المحاكم الجنائية الدولية _المحطات التاريخية الكبرى التي ساهمت في نشوئها _اختصاصها القانونية
المحتويات:
المقدمة
الفصل الاول: مرحلة ما بعد الحرب العالمية الاولى.
المبحث الاول: معاهدة فرساي والمحكمة الجنائية الدولية.
المبحث الثاني: عصبة الامم ومحاولات انشاء محكمة جنائية دولية.
الفصل الثاني:مرحلة مكا بعد الحرب العالمية الثانية.
المبحث الاول: المقدمات لأنشاء محكمة دولية مؤقته.
المبحث الثاني: محكمة نورمبيرغ.
المطلب الاول: اجهزة المحكمة وتشكيلاتها.
المطلب الثاني: اختصاص المحكمة.
البند الاول: الاختصاص النوعي.
البند الثاني: الاختصاص الشكلي.
المطلب الثالث: تقييم محكمة نورمبيرغ.
المبحث الثالث: جهود الامم المتحدة في فترة ما بعد الحرب.
الفصل الثالث: القضاء الجنائي الدولي المؤقت بعد الحرب الباردة.
المبحث الاول: المحكمة الجنائية الدولية للانتهاكات في يوغسلافيا السابقة.
المطلب الاول: اجهزة المحكمة.
المطلب الثاني اختصاص المحكمة.
المبحث الثاني المحكمة الجنائية الدولية لرواندا.
الفصل الرابع: المحكمة الجنائية الدولية الدائمة.
المبحث الاول: اجهزة المحكمة وتشكيلاتها.
المبحث الثاني: اختصاص المحكمة.
المبحث الثالث: تقييم المحكمة الجنائية الدولية الدائمة.
التوصيات
المصادر
المقدمة
يُرجع بعض الباحثين فكرة انشاء محكمة جنائية دولية الى حقب تاريخية بعيدة. وقالوا ان تطبيقات لها حدثت في التاريخ المصري القديم عام 1286 قبل الميلاد، فيما اشار آخرون الى محاكمة ملك يودا المهزوم من قبل الملك البابلي نبوخذ نصر في الدولة البابلية. ويستدل البعض على قدم الفكرة من خلال المحاكمة التي جرت لأرشيدوق النمسا في اقليم الراين حيث حكم عليه بالاعدام والى المحاكمة التي تمت في نابولي عام 1268 ( 1 ).
ولما كان القضاء الجنائي الدولي يوجد حيث يوجد قانون جنائي دولي ليكون وسيلة لتطبيقه، ولعدم وجود قانون دولي عام في التاريخ القديم، فضلا عن عدم وجود قانون جنائي دولي الذي هو فرع الاول فلا يمكن والحالة هذه تصور وجود قضاء جنائي دولي. فما الفائدة من وجود القضاء مع عدم وجود القانون الذي يختص بتطبيقه. واذا وجد مثل هذا القضاء وسعى لتطبيق القانون المحلي فلا يمكن اعتباره قضاء دوليا وانما هو قضاء وطني يطبق قانون محلي. اما ما اشير اليه من محاكمات في العصور القديمة فانها تمت بناء على ارادة المنتصر وبموجب قانونه الوطني حيث يجوز للمنتصر ما لايجوز لغيره. الامر الذي دعى بعض الباحثين الى تناول فكرة القضاء الجنائي الدولي من فترة ما بعد الحرب العالمية الاولى وهو توجه اكثر دقة.
يمكن اعتبار فكرة القضاء الدولي تعود الى الدعوات الصريحة التي تضمنها مشروع الاتفاقية الذي اعده غوستاف موانييه عام 1872 لضمان تنفيذ اتفاقية جنيف لعام 1864 حيث اقترح انشاء محكمة ترفع اليها الشكاوى الخاصة بالاعمال التي تعتبر انتهاكات للاتفاقية المذكورة في حالة نشوب حرب بين دولتين او اكثر ويتم تشكيلها من خمسة قضاة، يعين ثلاثة منهم عن طريق الاقتراع من الدول الاعضاء في الاتفاقية ويتميزون بالحياد في مواقفهم من الحرب، اضافة الى قاضيين يتم تعينهم بمعرفة الدولتين المتحاربتين. وينحصر اختصاصها بالمخالفات لاتفاقية عام 1964 والتي ترفع اليها من قبل الحكومات المعنية. الا ان هذا المقترح لم ير التطبيق وكان مصيره مصير الكثير من المقترحات التي تبنتها العديد من الهيئات والمؤتمرات الدولية التالية له.
لذلك سيتم بحث القضاء الجنائي الدولي في ثلاث مراحل، وفي كل مرحلة يختلف مصدر انشائها . فما بعد الحرب العالمية الاولى كانت معاهدة فرساي لعام 1919 مصدرا للقضاء الذي تم لمحاكمة امبراطور المانيا وبعض مرتكبي الجرائم، وقد اخفقت في اداء دورها وان اعتبرها البعض خطوة مهمة على الطريق الصحيح. اما المرحلة الثانية فهي ما بعد الحرب العالمية الثانية وتم خلالها انشاء محكمتي نورمبيرغ وطوكيو. اما المرحلة الثالثة فهي ما بعد الحرب الباردة وانشأ خلالها نوعين من المحاكم :
1 – محاكم انشأها مجلس الامن مثالها محكمتي يوغسلافيا السابقة ورواندا وهما محكمتان مؤقتتان .
2 – المحكمة الجنائية الدولية الدائمة التي تم انشائها بموجب اتفاقية روما عام 1998 .
لذلك سنخصص فصلا مستقلا لكل مرحلة من هذه المراحل الثلاث .
