رد: أريد بحثا حول طرق و وسائل الإثبات في القضاء المدني الجزء الاول و الإداري
مذكرة تخرج لاحد الطلبة المقدّمـــة فالإثبات هو الذي يحقّق واقعيّة القانون بربط الوقائع اللاّمتناهية بالقواعد القانونيّة التي تحكمها[2] وقد دأبت تشاريع مختلف بلدان العالم على إحكام تنظيم قواعد الإثبات وجعلها تأخذ بعين الإعتبار واقع المعاملات ومختلف المراكز القانونيّة للأطراف التي تساهم فيها، وما يطرأ على أساليبها من مستجدّات تقنيّة وتحوّلات إقتصاديّة وإجتماعيّة. ومتى حصل العكس وانفصلت الحقيقة القضائيّة عن الواقع، وبدت بعيدة عنه، يصبح القضاء مبعث حيرة وجدل. ولقد عرف الإثبات القضائي مراحل متعدّدة، كانت أبرزها المرحلة المتولّدة عن اكتشاف الطّباعة والدّور الذي لعبته الكتابة والورق نتيجة ذلك في تثبيت الحقوق ودعم المعاملات ممّا جعل رجال القانون يؤرّخون باكتشاف ، إلاّ أنّ العالم يشهد اليوم تناميا ملحوظا لاستعمال الأجهزة الألكترونيّة وأدوات التوثيق الحديثة ممّا يدخل بنا في عصر العولمة، عصر الإدارة دون ورق، وخاصّة التّجارة دون ورق[4]، هذا الميدان الحيوي الذي يعيش اليوم تحوّلا مذ هلا أملاه تطوّر وسائل الاتّصال[5] لتظهر أشكال جديدة للتّجارة عن بعد ووسائل أجدّ لإثبات وقائعها. ذلك أنّ هذه الأخيرة مارسها الإنسان منذ زمن بعيد لكنّها كانت تعتمد على طرق يدويّة تتطلّب بالضّرورة الانتقال المادّي للشّخص لإبرام الصّفقات وإنشاء المعاملات ومع تطوّر وسائل الإتّصال تخلّى الإنسان تدريجيّا عن الوسائل اليدويّة وأبدلها بوسائل إلكترونية كالهاتف والتّلغراف والتّلكس والفاكس والشبكات العصريّة وخاصة منها شبكة الأنترنات[6] التي اكتسحت العالم في زمن قياسي مقارنة بوسائل الاتّصال الأخرى[7] منتجة نمطا جديدا من التّجارة يعرف بالتّجارة الألكترونيّة يتماشى وخاصيّة العالم الذي بدأ يقترب أكثر من أيّ وقت مضى نحو مفهوم "القرية الألكترونيّة" الذي تحدّث عنه مارش ماكلوهان[8] كوصف مقبل للكرة الأرضيّة في عصر إعجاز الإتّصالات والتّواصل. فالأنترنات تنقل التّجارة إلى شاشات الكمبيوترات وتغيّر بنية الإقتصاد التّقليدي فلا حاجة في العمليّات التّجاريّة[9] سواء جمعت بين تاجرين[10] أو بين تاجر وغير تاجر[11] إلى استخدام القلم والورق أو حتّى رؤية الطّرف المقابل إذ تراجع الحضور الماديّ ليترك مكانه للحضور الإفتراضيّ اللاّماديّ في اتّجاه توفير متطلّبات التّجارة من سرعة وضغط على التّكلفة بالنّسبة للتّاجر يضاف إليها الرّاحة والهدوء بالنّسبة للمستهلك فالتّسوّق على صفحات "الواب" ضمن شبكة الأنترنات يتيح للمستعملين الإطّلاع على عناوين وأسعار الخدمات الأكثر انتشارا مثل المصارف والفنادق والمسارح ووكالات الأسفار مع توفير إمكانيّة الحجز وقطع التّذاكر وإذا كانت بعض السّلع التّجاريّة تتطلّب دقّة أكثر على صعيد التّدقيق وكيفيّة الاختيار فإنّ البرامج الرّسوميّة الثّلاثية الابعاد على شبكة الأنترنات كفيلة بتحقيق الغرض المطلوب فعمليّة الشّراء تتمّ باختيار المستعمل الجناح الخاصّ بنوع السّلعة التّجاريّة المطلوبة ثم ينتقي الفئة المعيّنة داخل الجناح وأخيرا يختار السّلعة المنشودة تحديدا من اللاّئحة النّهائيّة التي تظهر على شاشة الحاسوب كما أنّ المستعمل يضع ما يشاء في سلّ التّبضّع الظّاهرة الواقعة عند أسفل الشّاشة ثم يقوم بضبط الكميّة حسب مبتغاه وتتمّ عمليّة الشّراء واحتساب السّعر طبقا لنوع كلّ سلعة تعقبها عمليّة الدّفع إلكترونيا. وقد أجرى مركز دراسات المستجدّات في علم المال "سي إس إف آي" في بريطانيا أخيرا، دراسة حول التغييرات التي يمكن أن تحدثها شبكة الأنترنات على العمليّات الماليّة وكانت أبرز النّقاط في هذا الصدد : Ø زيادة المنافسة في سوق الخدمات الماليّة مع إدخال أطراف جديدة وهذا ما يحصل في الوقت الحاضر. Ø إطّلاع المستعملين بصورة أوسع على حقيقة العمليّات مع تزويدهم بالمزيد من المعلومات من مصادر مختلفة. Ø تفوّق الشّركات التي تعتمد على التّقنيّات الجديدة وتعتمد أساليب تسويقيّة متطوّرة بواسطة الشّبكات المعلوماتيّة على تلك التي لا تزال تعتمد على الطّرق والوسائل التقليديّة. Ø إزالة الحدود السّياسيّة والجغرافيّة القائمة بين المؤسّسات الماليّة، حيث يختار المستعمل المؤسّسة التي تناسبه على أساس الخدمات التي تؤمّنها وليس على أساس جنسيّتها. ومن المعروف أنّ وسطاء البورصة والأسواق الماليّة يتقاضون عادة عمولات مرتفعة على الخدمات التي يؤدّونها من استشارات وإتمام صفقات بيع وشراء. وكانت نوعيّة ودقّة المعلومات التي يقدّمها الوسطاء هي المبرّر لفرض النّسبة المرتفعة من العمولات ويبدو أنّ هذه الحجّة لن يعود لها مبرّر في المستقبل وذلك بالنّظر إلى توافر جميع أنواع المعلومات المطلوبة على الأنترنات. ومن جهة أخرى، تعدّ تجارة بيع السيّارات من أكثر أنواع التّجارة رواجا عبر الأنترنات خاصة في الولايات المتحدة حيث يستطيع المستهلكون الإتّصال بموقع متخصّص مع تحديد نوع السيّارة التي يرغبون بشرائها فيتلقّون إذ ذاك العروض من البائعين والشّركات ويختارون من يقدّم العرض الأفضل ليتمّ التّسليم إمّا في مقرّ البائع أو المشتري حسب الإتّفاق، كلّ ذلك في زمن جدّ قياسي. وتقلّ أسعار السيّارات المعروضة عبر الأنترنات 10% تقريبا عن أسعار السيّارات المبيعة بالطّريقة التقليديّة والسبب في ذلك هو أن كلفة اشتراك بائع السيارات في شبكة لتأمين خدمات البيع عبر الشّبكة هي أدنى بكثير من تكاليف الدّعاية والتسويق بالاسلوب التّجاري التقليدي ولقد بلغت نسبة السيّارات التي تم بيعها بأسلوب التّجارة الألكترونيّة 13,24% في الولايات المتّحدة السّنة الماضية. ويتوقّع الخبراء أن تشهد التّجارة الالكترونيّة إزدهارا واسعا خاصّة أنّ انخفاض أسعار أجهزة الكمبيوتر الشّخصيّة سيزيد من إقبال المستهلكين على شرائها وقد أصبحت التّجارة الألكترونيّة ركنا مهمّا في الاستراتيجيّة المتّبعة لدى قطاع الأعمال بشكل عام وتحاول الشركات الاستفادة من المقوّمات التي توفّرها الأنترنات في إنجاز التّعاملات التّجاريّة الكترونيّا بهدف خفض الكلفة وزيادة نسبة الأرباح ويتوقّع الخبراء تغييرات جذريّة خلال السّنوات الخمس القادمة تشمل كيفيّة استعمال الشبكة وتقنيّات الدّعم والبنية التحتيّة للشبكة. أمّا صفقات الشّراء التي تمّت عبر الأنترنات في مختلف أنحاء العالم فقد بلغت قيمتها 10 بلايين دولار أمريكي خلال سنة 1997 ومن المتوقّع أن تصل هذه القيمة إلى 220 بليون دولار أمريكي بحلول سنة 2001 و327 بليون دولار أمريكي سنة 2002[12] وفي هذا الإطار عملت تونس على تعزيز قدراتها واستباق الأحداث