال التربوية).
قانون الأسرة الجزائري رقم 84/11 المعدا والمتمم بالأمر 05/02
معاجم لغوية:
علي بن محمدلجرجاني كتاب التعريفات (دار الكتاب العربي بيروت 1405هـ ط1تحقيق ابراهيم االأبياري. )
ابن منظور ، لسان العرب.(دار المعارف بيروت دت دط ).ج1.
محمد بن عبد الرؤوف المناوي،التوقيف على مهام التعاريف (دار الفكر المعاصر ،بيروت ، دار الفكر دمشق.1410هـ.ط1تحقيق محمد رضوان الداية .)
مواقع الكترونية
• www.qaradawi.net
اثبات النسب بالبصمة الوراثية حق للمراة لا للرجل" ، فتاوى وأحكام 14/03/2006
• لرابطة العالم الإسلامي www.themwl.org:
1. عمر بن محمد السبيل البصمة الوراثية ومشروعية استجدامها في النسب و الجناية" أبحاث الدورة السادسة عشر للمجمع الفقهي بمكة المكرمة
2. قرارات المجمع للدورة السادسة عشر المنعقدة في المدة من 21-26/10/1422 هـ الذي يوافقه 5-10/1/2002 م
المنظمة الإسلامية للعلوم الطبية www.islamset.com ندوة : "مدىحجية استخدام البصمة الوراثية لاثبات البنوة"
1 "ملخص ورقة العمل عن البصمة الوراثية وعلائقها الشرعية "المقدمة للمنظمة الإسلامية للعلوم الطبية 3 ، 4 /5/2000 م
إعداد أ . د / سعد الدين مسعد هلالي
2 ملخص الحلقة النقاشية حلقة نقاش في يومي 28 ، 29 محرم 1421 هـ
”الهيئة العالمية للإعجاز العلمي في القرآن والسنة - مكة المكرمة www.nooran.org
د. سفيان العسولي ،"البصمة الوراثية ".
www.islamonline.net:
1. صبحي مجاهد-فقهاء ضد استبدال البصمة الوراثية باللعان القاهرة- / 18-6-2005
2. صبحي مجاهد" مفتي مصر:لا لإثبات نسب ولد الزنا بـ"DNA" الأخبار: الإثنين 24 ربيع الآخر 1427هـ - 22/05/2006م
3. سعد الدين مسعد الهلالي. البصمة الوراثية وقضايا النسب الشرعي. الإسلام وقضايا العصر
4. نهى سلامة،ا لبصمة الوراثية تكشف المستور! 18/01/2001
5. صبحي مجاهد آراء العلماء في إثبات ولد الزنا بـ"DNA القاهرة - - 22-5-2006
www.islamtoday.net
-عبد الرشيد محمد أمين بن قاسم "البصمة الوراثية" بحوث و دراسات/ 28/4/1425 16/06/2004
التعديل الأخير بواسطة المشرف:
اسم الموضوع : ثبوت النسب بين الطرق الشرعية والبصمة الوراثية
|
المصدر : قانون الأسرة