الفصل الاول
مرحلة ما بعد الحرب العالمية الاولى
ما ان وضعت الحرب العالمية الاولى اوزارها وتكشَفت مساوئها لما ارتكب فيها من جرائم وما خلفته من ويلات وكوارث. ومن اسوء مبادئها ان ينتصر فيه المنتصر للعدل ويدعي انه يريد اقامة القسط على المنهزم لما خلفه من مآسي ولما اقدم عليه من افعال يندى لها جبين الانسانية نائيا بنفسه عن كل الجرائم التي ارتكبها محاولا غسل يديه منها وألقائها على الطرف الاخر. وما قام بما قام به الا ليقيم العدل وينتصر للانسانية مما تسبب به هؤلاء المنهزمون، فأن لهم من يحاكمهم ولكن من يحاكم المنتصرين. ولو كانت نتيجة الحرب عكس ما انتهت اليه لكانت العدالة عكس ما تم تصويرها ولانقلبت النتائج تبعا لانقلاب نهايات الحرب وتبقى الانتقادات التي توجه اليها هي ذاتها التي وجهت والتي ستوجه لها في المستقبل.
خلفت الحرب العالمية الاولى ما يقارب من عشرين مليون ضحية فضلا عن الاضرار المادية الاخرى، ووقف العالم مذهولا لما حصل وشعر بانه بحاجة ماسة الى قواعد قانونية تتخذ بموجبها الاجراءات القضائية لملاخقة المتسببين في هذه الجرائم وتضع حدا لتصرفات الدول والاشخاص التي تهدد السلم والامن الدولي. تمخضت هذه الدعوات عن انشاء محكمة جنائية دولية لمحاكمة الامبراطور الالماني.
المبحث الاول
معاهدة فرساي والمحكمة الجنائية الدولية
لما تسببه الحروب من انتهاكات خطيرة لحقوق الانسان بُذلت جهود كبيرة كان الهدف منها تجنب النزاعات المسلحة بين الدول والمحافظة على السلام. واذا تعذر تحقيق الهدف الاسمى وهو تجنب الحرب، وكان لا بد من وقوعها فقد اثمرت هذه الجهود عن تهذيبها بوجوب مراعاة القوانين والاعراف. فكانت معاهدتي لا هاي 1899, 1907 ومن اهدافهما تقليص استخدام القوة. وان كان من وقَع المعاهدتين تسبب في الحرب العالمية الثانية.
بدأت الحرب العالمية الاولى عام 1914 وانتهت عام 1918 بهزيمة المانيا. فما كان من الرأي العام العالمي الا المطالبة بمحاكمة المتسببين فيها وانزال العقاب عليهم عن طريق محكمة جنائية دولية كي يعود الامن والسلم الى المجتمع الدولي .
انعقد في فرنسا المؤتمر التمهيدي للسلام بتاريخ 1919 واوصى المؤتمرون بتشكيل لجنة اطلق عليها ( لجنة المسؤوليات ) لتقصي الحقائق. انتهت اللجنة الى توصية مفادها انزال العقاب على كل من يخالف قواعد الحرب المعروفة في المعاهدات الدولية ودونما تمييز بين المسؤوليين عن هذه المخالفات، وبغض النظر عن الصفة الرسمية التي يحملها المسؤول عن هذه الجرائم بمن فيهم رؤوساء الدول والحكومات اذا ما تم التأكد من مخالفتهم لقواعد الحرب واعرافها. واقترحوا لتطبيق ذلك انشاء محكمة دولية تتشكل من 22 قاضيا. خمسة عشرة منهم يعينون من قبل الدول الكبرى وهي الولايات المتحدة الامريكية، بريطانيا، فرنسا، ايطاليا، اليابان بنسبة ثلاث قضاة من كل دولة. اما الباقي يتم تعيينهم من قبل كل من بلجيكا، اليونان، البرتغال، رومانيا، صربيا، تشيكوسلوفاكيا.
الا ان مندوبي الولايات المتحدة الامريكية واليابان تحفظا على هذا الاقتراح، محتجيين بعدم وجود سابقة قضائية دولية لاقامة قضاء دولي، وعدم وجود قانون جنائي دولي تكون المحكطمة وسيلة لتطبيقه، ونظرا لتمتع رؤساء الدول بالحصانة البلوماسية فلا يجوز محاكمتهم، اضافة الى ان القضاء المخول بأجراء مثل هذه المحاكمات هو قضاء الدولة التي وقعت على اقليمها الجرائم (2 ).
تم خلال المؤتمر مناقشة استسلام المانيا والتوصل الى اتفاقية تتضمن محاكمة قيصر المانيا غليوم الثاني وغيره من مجرمي الحرب الالمان والمسؤوليين الاتراك عن جرائمهم ضد الانسانية آخذين في الاعتبار تحفظات كل من الولايات المتحدة واليابان. توصل المؤتمرون الى معاهدة فرساي للسلام التي تم ابرامها بتاريخ 28 / يونيو / 1919.
تناولت المعاهدة مسألة محاكمة المتسببين للحرب والمرتكبين للجرائم ضد الانسانية في المواد ( 227 – 229 ) . فقد قضت المادة 227 بأنشاء محكمة جنائية تتكون من حمسة قضاة تعينهم الدول الكبرى ( المنتصرة ) لمحاكمة الامبراطور الذي كان قد هرب الى هولندا وطلب اللجوء السياسي فيها، وضمنت له حقه في الدفاع نفسه. الا ان هولندا رفضت تسليمه رغم النداءات التي وجهت اليها متذرعة بحجة عدم وجود محكمة جنائية دولية محايدة تتولى محاكمة القيصر.