واستشراف المستقبل بمواكبة المتغيّرات التّقنيّة والاقتصاديّة فرغم أنّ الواقع التّجاري التونسي لم يتشكّل الكترونيّا بعد وإن بدأت الخطوات حثيثة في اتجاه إتمام ذلك[13]، فقد ارتأى المشرّع التونسي، على خلاف بعض التّشاريع المقارنة[14]،إعداد الإطار القانوني الملائم حتّى يكون حافزا على الإقبال على التجارة الألكترونية، هذا النّمط التجاري الجديد الذي يستدعي فضلا عن السّرعة، تدعيم عنصر الثقة سواء بين المتعاقدين أو في نظم الإعلاميّة والتكنولوجيا المستخدمة. فكان أن أصدر قانون المبادلات والتّجارة الألكترونية بتاريخ 9 أوت 2000 تحت عدد 83 الذي عرّف في فصله الثاني التجارة الألكترونية بأنّها العمليّات التجارية التي تتم عبر المبادلات الالكترونية التي عرّفها بدورها ذات الفصل بأنّها المبادلات التي تتمّ باستعمال الوثائق الألكترونية بما تكون معه هذه الأخيرة وسيلة الإثبات الحديثة في المادة التجارية المتسمة بحريّة الإثبات على معنى الفصل 597[15] من المجلّة التجارية إلا أن حريّة الإثبات لا تعني غياب الضّوابط بل يجب أن يكون مطابقا للقانون في وسائله لا مقيّدا كما هو الحال في المادّة المدنيّة[16]. لذلك بادر المشرع التونسي بتنقيح بعض الفصول من مجلّة الالتزامات والعقود بمقتضى القانون عدد 57 لسنة 2000 والمؤرخ في 13 جوان2000 لتنظيم الوثيقة الألكترونية فعرّفها ونظّرها بالكتب غير الرسمي بالفصل 453 مكرّر بعد أن أقرّ العمل بالإمضاء الألكتروني صلب الفقرة الثانية من الفصل 453 من ذات المجلّة. ومبدأ حريّة الإثبات يحد تكريسا له سواء في الأعمال التّجاريّة الصّرفة التي تجمع بين تاجرين على معنى الفصل الثاني من المجلة التجارية أو في الأعمال التجارية المختلطة التي تجمع التاجر بغير التاجر وعليه فإن قواعد الإثبات لا تحدّد على أساس طبيعة الدّعوى إن كانت مدنيّة أو تجاريّة على معنى الفقرة الخامسة من الفصل 40 م.م.م.ت التي جاء فيها : "وتعتبر دعاوى تجاريّة على معنى أحكام هذا الفصل الدّعاوى المتعلّقة بالنّزاعات بين التّجار، فيما يخصّ بعض نشاطهم التجاري." فالعبرة بنوع التّعامل وصفة الخصوم لا بالمحكمة المختصّة[17] إذ يمكن أن تنظر المحكمة المدنية في نزاع تجاري ويقع إعمال قواعد الإثبات الحر كما يمكن أن يطرح نزاع مدني أمام محكمة تجاريّة فتعمل قواعد الإثبات المدني. وتجدر الإشارة إلى أن بادرة وضع إطار قانونيّ لكلّ هذه المسائل كانت صادرة من لجنة الأمم المتّحدة الخاصة بالقانون التجاري الدولي منذ سنة 1996 ووضعت قانونا نموذجيّا للتّجارة الالكترونيّة إهتدت به عدّة دول[18]، وحدّد هذا القانون الإطار العام للتّجارة الألكترونيّة،فضبط ميدانها ومفاهيمها ووضع المقاييس القانونيّة للإعتراف برسالة البيانات الألكترونيّة، فعرّف الوثيقة الإلكترونيّة وحدّد شروط الإعتراف بها وحجيّتها وعرّف الإمضاء الألكتروني وتبادل الرّضاء. كما اتّخذ الإتحاد الأوروبي، في نفس الإطار، عدّة توصيات بلغت إلى الآن 13 توصية وذلك على امتداد عدّة سنوات[19] وبصرف النّظر عن استعمال أجهزة الهاتف[20] والفاكس والتليغراف والتّلكس[21] في إجراء المفاوضات وإبرام العقود التّجاريّة، التي لا تطرح في حقيقة الأمر مسائل معقّدة لأنّ معظمها يترك أثرا كتابيّا بالمعنى التقليدي للكلمة، فإنّ أكثر ما يجلب التّساؤل هو مدى جدوى الإندماج في المنظومة اللاّماديّة التي يتأسّس عليها عمل الشّبكات الحديثة سواء كانت خاصّة أو عامّة ذلك أنّ أغلبها لا تترك أثرا كتابيّا خطيّا بل تخلّف وراءها وثيقة ألكترونيّة فهل ترى وسيلة الإثبات هذه، كفيلة بتحقيق المعادلة بين تطوّر المعاملات وتوفير الضّمانات؟ لئن كان عنصر التّطوّر حقيقة ملموسة تشهدها أغلب دول العالم وستعمّ حتما بقيّة الدّول الأخرى عاجلا أم آجلا تأسيسا لحضارة الحاسوب والأنترنات، فإن عنصر الضّمانات هو الذي بقي تحت المجهر ترتّب بمقتضاه درجة نجاعة الأنظمة القانونيّة ويحدّد بموجبه مصير تجربة التّجارة الالكترونيّة بين النّجاح والفشل. وتتمثّل الضّمانات في كلّ ما من شأنه أن يطمئن المتعامل سواء أثناء سير المعاملة أو بعد انتهائها وخاصّة عند نشوب نزاع ناتج عن عدم تنفيذ أحد الاطراف لالتزاماته أو نكرانه لبعضها فهو في حاجة إلى التعّرف على معاقده للإطمئنان على سمعته التّجاريّة إن كان تاجرا أو على قدرته على الدّفع والوفاء إن كان مستهلكا، هذا في المرحلة السّابقة للتعاقد. أماّ إذا تمّ التّعاقد، فكلا الطرفين بحاجة إلى الإطمئنان إلى أنّ الإلتزامات المتبادلة سيقع تنفيذها وفي كلّ الحالات سيبقى لديهما أثر يعارض كلّ منهما الآخر بمحتواه. وهي ضمانات يوفّرها العنصر الورقي المادّي والملموس للحجّة العاديّة، فما مدى قدرة الوثيقة الالكترونيّة على الحلول محلّ هذه الأخيرة في ضمان سلامة البيانات المتبادلة من التغيير والإتلاف من طرف الغير، والتّعريف بالطّرفين : واستثباتهما أي مراقبة هويّتهما وعدم إنكار المراسلة وما تحتويه من التزامات
La non répudiation ؟ وهنا يجدر التمييز بين الشّبكات المغلقة والشّبكات المفتوحة حيث إنّ الشّبكات المغلقة (Intranetخلافا للشبكات المفتوحة (Internet) تضمن جانبا كبيرا من الامان والمصداقيّة فهي عبارة عن جملة من الحواسيب المرتبطة ببعضها بواسطة وسائل فنيّة وتديرها سلطة مركزيّة تتحكّم في الأشخاص الّذين بإمكانهم الدّخول إلى الشبكة عبر كلمة عبور تمكّنهم منها طبعا للإتفاقات المبرمة مسبّقا وتضمن هذه الشّبكات قدرا عاليا من الاستثبات والسريّة والأمان والدقّة طبقا للوسائل الفنيّة المستعملة وتمكّن في نفس الوقت من ضمان التعرّف على الحرفاء بواسطة الأرقام الشّخصيّة المسندة إلى كلّ واحد منهم مسبّقا. في حين أنّ شبكة الأنترنات تمتاز بطابعها اللاماديّ وعنصرها الدّولي المفتوح إذ يجوز بالتّالي للكافّة الإبحار عبر مواقعها والإطلاع على مضامينها وليس من المستبعد أن يطّلع الغير على مضمون الرّسائل المتبادلة وقد يعمد إلى تغيير محتواها أو تحويره وذلك من الأمور الهيّنة وعليه تطلّب العمل أوّلا على ضمان سلامة الرّسائل المتبادلة من التّغيير والتّوقّي من تدخّل الغير غير المشروع بمضمون الوثيقة. ويجب التأكّد من هويّة الطّرف المقابل بمعنى التّعرّف على حالته المدنيّة وأهليّته وسلطته القانونيّة وإن كان يجلس وراء شاشته في مكان بعيد من هذا العالم وإذا حاول إنكار قيامه بالمعاملة يتطلّب الأمر وضع الآليّات النّاجعة لمعارضته ومواجهته. ووعيا منه بأنّ توفير أكبر قدر من الضّمانات هو الكفيل بدفع تجربة التّجارة الالكترونيّة نحو الإنتشار، حرص المشرّع على تنظيم الوثيقة الألكترونيّة منذ نشأتها مرورا بالتّعامل بها وإنتهاء بحفظها والإحتجاج بها أمام القضاء في جميع صيغها ففضلا عن قانون المبادلات والتّجارة الألكترونيّة وتنقيح مجلّة الالتزامات والعقود، نقّح المشرّع بعض فصول المجلّة التّجاريّة في اتّجاه إرساء المقاصّة الألكترونيّة وتمّم المجلّة الجنائيّة بإرساء الجرائم المعلوماتيةّ إلى جانب القرارات التطبيقيّة التي اعتنت بالجانب التقنيّ. وبمقاربة جميع هذه النّصوص القانونيّة يتّضح أنّ التّوفيق بين مواكبة التّطوّرات الحاصلة في عالم المال والأعمال على مستوى تقنيّات التّعامل من جهة وبين إرساء مناخ آمن يوفّر أكبر قدر ممكن من الضّمانات من جهة أخرى، ممكن التحقيق ويجد لـه أساسا قانونيّا (الجزء الأوّل) غير أنّه بإعمال قاعدة الجدليّة بين القانون والواقع نقف على بعض الصّعوبات التي من شأنها أن تعرقل تحقيق تلك المعادلة ما لم يقع تجاوزها