كما رفضت المانيا تسليم رعاياها لمحاكمتهم امام محاكم دول التحالف او امام المحاكم الدولية، على الرغم من ان المادة 228 تضمنت اقرار الحكومة الالمانية بحق القوى الحليفة والشريكة ان يعرضوا امام المحاكم العسكرية الاشخاص المتهمين بانتهاكات للقوانين واعراف الحرب. ولأسباب سياسية اكثر منها قضائية توصلت الحكومة الالمانية مع الحلفاء الى اتفاق يقضي بمثول المتهمين امام المحاكم العليا الالمانية في (لايبزيغ ). وفرضت عليهم عقوبات لم تكن رادعة. كما كانت هناك محاولات لمحاكمة عدد من المسؤولين الاتراك لأنتهاكهم القوانين الانسانية نتيجة تحالفهم مع المانيا (3)
المبحث الثاني
عصبة الامم ومحاولات انشاء محكمة دولية
من اهم النتائج التي تمخضت عنها الحرب العالمية الاولى انشاء عصبة الامم لتكون وسيلة لتجنب الحروب، وصيانة السلم العالمي، واعتماد الدول الطرق السلمية في حل خلافاتها وادانة الدولة المعتدية، واحترام قواعد القانون الدولي ووجوب مراعاتها في العلاقات الدولية، واحترام الدول لالتزاماتها الناشئة عن المعاهدات التي تكون طرفا فيها، ومراعاة تسوية النزاعات بالطرق السلمية وعدم اللجوء الى الحرب بالشكل الذي يتنافى والزاماتها بموجب عهد عصبة الامم الذي اصبح ساري المفعول بتاريخ 10 / 12 / 1920.
نصت المادة ( 4) من عهد العصبة على ان يتولى مجلس العصبة مشروع انشاء محكمة العدل الدولية الدائمة وعرضه على الاعضاء. وتنفيذا لذلك تم تشكيل لجنة استشارية من قبل مجلس العصبة للقيام بهذه المهمة. وفي الوقت ذاته تم تقديم مشروع آخر بانشاء محكمة دولية لمحاكمة المتهمين بارتكاب جرائم دولية او اعمال تهدد السلم والامن الدولي. حصل جدل حول المشروع واختلفوا بشأنه بين معارض لفكرة انشاء المحكمة واقترح بدلا عنها انشاء شعبة جنائية تلحق بمحكمة العدل الدولية الدائمة. بينما رأى الفريق الاخر ضرورة انشاء محكمة مستقلة تختص بمحاكمة الاشخاص المتهمين بارتكاب جرائم دولية. لم يكتب النجاح للمشروع حيث انتهت دراسة اللجنة الى عدم امكانية تأسيس محكمة جنائية دولية لعدم وجود قانون جنائي دولي ولذلك وافقت الجمعية العمومية على المشروع الاول الخاص بانشاء محكمة العدل الدولية الدائمة (4).
كما عقدت الجمعية العامة للقانون الدولي مؤتمرا عام 1922 قدم خلاله Bellot اقتراحا
يتضمن الحاجة الملحة لانشاء محكمة جنائية دولية دائمة قدم المشروع الى الجمعية في مؤتمرها الذي عقد في السويد مدينة استوكهولم عام 1924 مبنيا على نفس مبادئ محكمة العدل الدولية الدائمة والتي وافقت عليه بعد اجراء بعض التعديلات عليه (5).
في نفس الوقت تناول الاتحاد البرلماني الدولي مسألة القضاء الجنائي الدولي عام 1924 وفي السنة التالية تم اعتماد التوصية التي تضمنت الحرب العدوانية بناء على مبادرة من Pella وما يترتب عليها من عقاب، وان المسؤولية الجنائية الدولية لا تقع على الدول المعتدية فحسب وانما تشمل الافراد الذين يعملون بوحي منها، وضرورة وجود قضاء مختص للتعامل مع الجرائم الدولية. تم عرض مشروعه في مؤتمر واشنطن الذي انعقد بتاريخ 1925، تكلم بيللا اثناء المؤتمر وأكد ضرورة انشاء قضاء جنائي دولي (6).
كما ضمَنت الجمعية الدولية للقانون الجنائي عام 1926 وفي نفس سنة انشائها جدول اعمالها مسألة القضاء الجنائي الدولي فكلفت بيللا لاعداد المشروع باعتباره مقرر اللجنة المشكلة من قبل الجمعية لهذا الغرض. انتهى بيللا من اعداد مشروعه عام 1928 وقدمه الى الجمعية التي اقرته بعد اجراء تعديلات عليه وتم ارساله الى عصبة الامم المتحدة والى جميع الحكومات (7).
من جهته دعى Kelsen الى انشاء منظمة دولية تحل محل عصبة الامم على ان تكون احد اجهزتها محكمة دولية مختصة بمحاكمة الافراد المتهمين بالاستخدام غير المشروع للقوة، او المرتكبين لجرائم الحرب، ومن اختصاصها النظر في الطعن المقدم ضد المحاكم الوطنية في الحالات التي تصدر فيه احكام يعتقد انها مخالفة للقانون الدولي ( 8).
لم يقتصر الامر على جهود المنظمات الدولية بل كانت هناك محاولات دولية بهذا الصدد فقد تقدمت الحكومة الرومانية باقتراح الى عصبة الامم عام 1926 – متأثرة بآراء بيللا – لعمل اتفاقية لمعاقبة من يقومون باعمال ارهابية بغض النظر عن جنسية مرتكبها باعتبارها من الجرائم المخالفة لقانون الشعوب كالقرصنة وتزييف النقود والاتجار بالرقيق والمخدرات . واسناد اختصاص جنائي الى محكمة العدل الدولية الدائمة. رأت الجمعية العمومية لعصبة الامم في دور انعقادها التاسع ان المسألتين جديرتان بالدراسة (9).
اضافة الى ذلك فهناك جهود الفقهاء المبذولة لأرساء فكرة القضاء الجنائي الدولي من خلال مؤلفاتهم التي اشاروا فيها الى وجوب المعاقبة على الجرائم الدولية وما يتطلبه الامر من انشاء محكمة جنائية دولية كأمثال الفقيه H.Donnedieu de vabres الذي اصبح عضوا
في محكمة نورمبيرغ. او عن طريق المحاضرات التي القيت من بعض الفقهاء امثال الفقيه Saldana الذي القى محاضرة في كلية الحقوق جامعة باريس واشار فيها الى ان اختصاص
محكمة العدل الدولية الدائمة يجب ان يشمل القضايا الجنائية ايضا. او ما قام به البعض من طرح افكاره امام المؤتمرات كما فعل الفقيه بيللا اضافة الى ابحاثه ودراساته التي تدعو الى انشاء نيابة دولية عامة تمثل عصبة الامم امام المحكمة الجنائية الدولية (10) .
والمحاولة الاخيرة التي تمت عن طريق عصبة الامم ولم تفلح ايضا كانت بعد اغتيال ملك يوغسلافيا ( اسكندر الاول ) ووزير خارجية فرنسا ( لويس بارتو ) الذي كان بصحبته، وفرار الجانيين الى ايطاليا، وامتناع الاخيرة تسليمهما بحجة ان الافعال التي قاما بها تعتبر جرائم سياسية لا يجوز التسليم عليهما استنادا الى معاهدة التسليم الفرنسية الايطالية لعام 1870 السارية المفعول بينهما، حيث لم تتضمن الشرط البلجيكي الذي يعني ان الاعتداء على شخص رئيس الدولة او احد افراد اسرته لا يعتبر من قبيل الجرائم السياسية التي لا يجوز التسليم فيها. مما حدى بالحكومة الفرنسية ان تقدم مذكرة الى السكرتير العام لعصبة الامم بتاريخ 9 /12 / 1934 تتضمن الاسس لعقد اتفاقية دولية تقضي بمعاقبة المرتكبين لجرائم الارهاب السياسي، مع تأسيس محكمة جنائية دولية تختص بالنظر في هذه الجرائم .
عام 1936 صدر قرار الجمعية العمومية بالاجماع واشتمل على امور منها الامرين التاليين :
1 – اقرار الاتفاقية الخاصة بالارهاب وتحريم الاعتداءات الارهابية ضد حياة وحرية الاشخاص المرتبطة اعمالهم بتسيير عمل السلطات. وايجاد الوسائل للتعاون الدولي للكشف عنها والعقاب عليها.
2 – اما بشأن المحكمة فقد تنازع المسألة موقفان، موقف معارض لأنشائها، والاخر يرغب في محاكمة مرتكبي الاعمال الارهابية امام قضاء جنائي دولي الا انه اشترط ان يكون للدولة حق الاختيار بين تسليم المتهم او محاكمته امام قضائها الوطني. لذلك اعادت الجمعية العمومية المشروعين الى اللجنة لأعادة النظر فيهما على ضوء مقترحات وردود الحكومات لتقوم بعرضها على مؤتمر دبلوماسي يدعو اليه المجلس عام 1937 .
وقد اعيد المشروعان الى الجمعية بعد دراسة مقترحات الحكومات فأقرت مشروع الارهاب 24 دولة ولم تصدق عليها الا الهند. فيما اقرت الاتفاقية الثانية الخاصة بالمحكمة الجنائية الدولية 13 دولة على ان يكون اختصاصها الافعال الواردة في المادتين الاولى والثانية كالاعتداء على رؤساء الدول او من يتمتعون بأمتيازاتهم وحقوقهم او خلفائهم، والافعال المرتكبة ضد القائمين بوظائف عامة اذا كان الفعل ضدهم بسبب عملهم ، والتخريب العمد للاموال العامة. وتكون هذه المحكمة ذات صفة دائمة، تدعى الى الاجتماع كلما رفعت اليها دعوى. وعلى اية حال لم تلق اي من الاتفاقيتين مجالا للتنفيذ لعدم التصديق عليهما ولنشوب الحرب العالمية الثانية .
كل هذه الجهود التي بذلت في سبيل انشاء محكمة جنائية دولية رغم اهميتها، كونها وضعت الاسس لانشاء قضاء جنائي دولي، الا انها ولدت عقيمة ولم تنتج آثارها وان اعتبرت مرجعا للجهود التالية لها التي اثمرت عن ولادة هذه المشروع بعد عقود من الزمن. حيث تعرض فيها الانسان لابشع انواع الجرائم سواء ما وقع منها اثناء الحرب العالمية الثانية او الحرب الباردة التي كانت تدار الحروب خلالها بالواسطة .
الفصل الثاني
مرحلة ما بعد الحرب العالمية الثانية
كانت الحرب العالمية الثانية اكثر ضررا على الانسانية من الحرب العالمية الاولى لما استخدم فيها من اسلحة متطورة. الامر الذي كانت اكثر ايلاما على المجتمع الدولي الذي رأى ان عصبة الامم لم تكن رادعا عن نشوب حرب ثانية كما كان هدفها الرئيسي. وما ان اوشكت الحرب ان تضع اوزارها حتى كان هناك تقدم في مسألة القانون الجنائي الدولي اضافة الى قضاء جنائي دولي لغرض معاقبة مرتكبي الجرائم التي حصلت اثناء الحرب .
ومما تجدر الاشارة اليه ان كل من طرفي النزاع اعد القوائم باسماء مرتكبي جرائم الحرب لغرض محاكمتهم على ما قاموا به من اعمال تعتبر مخالفة لقوانين واعراف الحرب لذلك يمكن القول وبدون تردد ان المحاكم التي انشأت بعد الحرب العالمية الثانية يمكن ان نطلق عليها محاكم المنتصرين. اذ لوتغيرت نهايات الحرب لتغيرت تبعا لذلك نتائجها، ولقامت دول المحور بمحاكمة المسؤولين في دول التحالف في محاكم مشابه للمحاكم التي شُكلت لهم ولمال القضاء حيث تميل القوة او السياسة .