(الجزء الثّاني). الجزء الأول : وسائل الإثبات التجاري : تطور وضمانات : معادلة أسّس لها القانون بقطع النّظر عن محيط التعامل سواء كان ماديا (Matériel) أو لامادّيا (immatériel) فإن المعاملة التجارية ، على غرار التعاقد في المادّة المدنية ، تمرّ زمنيّا بمرحلتين يتّم خلال أولاهما الإتفاق على إلتزامات كل طرف فيما يقع خلال الثانية تنفيذ تلك الإلتزامات والمتعاقد تاجرا كان أو حريفا في حاجة في كل مرحلة إلى الإحتفاظ بأثر يحرص على أن يكون كتابيا حتّى يتسنّى له الرّجوع إليه عند الإقتضاء للإستدلال به سواء على وجود الإلتزامات ونطاقها
( الفرع الأول ) أو على تنفيذها وبراءة الذّمة من عدمها ( الفرع الثاني ) . الفرع الأول : إثبات الإلتزامات ولئن إتّسمت المعاملة الإلكترونية بطابعها الاّمادي (Dématérialisation) باندثار السند الورقي فإنّ ذلك لا يعني غياب السّند مطلقا كما أسلفنا و إنّما تغيّر شكله ليصبح سندا إلكترونيا تمثّل الوثيقة الإلكترونية أحد تمظهراته
وأهمّها على الإطلاق على مستوى الإثبات لذلك و قبل التطرق إلى قوّتها الثبوتيّة مقارنة بالسند الورقي ( المبحث الثاني ) و مميّزاتها الأمنية ( المبحث الثالث ) وجب الوقوف أوّلا على ماهيّتها ( المبحث الأوّل ). المبحث الأوّل : تعريف الوثيقة الإلكترونية ويطلق عليها كذلك حسب عبارة بعض رجال القانون الوثيقة الرّقمية [22] أو الوثيقة المعلوماتية [23] و هي تعرف في إطار قانون الأونسيترال النّموذجي بشأن التجارة الإلكترونية برسالة البيانات التي يراد بها " المعلومات التي يتم إنشاؤها أو إرسالها أو استلامها أو تخزينها بوسائل إلكترونية أو ضوئيّة أو بوسائل مشابهة، بما في ذلك على سبيل المثال لا الحصر تبادل البيانات الإلكترونية أو البريد الإلكتروني ... "[24] ومصطلح الوثيقة يطلق بصفة عامّة على كل كتب يشمل عنصر إثبات أو معلومة تحيل على الكتابة على سند ورقيّ وعلى هذا الأساس يرى ERIC.A.Caprioli أنّه طالما أصبحت المعطيات والمعلومات تتبادل بين الأطراف عن طريق وسائل ألكترونيّة فقد بات من الجدير التموقع في وسط اتصالي للحديث عن رسالة (message) بدل عبارة وثيقة(********) و مهما اختلفت التّسمية فهي تنطبق في كل الأحوال على نفس المسمّى المتمثّل فنيّا في سلسلة من الأرقام تعبّر عن حالة وجود كهرباء في السلك المجسّم أو مغناطيس في الذّاكرة المغناطيسية أو تباين ضوئي في ذاكرة القرص اللّيزري [25] ، أمّا قانونيّا فوعيا منه بضرورة ملائمة وسائل الإثبات مع ما يشهده عالم المعاملات من تطور مطّرد أملته الثورة الرقمية والإتّصالية، أضاف المشرع التونسي فصلا لمجلة الالتزامات والعقود [26] عرّف في الفقرة الأولى منه الوثيقة الإلكترونية بكونها تلك " المتكوّنة من مجموعة أحرف وأرقام أو أي إشارات رقمية أخرى بما في ذلك تلك المتبادلة عبر وسائل الاتصال تكون ذات محتوى يمكن فهمه ومحفوظة على حامل إلكتروني يؤمّن قراءتها والرّجوع إليها عند الحاجة " . وبالتّأمل في هذا المفهوم يتضح أنّ المشرع التونسي قد إرتأى ارساء مفهوم واسع للوثيقة الإلكترونية يستوعب جميع أشكال المعلومة وطرق نقلها عبر شتّى وسائل الإتّصال سواء الموجودة زمن إضافة هذا الفصل أوالتي من الممكن أن يفرزها التطور العلمي مستقبلا[27] . هذا ما قصده المشرّع بصفة صريحة إلاّ أنّ التّأويل يمكن أن يذهب بنا إلى أبعد من ذلك, إلى صياغة مفهوم للكتب l’écrit و للكتابة المعتمدة قانونا كوسيلة إثبات على ضوء المستجدّات العلميّة المنعكسة ضرورة على طرق صياغة المعلومة سيّما و أنّ القانون التّونسي لم يتضمّن تعريفا للكتب و إنّما اقتصر على تعداد أصناف الكتائب المعتمدة كوسائل إثبات فحسب و ذلك صلب الفصلين 427 و 441 من مجلّة الالتزامات والعقود والّذين لم يشملها التّنقيح الأخير[28] على خلاف القانون الفرنسي الذّي اغتنم فرصة تنقيح بعض فصول المجلّة المدنيّة لملاءمتها مع تطوّر تكنولوجيا المعلومات ليورد تعريفا للبيّنة بالكتابة صلب الفصل 1316 من المجلّة المدنيّة والآتي نصّه : « la preuve littérale ou preuve par écrit, résulte d’une suite de lettres, de caractères, de chiffres ou de tous autres signes ou symboles dotés d’une signification intelligible, quels que soient leur support et leurs modalités de transmission ». وهو تعريف استغنى به المشرّع الفرنسي عن تعريف الوثيقة الإلكترونية بذاتها[29] بل ركّز مفهوما واسعا للكتب المعدّ للإثبات من شأنه أن يستوعب جميع أشكال الكتابة ومن ضمنها شكلها الإلكترونـي وذلك بقطع النظـر عن السّند الذي يحملها وطريقة نقلها ممّا يؤسّس لنظرية متكاملة للبيّنة بالكتابة مرتكزة على مبدئين جوهريّين يتمثّل أولهما في الحياد التّقني(Le principe de la neutralité technique ) فبما يتمثّل ثانيهما في عدم التّمييز بالنظر إلى نوعية السّند ووسيلة الاتصال المعتمدة (Le principe de la non–discrimination à l’encontre d’un support ou d’un média).