المحتويات:
المقدمة
الفصل الاول: مرحلة ما بعد الحرب العالمية الاولى.
المبحث الاول: معاهدة فرساي والمحكمة الجنائية الدولية.
المبحث الثاني: عصبة الامم ومحاولات انشاء محكمة جنائية دولية.
الفصل الثاني:مرحلة مكا بعد الحرب العالمية الثانية.
المبحث الاول: المقدمات لأنشاء محكمة دولية مؤقته.
المبحث الثاني: محكمة نورمبيرغ.
المطلب الاول: اجهزة المحكمة وتشكيلاتها.
المطلب الثاني: اختصاص المحكمة.
البند الاول: الاختصاص النوعي.
البند الثاني: الاختصاص الشكلي.
المطلب الثالث: تقييم محكمة نورمبيرغ.
المبحث الثالث: جهود الامم المتحدة في فترة ما بعد الحرب.
الفصل الثالث: القضاء الجنائي الدولي المؤقت بعد الحرب الباردة.
المبحث الاول: المحكمة الجنائية الدولية للانتهاكات في يوغسلافيا السابقة.
المطلب الاول: اجهزة المحكمة.
المطلب الثاني اختصاص المحكمة.
المبحث الثاني المحكمة الجنائية الدولية لرواندا.
الفصل الرابع: المحكمة الجنائية الدولية الدائمة.
المبحث الاول: اجهزة المحكمة وتشكيلاتها.
المبحث الثاني: اختصاص المحكمة.
المبحث الثالث: تقييم المحكمة الجنائية الدولية الدائمة.
التوصيات
المصادر
المقدمة
يُرجع بعض الباحثين فكرة انشاء محكمة جنائية دولية الى حقب تاريخية بعيدة. وقالوا ان تطبيقات لها حدثت في التاريخ المصري القديم عام 1286 قبل الميلاد، فيما اشار آخرون الى محاكمة ملك يودا المهزوم من قبل الملك البابلي نبوخذ نصر في الدولة البابلية. ويستدل البعض على قدم الفكرة من خلال المحاكمة التي جرت لأرشيدوق النمسا في اقليم الراين حيث حكم عليه بالاعدام والى المحاكمة التي تمت في نابولي عام 1268 ( 1 ).
ولما كان القضاء الجنائي الدولي يوجد حيث يوجد قانون جنائي دولي ليكون وسيلة لتطبيقه، ولعدم وجود قانون دولي عام في التاريخ القديم، فضلا عن عدم وجود قانون جنائي دولي الذي هو فرع الاول فلا يمكن والحالة هذه تصور وجود قضاء جنائي دولي. فما الفائدة من وجود القضاء مع عدم وجود القانون الذي يختص بتطبيقه. واذا وجد مثل هذا القضاء وسعى لتطبيق القانون المحلي فلا يمكن اعتباره قضاء دوليا وانما هو قضاء وطني يطبق قانون محلي. اما ما اشير اليه من محاكمات في العصور القديمة فانها تمت بناء على ارادة المنتصر وبموجب قانونه الوطني حيث يجوز للمنتصر ما لايجوز لغيره. الامر الذي دعى بعض الباحثين الى تناول فكرة القضاء الجنائي الدولي من فترة ما بعد الحرب العالمية الاولى وهو توجه اكثر دقة.
يمكن اعتبار فكرة القضاء الدولي تعود الى الدعوات الصريحة التي تضمنها مشروع الاتفاقية الذي اعده غوستاف موانييه عام 1872 لضمان تنفيذ اتفاقية جنيف لعام 1864 حيث اقترح انشاء محكمة ترفع اليها الشكاوى الخاصة بالاعمال التي تعتبر انتهاكات للاتفاقية المذكورة في حالة نشوب حرب بين دولتين او اكثر ويتم تشكيلها من خمسة قضاة، يعين ثلاثة منهم عن طريق الاقتراع من الدول الاعضاء في الاتفاقية ويتميزون بالحياد في مواقفهم من الحرب، اضافة الى قاضيين يتم تعينهم بمعرفة الدولتين المتحاربتين. وينحصر اختصاصها بالمخالفات لاتفاقية عام 1964 والتي ترفع اليها من قبل الحكومات المعنية. الا ان هذا المقترح لم ير التطبيق وكان مصيره مصير الكثير من المقترحات التي تبنتها العديد من الهيئات والمؤتمرات الدولية التالية له.
لذلك سيتم بحث القضاء الجنائي الدولي في ثلاث مراحل، وفي كل مرحلة يختلف مصدر انشائها . فما بعد الحرب العالمية الاولى كانت معاهدة فرساي لعام 1919 مصدرا للقضاء الذي تم لمحاكمة امبراطور المانيا وبعض مرتكبي الجرائم، وقد اخفقت في اداء دورها وان اعتبرها البعض خطوة مهمة على الطريق الصحيح. اما المرحلة الثانية فهي ما بعد الحرب العالمية الثانية وتم خلالها انشاء محكمتي نورمبيرغ وطوكيو. اما المرحلة الثالثة فهي ما بعد الحرب الباردة وانشأ خلالها نوعين من المحاكم :
1 – محاكم انشأها مجلس الامن مثالها محكمتي يوغسلافيا السابقة ورواندا وهما محكمتان مؤقتتان .
2 – المحكمة الجنائية الدولية الدائمة التي تم انشائها بموجب اتفاقية روما عام 1998 .
لذلك سنخصص فصلا مستقلا لكل مرحلة من هذه المراحل الثلاث .