[30] وبالرّجوع إلى نصوصنا القانونيّة وإجراء المقاربة بينها يمكن الخروج بنفس هذه النظرية الجديدة للبيّنة بالكتابة ذلك أنّ الفصل 453 مكرّر أورده المشرّع ضمن القسم الثاني من الباب الأوّل من المقالة الثامنة من مجلّة الالتزامات والعقود تحت عنوان "في البيّنة بالكتابة" وفي نفس هذا الاتجاه ورد بشرح الأسباب لمشروع القانون المتعلّق بتنقيح وإتمام بعض الفصول من مجلّة الالتزامات والعقود أنّه " في نطاق مواكبة المشرّع لآخر المستجدّات خاصّة في مجال التّجارة الإلكترونية اقترح المشروع وضع تعريف للوثيقة الإلكترونية ونزّلها منزلة الكتب الخطّي " وفعلا اعترف المشرّع بصفة صريحة صلب الفصل 453 مكرّر بأن الوثيقة الإلكترونية كتب[31]وبالتالي فإنّ تعريفها الواردة به مقتضيات الفقرة الأولى من ذات الفصل إنّما هو في الحقيقة تعريف للكتب والكتابة بما هي " مجموعة من أحرف وأرقام أو أيّ إشارات رقمية أخرى بما في ذلك تلك المتبادلة عبر وسائل الاتّصال تكون ذات محتوى يمكن فهمه ." وبالرّجوع إلى التّعريف اللّغوي للكتابة باعتبار أنّها مصدر كتب وكتب الرّجل كتبا وكتابا أي " صوّر اللفظ بحروف الهجاء " [32]يتّضح أنّ التعريف المذكور أعلاه صلب الفقرة الثانية من الفصل 453 مكرّر من مجلة الالتزامات والعقود ينسجم مع مفهوم الكتابة اللّغوي المتداول والمتفق عليه فالوثيقة الإلكترونية لم تخرج عن إطار تصوير الألفاظ والمعاني لكن بشكل يتوافق ومميّزاتها التقنيّة . وطالما توصلنا إلى أن ّمحتوى الوثيقة الإلكترونية حسبما عرّفته الفقرة الأولى من الفصل 453 مكرّر السّالف الذّكر يعدّ شكلا من أشكال الكتابة المعتمدة قانونا,[33] أمكن الاستنتاج أن الكتابة في القانون التونسي قد تحررت من سندها وأضحت مستقلة عنه [34]. بل وأكثر من ذلك أمكن اعتماد الفقرة الأولى من الفصل 453 مكرر كتعريف للكتابة المعتمدة في الإثبات بصفة عامة ذلك أن تلك الفقرة لا تختلف في صياغتها عن صياغة الفصل 1316 من المجلة المدنية الفرنسية الذي جاء فيه أنّ " الإثبات بالكتابة ينتج عن سلسلة من الأحرف والأرقام أو أيّ إشارات أو رموز أخرى يكون لها معنى يمكن فهمه مهما كان سندها أو طرق نقلها " ومن ثمّ أمكن تحقيق مبدئي الحياد التقني والإتصالي
( La neutralité technique et médiatique ) الّذين تقوم عليهما نظرية الإثبات بالكتابة وهما مبدئان ولئن لم يتسنّى بعد لفقه القضاء التونسي التعرّض إليهما بالشّرح والبسط فإنّ فقه الفضاء الفرنسي كان سبّاقا في هذا الموضوع فمنذ سنة 1846 استقر فقه القضاء الفرنسي ، وسانده في ذلك الفقه ، على أنّ الكتب مستقل عن الأداة والمادّة المستخدمين في إحداثه [35] وكذلك كان موقف فقه القضاء الحديث الذي اعترف بصحّة الكتب بدون سند مادّي.[36] إذن لم تزل الكتابة وإن انتفى القلم والورق غير أن الاعتراف بها في شكلها الجديد أضحى خاضعا لتوفر شرطين أملتهما متطلّباتها التّقنية وجسّمتها الفقرة الأولى من الفصل 453 مكرّر م.إ.ع فالمتعامل عبر الشّبكة المفتوحة يرسم عروضه وطلباته من خلال شاشة مرئية لجهاز الكمبيوتر وذلك باستعمال حروف هجاء أو أرقام أو إشارات رقمية تكون مفهومة ( الفقرة الأولى) ومحفوظة على حامل إلكتروني يؤمّن قراءتها والرّجوع إليها عند الحاجة ( الفقرة الثانية الفقرة الأولى : قابلية محتوى الوثيقة الإلكترونية للفهم : « Pour vivre heureux, il faut vivre caché » هذه المقولة لـ ERIC.A.CAPRIOLI تختزل الأساس الذي يقوم عليه عالم الأعمال والتجارة والذي استعارته وجسمته الوثيقة الإلكترونية فالأمان والسرية هما سلاح كلّ رجل أعمال ومتعامل في المادّة التجارية لتحقيق نجاحه والتفوّق على منافسيه وقد يتراءى للبعض أنّ هاتين الخاصيتين تندثران كلّما ولجنا عالم التّجارة الإلكترونية ، عالم التعامل عبر أجهزة الحاسوب في إطار شبكة مفتوحة للعموم ، إلاّ أنّ المتأمّل في النّصوص القانونية المنظّمة للمادة وفي المسار التّقني الذي تسلكه المعاملة التجارية الإلكترونية ينتهي إلى أنّ أكثر ما يضمنه هذا الصنف من التعامل الأمانة والسرية وذلك بفضل استخدام تقنيّة التّشفير [37] وقد شرّع لها القانون التونسي ونظّمها منذ سنة 1997 [38] لتصبح عماد التبادل والتخاطب الإلكتروني وتنسيقا مع هذا التمشي التشريعي جاءت الفقرة الأولى من الفصل 453 مكرر من م.إ.ع ناصّة على أنّ الوثيقة الإلكترونية يجب أن تكون ذات محتوى يمكن فهمه. إلاّ أنّه بالإعتماد على مقتضيات الفصل 532 من م.إ.ع [39] يمكن أن نحوّر في عبارة النص لمزيد توضيح مقصد المشرّع وفق ما يتناسب والدّلالة اللّغوية والمنطق القانوني وذلك باستبدال جملة : " تكون ذات محتوى يمكن فهمه ". بجملة : " تكون ذات محتوى يمكن فهم معناه " أو بجملة : " تكون ذات محتوى له معنى يمكن فهمه " . استئناسا بعبارة الفصل 1316 من المجلة المدنية الفرنسية التالية : « … Dotés d’une signification intelligible … » وهو الاتجاه الأصوب ومقصد المشرع الصحيح حسب رأينا ، فعبارة المحتوى تحيل إلى مطلع الفصل 453 مكرّر أي على تعريف الوثيقة الإلكترونية الشّكلي بما هي مجموعة أحرف[40] وأرقام[41] أو إشارات[42] ورموز[43] فإذا ما اقتصرنا على ربط الطّالع بنهاية الفقرة الأولى أصبح الشرط يتمثل في أنّ هذه الأحرف والأرقام
و الإشارات والرّموز يجب أن تكون مفهومة [44] أي يمكن قراءتها والتعرف عليها ويتسنّى ذلك بفضل استعمال مفاتيح التشفير التي عرّفها الفصل الأول من قرار وزير المواصلات لسنة 1997 المذكور سالفا بأنّها " مجموعة الرّموز والإرشادات التي تمكّن من قراءة المعلومات المشفرة والبرامج أو الأجهزة المعلوماتية الخّاصة بها " ذلك أنّه باستخدام تقنية التّشفير يصبح محتوى الوثيقة غير مفهوم أي أنّه لا يمكن تمييز مكوّناته وبإعمال مفاتيح التّشفير تصبح هذه الأخيرة واضحة فتصبح مثلا العلامة –X- بعد حلّ التشفير وفكّه
(Le déchiffrement ) تقابل حرف الهجاء – ب – وعلامة – Y – تقابل رقم 1...إلخ إلاّ أنّ ذلك لا يعني أنّنا أدركنا معنى هذه المكونات مجتمعة فعمليّة فهم المحتوى تقابلها عملية إيضاح المحتوى فحسب ونظلّ بالتالي في مستوى التّعريف الشكلي للوثيقة دون الولوج إلى جوهرها والمتمثل في معناها ودلالتها
(Sa signification ) وإلاّ فما جدواها في الإثبات إذ لا يكفي أن يكون محتوى الوثيقة واضحا ومقروءا ( Lisible ) بل يجب أن يكون منظّما ومرتّبا بصفة يؤدّي بها معنى ما يمكن فهمه (Intelligible)فالأحرف الواردة بصفة عشوائية أو الإشارات الوهميّة أو النصّ المكوّن على الحاسوب بصفة عرضيّة لا يمكن أن يمثّل وثيقة إلكترونيّة يعتدّ بها على صعيد الإثبات وعلى هذا الأساس وتأكيدا على عنصري تعريف الوثيقة الإلكترونيّة شكلا وأصلا كان من الأجدر استعمال عبارة " سلسلة من الأحرف و..." (Suite de……) بدلا من عبارة "مجموعة من الأحرف و....." (Ensemble de ….) إذ الأولى تفترض وجود تناسق وأنسجام وترتيب بين مكوّنات محتوى الوثيقة في حين أنّ الثانية لا تفترض بالضّرورة ذلك . إنّ الخوض ، في إطار تعريف الوثيقة الإلكترونيّة , في مناقشة محتواها لا يخرج عن إطار المبدأ العامّ المعمول به والقائم على أنّ الكتب يجب أن يقدّم للقاضي بلغة واضحة ومفهومة (compréhensible) وذلك بقطع النّظر عن سنده ورقيّا كان أو إلكترونيّا وإلاّ فإنّه لن يعتمد في إطار الإثبات بالكتابة. وأن يكون الكتب ذا معنى مفهوم يقتضي بالضّرورة توفر سند يؤمن قراءته والرجوع إليه, سندا تغيّر بتغيّر شكل الكتابة وطرق نقلها , سندا فرضته التقنيات المعلوماتيّة المستجدّة يسمّى الحامل الإلكتروني . الفقرة الثانية : ضرورة حفظ الوثيقة على حامل إلكتروني « Ne pas être on ne peut être prouvé , c’est tout un » هكذا اختار كلّ من Laurent Boyer و Henri Roland [45]صياغة الحكمة المستخلصة من القانون الرّوماني « Idem est non esse et non probari . » ومفادها أنّه في غياب الحجّة يندثر الحقّ ولا يمكن المطالبة به . وبالتالي كان لزاما على كل متعامل الحرص على الاحتفاظ بأثر يثبت حصول المعاملة وجميع أطوار تنفيذها ولا يكفي الحصول على ذاك الأثر بل يجب حفظه والعناية به [46]. إذ بفقدانه أو بتلفه تتلاشى كلّ إمكانيّة للإثبات خاصّة إذا ما تعلّق الأمر بمعاملة لا ماديّة بين أطراف يتخاطبون فيتفاوضون ثمّ يتعاقدون عبر شاشات الحواسيب ومختلف قنوات الاتّصال الحديثة . وممّا لا شكّ فيه أنّ الكتب يدخل في إطار وسائل الإثبات المهيّأة من قبل الأطراف قبل نشوب أيّ نزاع بينهم ومن ثمّ وسواء كان كتبا ورقيّا
أو إلكترونيّا فإنّه يستوجب الحفظ بطريقة تضمن سلامته إلى حين الإدلاء به . وقد أولى المشرّع التّونسي أهمية كبيرة لمسألة حفظ الكتب إذ جعل منها , في مرحلة أولى , شرطا للاعتراف القانوني بالوثيقة الإلكترونيّة صلب الفقرة الأولى من الفصل 453 مكرّر م- إ –ع وفي مرحلة ثانية اعتبرها شرطا للاحتجاج بالوثيقة الإلكترونيّة وتنزيلها منزلة الكتب غير الرسمي صلب الفقرة الثانية من ذات الفصل [47] وذلك على غرار ما ورد في المادّة 6 من القانون النموذجي للأمم المتّحدة من أنّه : " عندما يشترط القانون أن تكون المعلومات مكتوبة , تستوفي رسالة البيانات ذلك الشرط إذا تيسّر الإطلاع على البيانات الواردة فيها على نحو يتيح إستخدامها بالرّجوع إليه لاحقا." وكذلك الشأن بالنّسبة للقانون الفرنسيّ[48] . والحفظ (La Conservation) قانونا التزام يوجب على الشخص المطالب به الإبقاء على الوثائق وعدم التصرف فيها بعد إقفالها (إذا كانت دفاتر تجارية مثلا) أو بعد استيفاء شكلها النهائي (ان كانت وثائق من صنف مغاير) وذلك إلى انقضاء فترة معينة[49]. وقد جرى العمل على استعمال عبارة أرشيف
(Archivage ) كمقابل لعبارة حفظ والحال أن لكلا المصطلحين دلالة خاصة فبالنسبة لحفظ الأعمال القانونية فيتمثل في عملية مسك وصيانة الوثائق كما هي ، على حالتها ووقايتها من كل تغيير أو تلف وهو أيضا العملية المادية التي باحترام جملة من القواعد القانونية ، تضمن حماية حقّ ما. أمّا الارشيف فيمثل بصفة عامّة في مجموعة من الوثائق مهما كان تاريخها وشكلها وسندها بدون أن تتوفر أدنى دلالة قانونيّة [50] . ونظرا لأهميّة آثار الحفظ القانونية على مستوى الاثبات والاحتجاج بالوثيقة الإلكترونية [51]، سعى المشرع إلى إيضاح بعض جوانب المسالة والخروج بها من دائرة الاختيار إلى منطقة الوجوب والإلزام فقد جاء بالفقرة الثانية من الفصل الرابع من القانون عدد 83 لسنة 2000 المؤرخ في 9 أوت 2000 والمتعلق بالمبادلات والتجارة الإلكترونية أن كلاّ من المرسل والمرسل إليه يلتزم بحفظ الوثيقة الإلكترونية في الشكل الذي أرسلها أو تسلمها به . والحديث عن الحفظ يجرنا إلى الخوض في مسألتين تتعلق أولاها بالطرق المعتمدة في صيانة الوثائق الإلكترونية )أ( صيانة قد تطول وقد تقصر بحسب الآجال المرتقبة )ب(. أ - طــرق الحفـظ : لم يشترط المشرّع حفظ الوثيقة الإلكترونية لمجرد الحفظ فحسب وإنّما لتحقيق أهداف تعرّض إليها متفرّقة بين مجلّة الالتزامات والعقود[52] وقانون المبادلات والتّجارة الإلكترونية [53] فقد جاء بالفصل 453 مكرّر من م.إ.ع أنّ الحفظ يجب أن يتسلّط على الوثيقة الإلكترونية في شكلها النّهائي وبطريقة موثوق بها وذلك على حامل إلكتروني [54] حدّد الفصل 4 من قانون المبادلات والتّجارة الإلكترونية مميّزاته صلب الفقرة الثالثة منه : " ويتمّ حفظ الوثيقة الإلكترونية على حامل الكتروني يمكّن من : - الإطّلاع على محتواها طيلة مدّة صلوحيتها - حفظها في شكلها النهائي بصفة تضمن سلامة محتواها. - حفظ المعلومات الخاصة بمصدرها وبوجهتها وكذلك تاريخ ومكان إرسالها أو استلامها " . ومن ثمّ يتّضح أنّه ولئن أقرّ المشرّع صراحة المساواة القانونية بين وسائل حفظ الوثيقة الإلكترونية ووسائل حفظ الوثيقة العادية صلب الفقرة الأولى من ذات الفصل [55] فإن هذه المساواة أضحت مساواة وظيفية بمعنى مشروطة بعدة وظائف تقدم ذكرها وعلى الحامل الالكتروني ضمانها. فماهي إذن الحوامل أو الأوعية الإلكترونية الكفيلة بتحقيق تلك الغايات ؟ . لقد جاء بتقرير أجوبة وزارة المواصلات على أسئلة واستيضاحات لجنة التشريع العام والتنظيم العام للإدارة ولجنة التجهيز والخدمات ولجنة الفلاحة والصناعة والتّجارة حول مشروع القانون المتعلق بالمبادلات والتجارة الإلكترونية[56] أنّه في مستوى الحفظ ، يتّم الحفظ على حوامل إلكترونية تضمن سلامة محتوى هذه الوثيقة .من بينها فرص ليّن ، قرص مضغوط، ميكروفيلم، ميكروفيش، هذا بالإضافة إلى إمكانية خزنها بذاكرة الحاسوب ". وما تجدر الإشارة إليه أنّ المشرّع التونسي لم يضبط قائمة للحوامل الإلكترونية وإنّما ترك المجال مفتوحا لإستيعاب كل ما يمكن أن يحدثه التطور الحاصل في عالم الإعلامية والاتصالات ونقل المعلومة من وسائل توثيق وخزن حديثة بشرط أن تضمن هذه الأخيرة سلامة محتوى الوثيقة الإلكترونية [57] وهو شرط يستخلص سواء من صريح من صريح عبارة الفصل 4 من ق.م.ت.أ : " ... حفظها في شكلها النهائي بصفة تضمن سلامة محتواها." أو من مداولات مجلس النواب والتي جاء فيها كرد على أسئلة بعض السادة النواب حول الأهداف المرجوة من إرساء جميع هذه الوسائل التقنية المحيطة بالتجارة الإلكترونية ما يلي : " ... وهي وسائل تهدف إلى تحقيق الوظائف التالية : - ضمان سرية المبادلات ، - التعريف بهوية الأطراف المتدخّلة - الحفاظ على سلامة محتوى المبادلات - ضمان عدم إنكار أحد المتدخلين للمبادلة بعد إنجازها ..." لذلك يتّجه بادئ ذي بدء ، الوقوف على المقصود من عبارة السلامة " ذلك أنّ رجال القانون يميّزون السلامة L’intégrité عن التعويل والثقة [58]La fiabilité ويساندون استعمال المصطلح الأول دون ، وهو ما ذهبت إليه جلّ التشاريع حول الإمضاء الإلكتروني[59] بإعتبار أنّ المفهوم الثاني ضبابي وجدّ واسع ممّا من شأنه أن يفسح المجال أمام تأويلات مختلفة من طرف الخبراء العدليين عند قيامهم بمهامهم بتكليف من المحكمة والتي تعمل في غالب الأحيان بما توصّلوا إليه نظرا لخصوصية المادة وما تتطلبه من معارف تقنية متخصّصة. ولئن لم يعرّف المشرّع التّونسي مفهوم السّلامة[60] فإنّه يمكن تجاوز الأمر لإعتبارين يتمثل أوّلهما في أنّ مصطلح السلامة مصطلح عام متفق حول المقصود به وهو عدم تغيير محتوى الوثيقة من معطيات وبيانات واردة بها منذ الوقت الذي أنشئت فيه المرة الأولى في شكلها النهائي إلى حين الإحتجاج بها أو إلى حين انتهاء مدة الحفظ [61] فيما يتمثل الإعتبار الثاني في أنّه يمكن استنتاج تعريف لهذا المصطلح بالرجوع إلى مداولات مجلس النواب حول قانون التجارة الإلكترونية. إنّ بمناسبة استفسار أحد السّادة النواب عن مدلول عبارة " منظومة موثوق بها" الواردة بالفصل 4 من ق.