الفصل الاول
مرحلة ما بعد الحرب العالمية الاولى
ما ان وضعت الحرب العالمية الاولى اوزارها وتكشَفت مساوئها لما ارتكب فيها من جرائم وما خلفته من ويلات وكوارث. ومن اسوء مبادئها ان ينتصر فيه المنتصر للعدل ويدعي انه يريد اقامة القسط على المنهزم لما خلفه من مآسي ولما اقدم عليه من افعال يندى لها جبين الانسانية نائيا بنفسه عن كل الجرائم التي ارتكبها محاولا غسل يديه منها وألقائها على الطرف الاخر. وما قام بما قام به الا ليقيم العدل وينتصر للانسانية مما تسبب به هؤلاء المنهزمون، فأن لهم من يحاكمهم ولكن من يحاكم المنتصرين. ولو كانت نتيجة الحرب عكس ما انتهت اليه لكانت العدالة عكس ما تم تصويرها ولانقلبت النتائج تبعا لانقلاب نهايات الحرب وتبقى الانتقادات التي توجه اليها هي ذاتها التي وجهت والتي ستوجه لها في المستقبل.
خلفت الحرب العالمية الاولى ما يقارب من عشرين مليون ضحية فضلا عن الاضرار المادية الاخرى، ووقف العالم مذهولا لما حصل وشعر بانه بحاجة ماسة الى قواعد قانونية تتخذ بموجبها الاجراءات القضائية لملاخقة المتسببين في هذه الجرائم وتضع حدا لتصرفات الدول والاشخاص التي تهدد السلم والامن الدولي. تمخضت هذه الدعوات عن انشاء محكمة جنائية دولية لمحاكمة الامبراطور الالماني.
المبحث الاول
معاهدة فرساي والمحكمة الجنائية الدولية
لما تسببه الحروب من انتهاكات خطيرة لحقوق الانسان بُذلت جهود كبيرة كان الهدف منها تجنب النزاعات المسلحة بين الدول والمحافظة على السلام. واذا تعذر تحقيق الهدف الاسمى وهو تجنب الحرب، وكان لا بد من وقوعها فقد اثمرت هذه الجهود عن تهذيبها بوجوب مراعاة القوانين والاعراف. فكانت معاهدتي لا هاي 1899, 1907 ومن اهدافهما تقليص استخدام القوة. وان كان من وقَع المعاهدتين تسبب في الحرب العالمية الثانية.
بدأت الحرب العالمية الاولى عام 1914 وانتهت عام 1918 بهزيمة المانيا. فما كان من الرأي العام العالمي الا المطالبة بمحاكمة المتسببين فيها وانزال العقاب عليهم عن طريق محكمة جنائية دولية كي يعود الامن والسلم الى المجتمع الدولي .
انعقد في فرنسا المؤتمر التمهيدي للسلام بتاريخ 1919 واوصى المؤتمرون بتشكيل لجنة اطلق عليها ( لجنة المسؤوليات ) لتقصي الحقائق. انتهت اللجنة الى توصية مفادها انزال العقاب على كل من يخالف قواعد الحرب المعروفة في المعاهدات الدولية ودونما تمييز بين المسؤوليين عن هذه المخالفات، وبغض النظر عن الصفة الرسمية التي يحملها المسؤول عن هذه الجرائم بمن فيهم رؤوساء الدول والحكومات اذا ما تم التأكد من مخالفتهم لقواعد الحرب واعرافها. واقترحوا لتطبيق ذلك انشاء محكمة دولية تتشكل من 22 قاضيا. خمسة عشرة منهم يعينون من قبل الدول الكبرى وهي الولايات المتحدة الامريكية، بريطانيا، فرنسا، ايطاليا، اليابان بنسبة ثلاث قضاة من كل دولة. اما الباقي يتم تعيينهم من قبل كل من بلجيكا، اليونان، البرتغال، رومانيا، صربيا، تشيكوسلوفاكيا.
الا ان مندوبي الولايات المتحدة الامريكية واليابان تحفظا على هذا الاقتراح، محتجيين بعدم وجود سابقة قضائية دولية لاقامة قضاء دولي، وعدم وجود قانون جنائي دولي تكون المحكطمة وسيلة لتطبيقه، ونظرا لتمتع رؤساء الدول بالحصانة البلوماسية فلا يجوز محاكمتهم، اضافة الى ان القضاء المخول بأجراء مثل هذه المحاكمات هو قضاء الدولة التي وقعت على اقليمها الجرائم (2 ).
تم خلال المؤتمر مناقشة استسلام المانيا والتوصل الى اتفاقية تتضمن محاكمة قيصر المانيا غليوم الثاني وغيره من مجرمي الحرب الالمان والمسؤوليين الاتراك عن جرائمهم ضد الانسانية آخذين في الاعتبار تحفظات كل من الولايات المتحدة واليابان. توصل المؤتمرون الى معاهدة فرساي للسلام التي تم ابرامها بتاريخ 28 / يونيو / 1919.
تناولت المعاهدة مسألة محاكمة المتسببين للحرب والمرتكبين للجرائم ضد الانسانية في المواد ( 227 – 229 ) . فقد قضت المادة 227 بأنشاء محكمة جنائية تتكون من حمسة قضاة تعينهم الدول الكبرى ( المنتصرة ) لمحاكمة الامبراطور الذي كان قد هرب الى هولندا وطلب اللجوء السياسي فيها، وضمنت له حقه في الدفاع نفسه. الا ان هولندا رفضت تسليمه رغم النداءات التي وجهت اليها متذرعة بحجة عدم وجود محكمة جنائية دولية محايدة تتولى محاكمة القيصر.