م.ت أو هي ذات العبارة تقريبا الواردة بالفقرة 2 من الفصل 453 مكرر من م.إ.ع " محفوظة ... بطريقة موثوق بها...".جاء في الجواب أنّها تهدف إلى " ضمان سلامة المعلومات وصحّتها وحمايتها من التّلف وتسرّب الأخطاء إليها حتّى العفويّة منها ". وفي المقابل كان القانون النموذجي حول التجارة الإلكترونية أكثر وضوحا إذ جاء بالمادة 8 منه ما يلي : " يكون معيار تقدير سلامة المعلومات هو تحديد ما إذا كانت قد بقيت مكتملة ودون تغيير باستثناء إضافة أيّ تظهير وأيّ تغيير يطرأ أثناء المجرى العادي للإبلاغ والتّخزين والعرض. وتقدّر درجة التّعويل المطلوب ( le degré de la fiabilité ) على ضوء الغرض الذي أنشئت من أجله المعلومات وعلى ضوء جميع الظروف ذات الصلة." فالسّلامة تقتضي إذن : أوّلا :أن يكون الكتب قد إتخذ شكله النّهائي وليس في طور الأخذ والردّ أو التّفاوض مثلا بمعنى أنّ المعاملة قد استقرّت سواء في مرحلة الإلتزام أو في مرحلة تمام التنفيذ. ثانيا : أن تكون الوثيقة ذات تاريخ مثبّت بها يمثل تاريخ نشأتها بما تحمله من معطيات. ثالثا : عدم ادخال أيّ تغيير على محتوى الوثيقة بداية من ذلك التاريخ [62] وفي سياق الحديث عن تغيير المعلومة وتلفها ،تجدر الإشارة إلى أنّ عمليّة التغيير هذه يمكن أن تحصل بإحدى هذه الطّرق الثلاثة : 1-تغيير طبيعي مردّه وجود خلل في وسيلة نقل المعلومة ويمكن تجاوزه بصيانة جيّدة للخطوط والأجهزة الطرفية وبالنّسبة للوعاء الإلكتروني فمن المفروض أن يكون مستعمله عالما مسبقا بخاصياته بما في ذلك نقائصه وخاصّة منها مدّة حياة هذا الوعاء وبالتّالي يمكنه تفادي حصول التّلف أو الخلل قبل انقضاء ذلك الأجل. وأمّا العطب الطّارىء على الأجهزة فيمكن تفاديه بالصّيانة الوقائيّة التّي أثبتت جدواها بفضل تطوّر تكنولوجيا المعلومات علما وأنّ درجة التّعويل على الأجهزة المؤشّر عليها من طرف المصنّعين تكون دائما أقل من 100 % لكنّها بفضل التطور العلمي المطرّد أضحت تقترب شيئا فشيئا من تلك النّسبة المطلقة . 2- الخطأ البشري : يمكن تفاديه بعدّة طرق سواء بإعادة العمليّة من جديد أو بالرّجوع إلى الحلول التّي تقدّمها مختلف البرامج المعلوماتية المختصّة . 3- التدّخل الإيجابي : ويتمثّل في أنّ المتدخّل لا يكتفي بمجرّد التنصّت وإنّما يقوم إمّا بإتلاف الإرسالية أو بتغيير بعض البيانات فيها كالّتي تهمّ هويّة المرسل أو التّاريخ ويقع العمل على الحدّ من هذا الصّنف من المخاطر بإستحداث طرق تقنيّة حمائيّة سنأتي على استعراض بعضها في بابها.وبصفة عملية تتخذ الحوامل الإلكترونية أشكالا متعدّدة من بينها: 1- الميكروفيلم (Microfilm) وهو عبارة عن شريط (Film) يحتوي على مصوّرات أوفوتوغرافيا في حجم جدّ صغير مكوّنة لوثائق . 2- الميكروفيش (Microfiche) وهو عبارة عن وثيقة في حجم مضبوط
( 105 × 148 مم ) تحتوي على عديد الميكروفوتوغرافيا. 3- الأقراص الضوئية الرقمية ( disques magnéto-numériques ) 4- الأقراص المغناطيسية البصرية Disques magnéto-optiques) ) 5- البطاقات الليزرية 6- البطاقات ذات الذّاكرة (Les cartes à puce ) 7- الحوامل المغناطيسية وتشتمل على الأقراص الصلبة والأقراص المرنة وكذلك على الأشرطة المغناطيسية ويخول كلّ حامل من تخزين المعلومات والمنظومات لمدة طويلة . إلى جانب هذه الحوامل هناك القرص المضغوط لمدة طويلة CD-ROM وهو قرص ليزري مضغوط طاقة استيعابه كبيرة جدّا نسبيّا وهو قرص يقرأ فقط ولا يمكن الكتابة عليه ويتمّ تعريف القرص الصلب بحرف : C والقرص المرن بحرف : A والقرص المضغوط بحرف : D أو E . ولهذه الأقراص طاقة استيعاب تحدّد بـ MEGA OCTET أي مليون حرف و Gega Octet وهي تساوي مليار حرف ووحدة القياس octet تساوي حرف كتابة فحرف الألف وحرف A والرقم 0 إلى 9 والفاصل والنقطة تأخذ Octet عند الخزن وهذه الوحدة تتكون من ثمانية بيت BIT أصغر وحدة تخزين داخل الذاكرة وتأخذ قيمة 1 أو 0 أحد الأرقام الثنائيّة المستخدمة في السفرة. وهنا نتوقف للتساؤل عن كيفية خزن المعلومة تقنيا. إنّ عمليّة الخزن تعتمد على التّسجيل الرّقمي للمعلومة فلتسجيل التّعبير الرقمي لصورة أو لنصّ يقع نقل المعطيات الموجودة بالذّاكرة الحيّة للحاسوب R.A.M إلى ذاكرة DE MASSE ومثالها القرص البصري الرقمي[63]. وما تجدر الإشارة إليه أنّنا عند التسجيل لن نعيد كتابة النص المرئي على الشاشة على القرص بل ما يتم تسجيله هو عبارة عن سلسلة مرتّبة ومنظمة من
" 1 " و " 0 " فأبجدية اللغة التي تفهمها تلك المنظومات أبجدية ثنائية تتكون من الصفر والواحد ويتمّ تمثيلها بواسطة نبضات كهربيّة متقطّعة تسري في أوصالها أو يتمّ تجميدها وحفظها على وسائل ممغنطة ف" كهربة البيانات " تعني تحويلها من الصورة المرئية كخطوط مرسومة على صفحات الأوراق إلى تيارات كهربية متقطعة سارية في دوائر الحاسوب أو مجمّدة على وسائط التّخزين فيه.[64] ولمزيد التوضيح ، فإنّه عند تسجيل معطيات على حامل رقمي لا نكتب شيئا بل إنّ الأمر يقتصر على تغيير أو عدم تغيير في حالة سطح الحامل فعلامة " 1 " تعني التغيير في حين أن علامة " 0 " تفيد عدم التغيير. أمّا عملية قراءة البيانات المسجلة لاحقا فهي تتم كالتالي : تقوم وحدة المعالجة المركزية وبالتحديد وحدة المراقبة أو التحكم (CONTROL UNIT ) للحاسوب بفحص سطح الحامل فعندما تكتشف جزءا وقع تغييره ترسل إِشارة " 1 " إلى ذاكرة الحاسوب الحية وعند اكتشافها لجزء لم يقع تغييره ، ترسل إِشارة
" 0 " وانطلاقا من هذه الإشارات الرقمية يعيد البرنامج المعلوماتي إظهار المعلومة بصورة واضحة على الشاشة أو على مخرجات ورقية. كما تجدر الإشارة إلى أنّ التسجيل الرقمي يمكن أن يكون له أثران : 1- تسجيل قابل للرّجوع فيه لأنّه تمّ على حامل مهيّء لإمكانية الفسخ وإعادة التسجيل لمرّات عديدة ومثاله النموذجي الحوامل المغناطيسية . 2- تسجيل غير قابل للرجوع فيه لأنه تم على حامل لا يمكن التغيير فيه إلاّ لمرة واحدة فحسب كما هو الشأن بالنسبة للحوامل المعروفة "بـ " WORM "
(WRITE ONCE READ MANY). ويعدّ النّوع الثاني من التّسجيلات الرّقمية هو الذي يحقق الضّمانات الكافية للإثبات من حيث ضمان ديمومة المعلومة وسلامتها وعموما فالمسلم به حسب بعض الفنّيين أنّ درجة السّلامة تختلف ارتفاعا وانخفاضا بحسب نوع الوعاء الإلكتروني المستعمل وقد أجريت في الغرض عملية مقارنة تقنية بين بعض النّماذج من الأوعية بدءا بالوعاء الورقي [65]. احتلّ خلالها القرص المضغوط (CD-ROM) المرتبة الأولى في ضمان السّلامة فيما كانت المرتبة الثانية من نصيب CD-WORM بينما حازت البطاقة اللّيزرية المرتبة الثالثة وفي المقابل تراجع الوعاء الورقي ليستقرّ في المرتبة الثامنة ومن ثمّ نتبيّن وأنّ الحامل الإلكتروني يوفّر ضمانات تفوق بكثير تلك التي يوفرها الحامل الورقي. نفس النتيجة توصل إليها بحث تقني فرنسي وجّهت خلاله أسئلة إلى عدد من المختصين في مجال الحاسوب وخدماته[66]شمل : 1- أربعة مصنّعين لأجهزة الحاسوب وهم Bull و Digital و IBM و ICL . 2- مصنّع القرص المضغوط CD.ROM : شركة Ddigidoc 3- مصمّم برامج معلوماتية تخص استعمال الأقراص الضوئية الرقمية DON : شركة Dorotech . 4- مزوّد خدمات الإعلامية البعديّة : شركة TRANSPAC 5- Une agence sécurité : CAP-SESA FINANCE 6- Un serveur de sécurité des transmissions de données : sté véridial. فقد طرح السؤال التالي : ماهي الطرق والتقنيات المقترحة اليوم للأرشيف ؟ فكان الإتفاق حاصلا على ترشيح القرص الضوئي الرقمي (DON) إلى جانب اقتراح الشريط الممغنط magnétique Bande وبسؤالهم عن الحلول الواجب اتباعها لضمان ديمومة التسجيلات أجابت شركة DDIGIDOC أن DON-WORM هو الكفيل بتحقيق تلك الغاية وساندها في ذلك البقية. مركزين على الخاصية التي تميز هذا النوع من الأقراص وهي عدم قابلية للرجوع فيه : IRREVERSIBLE ولكن هل أنّ عدم قابلية العامل للرجوع فيه تعني ضرورة عدم قابليّة المعلومة نفسها للرجوع فيها ؟ هل أنّ الإثبات بمثل هاته الوسائل يقتضي أن يكون الحامل هو الغير قابل للرجوع فيه ( Irréversible ) أم المعلومة في حدّ ذاتها ؟ تساؤلات تولّد استفسارات أخرى تظلّ جميعها مطروحة إلى حين محاولة الإجابة عليها في بابها ضمن المباحث القادمة. ب – آجــال الحــــفــظ : عند دراسة مسألة الآجال في الحفظ فإنّه تجدر الإشارة إلى ضرورة التمييز وعدم الخلط بين مدة الحفظ الواجب احترامها بالنسبة للوثائق المدرجة بالأرشيف وبين مدة التقادم بالنسبة للحقوق والإلتزامات المتعلقة بها رغم أنهما يتطابقان بصفة عملية ويبقى الإختلاف الوحيد متمثلا حسب رأي الأستاذ JEAN –LOUIS RIVES –LANGE في أنّ أجل حفظ الأرشيف هو أجل محدد بصفة مسبقة وغير قابل للقطع في حين أن أجل التقادم سواء في المادّة المدنية أو التجارية يمكن قطعه وتعليقه وبصفة عامة ، يجب أن يستمر حفظ الوثائق إلى حين إنقضاء جميع آجال التقادم القانوني أي إلى حين استغراق جميع الآثار القانونية للعمل القانوني ، بحيث تكون الدعوى المؤسسة على الوثيقة محل الحفظ قد سقطت بمرور الزمن وتختلف بداهة آجال التفاهم في المادة التجارية عنها في المادة المدنية [67] ولئن يبقى القانون المدني مجسّدا في مجلة الإلتزامات والعقود هو المرجع الأصلي في كلّ فروع القانون خاصة التجاري منها وذلك بصريح عبارة الفصل 597 من المجلّة التجارية : "جميع العقود التجارية خاضعة لأحكام هذه المجلة وإذا لم يوجد بها نص فتكون خاضعة لمجلة الإلتزامات والعقود وإلاّ كانت متماشية مع أصول العرف التجارية." وقد ضبط القانون التجاري آجالا للحفظ إلزامية وهو في الحقيقة عبارة عن أجل واحد نصّ عليه الفصل 8 من م.ت.الذي جاء فيه : " على الأشخاص الطبيعيين أو الإعتباريين الملزمين بمسك حسابية : 3) وأن يحتفظوا لمدّة عشرة أعوام بجميع الوثائق المثبتة للعمليات المقيدة بالدّفاتر المشار إليها[68]. " بينما اكتفت بقية النصوص القانونية المنظمة لبعض الأنشطة التجارية بالإحالة إلى هذا الفصل من ذلك ما ورد بالفصل الأول من قرار وزير المالية المؤرخ في 2 جانفي 1993 والمتعلق بضبط مختلف وثائق المحاسبة والجداول الإحصائية الواردة بالفصلين 60 و 61 من مجلة التأمين من أنه " على مؤسسات التأمين أن تقوم بمسك الدفاتر والسجلات ومجموعة البطاقات التالية : 1) دفتر يومي ودفتر حصر طبقا لأحكام الفصول 8 إلى 13 من المجلة التجارية . إلاّ أنّ مدّة الحفظ يمكن أن تتجاوز العشر سنوات التي لا تعدو أن تكون سوى أجل أدنى حسبما يستشف من أحكام الفصل 25 من القانون
عــ 112 ـدد لسنة 1996 المؤرخ في 30 ديسمبر 1996 والمتعلق بنظام المحاسبة للمؤسسات الآتي نصّها : " تحفظ لمدة عشر سنوات على الأقل القوائم المالية الخاصة بكل سنة محاسبيّة وكذلك كل الوثائق والدفاتر وموازين الحسابات والمستندات والمؤيدات المتعلقة بها ." وعلى سبيل المقارنة تتراجع آجال الحفظ في القانون التّجاري الفرنسي بين السنة الواحدة والعشر سنوات [69] . وقد قام المشرّع الفرنسي بمحاولة خلق نوع من الإنسجام بين آجال التقادم وآجال الحفظ في المادة التجارية إذ جاء بالفصل 189 مكرر من المجلة التجارية الفرنسية ما يلي : « Les obligations nées à l’occasion de leur commerce entre commerçants, entre commerçants et non commerçants, se prescrivent par dix ans si elles ne sont pas soumises à des pre******ions spéciales plus courtes. » إلاّ أنّه تجدر الإشارة أنّه حتّى بعد انقضاء أجل التّقادم ، يمكن للقاضي أو للمحكمة بصفة عامة طلب تقديم وثيقة من المفروض أن تكون محفوظة فاستعمال الوثائق لا يبقى حكرا على الدعاوى المنجرّة مباشرة عنها وإنّما يمكن أن تكون صالحة للإثبات في إطار دعاوى أخرى تكون ذات علاقة مباشرة أو غير مباشرة بمحتوى تلك الوثيقة وهو ما أكده فقه القضاء الفرنسي في احدى قراراته القديمة [70].ويعد ذلك تفسيرا منطقيا لتمسك المتعاقد بالسند الورقي نظرا لديمومته في الزمان والمكان، ديمومة يمكن أن يوفرها الوعاء الإلكتروني إذا ما توفرت فيه بعض المواصفات التقنية حسب الفنيين لكن ذلك يستدعي تكاليف باهضة. وكأمثلة عن آجال تقادم[71] قصيرة نسبيا نذكر أن الدعاوى الناشئة عن عقد نقل الأشخاص تسقط بمرور الزمن بعد انقضاء 3 سنوات أو 3 أشهر بحسب تاريخ احتساب الأجل ونوع الدعوى وفقا لمقتضيات الفصل 666 من م.ت. فيما يصبح هذا الأجل يتراوح بين العام الواحد والشهر الواحد في إطار عقد نقل الأشياء تطبيقا لمقتضيات الفصل 652 من م.ت [72] ويتراوح الأجل بالنسبة للدعاوى المتعلقة بالشيك والكمبيالة بين 6 أشهر و3 سنوات حسب الفصلين 335 و 398 من م.