كما رفضت المانيا تسليم رعاياها لمحاكمتهم امام محاكم دول التحالف او امام المحاكم الدولية، على الرغم من ان المادة 228 تضمنت اقرار الحكومة الالمانية بحق القوى الحليفة والشريكة ان يعرضوا امام المحاكم العسكرية الاشخاص المتهمين بانتهاكات للقوانين واعراف الحرب. ولأسباب سياسية اكثر منها قضائية توصلت الحكومة الالمانية مع الحلفاء الى اتفاق يقضي بمثول المتهمين امام المحاكم العليا الالمانية في (لايبزيغ ). وفرضت عليهم عقوبات لم تكن رادعة. كما كانت هناك محاولات لمحاكمة عدد من المسؤولين الاتراك لأنتهاكهم القوانين الانسانية نتيجة تحالفهم مع المانيا (3)
المبحث الثاني
عصبة الامم ومحاولات انشاء محكمة دولية
من اهم النتائج التي تمخضت عنها الحرب العالمية الاولى انشاء عصبة الامم لتكون وسيلة لتجنب الحروب، وصيانة السلم العالمي، واعتماد الدول الطرق السلمية في حل خلافاتها وادانة الدولة المعتدية، واحترام قواعد القانون الدولي ووجوب مراعاتها في العلاقات الدولية، واحترام الدول لالتزاماتها الناشئة عن المعاهدات التي تكون طرفا فيها، ومراعاة تسوية النزاعات بالطرق السلمية وعدم اللجوء الى الحرب بالشكل الذي يتنافى والزاماتها بموجب عهد عصبة الامم الذي اصبح ساري المفعول بتاريخ 10 / 12 / 1920.
نصت المادة ( 4) من عهد العصبة على ان يتولى مجلس العصبة مشروع انشاء محكمة العدل الدولية الدائمة وعرضه على الاعضاء. وتنفيذا لذلك تم تشكيل لجنة استشارية من قبل مجلس العصبة للقيام بهذه المهمة. وفي الوقت ذاته تم تقديم مشروع آخر بانشاء محكمة دولية لمحاكمة المتهمين بارتكاب جرائم دولية او اعمال تهدد السلم والامن الدولي. حصل جدل حول المشروع واختلفوا بشأنه بين معارض لفكرة انشاء المحكمة واقترح بدلا عنها انشاء شعبة جنائية تلحق بمحكمة العدل الدولية الدائمة. بينما رأى الفريق الاخر ضرورة انشاء محكمة مستقلة تختص بمحاكمة الاشخاص المتهمين بارتكاب جرائم دولية. لم يكتب النجاح للمشروع حيث انتهت دراسة اللجنة الى عدم امكانية تأسيس محكمة جنائية دولية لعدم وجود قانون جنائي دولي ولذلك وافقت الجمعية العمومية على المشروع الاول الخاص بانشاء محكمة العدل الدولية الدائمة (4).
كما عقدت الجمعية العامة للقانون الدولي مؤتمرا عام 1922 قدم خلاله Bellot اقتراحا
يتضمن الحاجة الملحة لانشاء محكمة جنائية دولية دائمة قدم المشروع الى الجمعية في مؤتمرها الذي عقد في السويد مدينة استوكهولم عام 1924 مبنيا على نفس مبادئ محكمة العدل الدولية الدائمة والتي وافقت عليه بعد اجراء بعض التعديلات عليه (5).
في نفس الوقت تناول الاتحاد البرلماني الدولي مسألة القضاء الجنائي الدولي عام 1924 وفي السنة التالية تم اعتماد التوصية التي تضمنت الحرب العدوانية بناء على مبادرة من Pella وما يترتب عليها من عقاب، وان المسؤولية الجنائية الدولية لا تقع على الدول المعتدية فحسب وانما تشمل الافراد الذين يعملون بوحي منها، وضرورة وجود قضاء مختص للتعامل مع الجرائم الدولية. تم عرض مشروعه في مؤتمر واشنطن الذي انعقد بتاريخ 1925، تكلم بيللا اثناء المؤتمر وأكد ضرورة انشاء قضاء جنائي دولي (6).
كما ضمَنت الجمعية الدولية للقانون الجنائي عام 1926 وفي نفس سنة انشائها جدول اعمالها مسألة القضاء الجنائي الدولي فكلفت بيللا لاعداد المشروع باعتباره مقرر اللجنة المشكلة من قبل الجمعية لهذا الغرض. انتهى بيللا من اعداد مشروعه عام 1928 وقدمه الى الجمعية التي اقرته بعد اجراء تعديلات عليه وتم ارساله الى عصبة الامم المتحدة والى جميع الحكومات (7).
من جهته دعى Kelsen الى انشاء منظمة دولية تحل محل عصبة الامم على ان تكون احد اجهزتها محكمة دولية مختصة بمحاكمة الافراد المتهمين بالاستخدام غير المشروع للقوة، او المرتكبين لجرائم الحرب، ومن اختصاصها النظر في الطعن المقدم ضد المحاكم الوطنية في الحالات التي تصدر فيه احكام يعتقد انها مخالفة للقانون الدولي ( 8).
لم يقتصر الامر على جهود المنظمات الدولية بل كانت هناك محاولات دولية بهذا الصدد فقد تقدمت الحكومة الرومانية باقتراح الى عصبة الامم عام 1926 – متأثرة بآراء بيللا – لعمل اتفاقية لمعاقبة من يقومون باعمال ارهابية بغض النظر عن جنسية مرتكبها باعتبارها من الجرائم المخالفة لقانون الشعوب كالقرصنة وتزييف النقود والاتجار بالرقيق والمخدرات . واسناد اختصاص جنائي الى محكمة العدل الدولية الدائمة. رأت الجمعية العمومية لعصبة الامم في دور انعقادها التاسع ان المسألتين جديرتان بالدراسة (9).
اضافة الى ذلك فهناك جهود الفقهاء المبذولة لأرساء فكرة القضاء الجنائي الدولي من خلال مؤلفاتهم التي اشاروا فيها الى وجوب المعاقبة على الجرائم الدولية وما يتطلبه الامر من انشاء محكمة جنائية دولية كأمثال الفقيه H.Donnedieu de vabres الذي اصبح عضوا
في محكمة نورمبيرغ. او عن طريق المحاضرات التي القيت من بعض الفقهاء امثال الفقيه Saldana الذي القى محاضرة في كلية الحقوق جامعة باريس واشار فيها الى ان اختصاص
محكمة العدل الدولية الدائمة يجب ان يشمل القضايا الجنائية ايضا. او ما قام به البعض من طرح افكاره امام المؤتمرات كما فعل الفقيه بيللا اضافة الى ابحاثه ودراساته التي تدعو الى انشاء نيابة دولية عامة تمثل عصبة الامم امام المحكمة الجنائية الدولية (10) .
والمحاولة الاخيرة التي تمت عن طريق عصبة الامم ولم تفلح ايضا كانت بعد اغتيال ملك يوغسلافيا ( اسكندر الاول ) ووزير خارجية فرنسا ( لويس بارتو ) الذي كان بصحبته، وفرار الجانيين الى ايطاليا، وامتناع الاخيرة تسليمهما بحجة ان الافعال التي قاما بها تعتبر جرائم سياسية لا يجوز التسليم عليهما استنادا الى معاهدة التسليم الفرنسية الايطالية لعام 1870 السارية المفعول بينهما، حيث لم تتضمن الشرط البلجيكي الذي يعني ان الاعتداء على شخص رئيس الدولة او احد افراد اسرته لا يعتبر من قبيل الجرائم السياسية التي لا يجوز التسليم فيها. مما حدى بالحكومة الفرنسية ان تقدم مذكرة الى السكرتير العام لعصبة الامم بتاريخ 9 /12 / 1934 تتضمن الاسس لعقد اتفاقية دولية تقضي بمعاقبة المرتكبين لجرائم الارهاب السياسي، مع تأسيس محكمة جنائية دولية تختص بالنظر في هذه الجرائم .
عام 1936 صدر قرار الجمعية العمومية بالاجماع واشتمل على امور منها الامرين التاليين :
1 – اقرار الاتفاقية الخاصة بالارهاب وتحريم الاعتداءات الارهابية ضد حياة وحرية الاشخاص المرتبطة اعمالهم بتسيير عمل السلطات. وايجاد الوسائل للتعاون الدولي للكشف عنها والعقاب عليها.
2 – اما بشأن المحكمة فقد تنازع المسألة موقفان، موقف معارض لأنشائها، والاخر يرغب في محاكمة مرتكبي الاعمال الارهابية امام قضاء جنائي دولي الا انه اشترط ان يكون للدولة حق الاختيار بين تسليم المتهم او محاكمته امام قضائها الوطني. لذلك اعادت الجمعية العمومية المشروعين الى اللجنة لأعادة النظر فيهما على ضوء مقترحات وردود الحكومات لتقوم بعرضها على مؤتمر دبلوماسي يدعو اليه المجلس عام 1937 .
وقد اعيد المشروعان الى الجمعية بعد دراسة مقترحات الحكومات فأقرت مشروع الارهاب 24 دولة ولم تصدق عليها الا الهند. فيما اقرت الاتفاقية الثانية الخاصة بالمحكمة الجنائية الدولية 13 دولة على ان يكون اختصاصها الافعال الواردة في المادتين الاولى والثانية كالاعتداء على رؤساء الدول او من يتمتعون بأمتيازاتهم وحقوقهم او خلفائهم، والافعال المرتكبة ضد القائمين بوظائف عامة اذا كان الفعل ضدهم بسبب عملهم ، والتخريب العمد للاموال العامة. وتكون هذه المحكمة ذات صفة دائمة، تدعى الى الاجتماع كلما رفعت اليها دعوى. وعلى اية حال لم تلق اي من الاتفاقيتين مجالا للتنفيذ لعدم التصديق عليهما ولنشوب الحرب العالمية الثانية .
كل هذه الجهود التي بذلت في سبيل انشاء محكمة جنائية دولية رغم اهميتها، كونها وضعت الاسس لانشاء قضاء جنائي دولي، الا انها ولدت عقيمة ولم تنتج آثارها وان اعتبرت مرجعا للجهود التالية لها التي اثمرت عن ولادة هذه المشروع بعد عقود من الزمن. حيث تعرض فيها الانسان لابشع انواع الجرائم سواء ما وقع منها اثناء الحرب العالمية الثانية او الحرب الباردة التي كانت تدار الحروب خلالها بالواسطة .
الفصل الثاني
مرحلة ما بعد الحرب العالمية الثانية
كانت الحرب العالمية الثانية اكثر ضررا على الانسانية من الحرب العالمية الاولى لما استخدم فيها من اسلحة متطورة. الامر الذي كانت اكثر ايلاما على المجتمع الدولي الذي رأى ان عصبة الامم لم تكن رادعا عن نشوب حرب ثانية كما كان هدفها الرئيسي. وما ان اوشكت الحرب ان تضع اوزارها حتى كان هناك تقدم في مسألة القانون الجنائي الدولي اضافة الى قضاء جنائي دولي لغرض معاقبة مرتكبي الجرائم التي حصلت اثناء الحرب .
ومما تجدر الاشارة اليه ان كل من طرفي النزاع اعد القوائم باسماء مرتكبي جرائم الحرب لغرض محاكمتهم على ما قاموا به من اعمال تعتبر مخالفة لقوانين واعراف الحرب لذلك يمكن القول وبدون تردد ان المحاكم التي انشأت بعد الحرب العالمية الثانية يمكن ان نطلق عليها محاكم المنتصرين. اذ لوتغيرت نهايات الحرب لتغيرت تبعا لذلك نتائجها، ولقامت دول المحور بمحاكمة المسؤولين في دول التحالف في محاكم مشابه للمحاكم التي شُكلت لهم ولمال القضاء حيث تميل القوة او السياسة .