ت. وعلى صعيد دول الإتّحاد الأوروبي تتراوح آجال الحفظ في المادة التجارية بين 5 و 10 سنوات [73] فيما تتراوح آجال التقادم في المادة التجارية بين 5 و 15 سنة وفي مادة التأمين بين عامين و 5 سنوات. ومنذ 11 ديسمبر 1981 ، أصدر المجلس الوزاري الأوروبي توصية إلى الدول الأعضاء بتحديد أجل إلزامي لحفظ الوثائق والدفاتر التجارية لا يتجاوز مدة 10 سنوات وقد التزمت جميع الدول الأعضاء بفحوى هذه التوصية ماعدا البرتغال وفي إطار ضبط مسؤولية مزوّد الخدمات ذات القيمة المضافة، نصّ الفصل 9 من قرار وزير المواصلات المؤرخ في 22 مارس 1997 والمتعلّق بالمصادقة على كراس الشروط الضّابط للشّروط الخاصة بوضع واستغلال الخدمات ذات القيمة المضافة للاتصالات من نوع أنترنات على أوّل أجل في الحفظ الإلكتروني إذ جاء فيه أنه يجوب على المدير الذي يعينه مزوّد الخدمات طبق القانون " المحافظة تحت مسؤوليّته على نسخة من محتوى الصفحات ومن الموزعين الذين قام بإيوائهم وذلك في شكل وثائق مكتوبة وعلى وسائط مغناطيسية مدة سنة بداية من تاريخ توقف إرسالها لغاية تقديم الحجة. " بيد أنّ الفراغ التشريعي يظلّ قائما مع غياب كلّ نظام قانوني يأطر عملية الحفظ والخزن الإلكتروني مع أنّ ق.م.ت.أ ألزم طرفي المعاملة بحفظ الوثيقة الإلكترونية على الحالة التي توصّلا بها لكن من دون تحديد لكيفية الحفظ وهنا تكون العبرة بالغاية المرجوة من الحفظ لا بطريقته فطالما إتّجهت إرادة المشرع، كما أسلفنا، إلى ضمان سلامة الوثيقة الإلكترونية فمن المسلم به أن يكون الشرط الوحيد لاختيار طريقة الحفظ هو أن تكون كفيلة بتحقيق تلك الغاية وهي مسألة يجب أن تبقى مفتوحة باعتبار أن المعيار الفيصل فيها هو التطور التقني وما يفرزه من تقنيات جديدة وبالتالي فإنه لا يمكن حصرها صلب نص قانوني يعددها فيكبح تطورها. وفي نفس هذا الإطار يطرح التساؤل حول مدى انطباق النّظام القانوني الحالي للأرشيف [74]وعلى الحفظ الإلكتروني مبدئيا، لا مانع يحول دون ذلك بإعتبار أنّ الفصل الأوّل من القانون
عـ95 ـدد المؤرخ في 2 أوت 1988 نص على أنّ " الأرشيف هو مجموع الوثائق التي أنشأها أو تحصّل عليها أثناء ممارسة نشاطه كل تشخص طبيعي أو معنوي وكل مرفق عمومي أو هيئة عامة أو خاصة مهما كان تاريخ هذه الوثائق وشكلها ووعاؤها." ولكن لا يجب أن نتغاضى عن الفرق بين مفهوم الأرشيف ومفهوم الحفظ وقد سبق القول فيهما فلئن كانت الوثيقة الورقية تمرّ مباشرة إلى الأرشيف نظرا إلى الإتفاق الحاصل حول سندها الورقي فإنّ الوثيقة الإلكترونية يجب أن تمر عبر مرحلتين يتم خلال الأولى حفظها وخلال الثانية أرشفتها، لذلك ونظرا لتأثير الحفظ وارتباطه الشديد بمسألة الإثبات الإلكتروني وما يستدعيه من تقنيات خاصة يديرها أهل خبرة يضمنون سلامة الوثيقة الإلكترونية من كل تغيير وتلف فقد بات من الضروري إسناد هذه المهمة إلى طرف ثالث غير بالنسبة لطرفي المعاملة يعرف باسم Tiers d’archivage وهو ما نادى به جلّ رجال القانون ورجال الميدان على حدّ السّواء [75] وفي ذلك ضمان واحترام للمبدأ القائل بأنّه " لا يمكن لأي كان أن يهيّء حججه بنفسه " أو أنّ " ما يصدر من شخص لا يكون حجّة له . وهو مبدأ أكّدته الدائرة التجارية بمحكمة التعقيب الفرنسية في قرار صادر عنها بتاريخ 6 ماي 1997 [77] جاء فيه أنّ : " محكمة الإستئناف كانت على صواب عندما قضت بأنّ الدّفاتر المحاسبيّة الراجعة إلى التّاجر المدين المدّعى عليه الآن والمحتج بها من طرف الخبير المحاسب لاستخلاص باقي أجرته ، لا تكتسي أي قوة ثبوتيّة طالما ثبت أن هذه الدّفاتر قد أقيمت من طرف ذات الخبير المحاسب المدّعي الآن. " ولكن من عساه يكون هذا الغير الحافظ ؟ لم يتعرض التشريع المتعلق بالإثبات الإلكتروني سواء صلب م.إ.ع أو في إطار ق.م.ت.أ إلى هذه المسألة [78] لكن بمراجعة مداولات مجلس النواب [79] وردّا على سؤال أحد السّادة النّواب حول الآليات الجديدة التي يمكن استخدامها في البحث عن الأدلّة الثبوتية في التجارة الإلكترونية جاء ما يلي : " يمكن لمزوّد الخدمة، عند الطّلب، إحداث أدلّة أخرى للإثبات كالإحتفاظ لفائدة الأطراف المتبادلة بنسخة من الوثيقة أو المصادقة على تسلم الوثيقة وتسجيل توقيت المبادلة. " بمعنى أن هيكل المصادقة والذي سنتولاه بالدّرس في مباحث قادمة ، يمكنه أن يضطلع ، فضلا عن مهامه واختصاصاته المنظّمة صلب ق.م.ت.أ ، بمهمة حفظ وأرشفة الوثائق الإلكترونية إذا ما طلب منه ذلك. بينما ارتأت منظمة الأمم المتحدة في إطار القانون النموذجي للتجارة الإلكترونية ترك المجال مفتوحا لإسناد هذه المهمة إلى كل شخص طبيعي أو معنوي شريطة أن تتوفر فيه الكفاءة التقنية التي تمكنه من ضمان سلامة رسالة البيانات والرجوع إليها عند الحاجة إذ جاء بالمادة 10 تحت عنوان الإحتفاظ بوسائل البيانات أنه : " يجوز للشخص أن يستوفي المقتضى المشار إليه في الفقرة (1) بالإستعانة بخدمات أي شخص آخر شريطة مراعاة الشروط المنصوص عليها في الفقرات الفرعية (أ) و (ب) و (ج) من الفقرة (1)." ولئن توصّلنا إلى ضرورة تدخل طرف ثالث نزيه ومختص تقنيا يتولى حفظ الوثائق الإلكترونية فإن الأمر يظل في حاجة إلى تدخل حاسم على صعيد النصوص القانونية لضبط الشروط القانونية وتحديد المسؤوليات خاصة فيما يتعلق بالإتفاقيات حول الإثبات التي اعترف المشرع الفرنسي بصحتها بمقتضى قانون 13 مارس 2000 صلب الفصل 2-1316 ويكون بذلك قد كرّس فقه قضاء سابق جسمه قرار Créditas الصادر عن الدائرة المدنية الأولى بمحكمة التعقيب الفرنسية في 8 نوفمبر 1989 [80] . هذه الإتفاقيات يمكن أن تتضمن اتفاقا حول التمديد في آجال الحفظ وحتى حول الوسائل الممكن اعتمادها في الحفظ فضلا عن الشخص الثالث المزمع تعهيده بمهمة الحفظ، وكما يمكن أن تكون هذه الإتفاقات شرعية بل أبعد من ذلك مشروعة[81] يمكن لها أن تتضمن شروطا تعسفية ومجحفة قد تخلّ بمبدأ التوازن التعاقدي بين طرفي المعاملة. وهكذا إذن نكون قد توصلنا إلى حل اللغز الذي طرحه Lucien PAULIAC في إحدى كتاباته [82] على النحو التالي : « ça procède de l’écrit, ça utilise des claviers propres à l’écriture, ça s’enregistre et ça se conserve, ça se reconstitue sous la forme de l’écriture et une fois reconstitué, ça se lit comme on lit une écriture, et pourtant, ce n’est pas un écrit et pourtant ce n’est pas un écrit. Qu’est-ce que c’est ? c’est du numérique. وتتواصل الأحجية : ÇA sert à prouver actes et faits juridiques, c’est le concurrent juré de l’écrit papier et ça sera peut être, un jour, le vainqueur. Qu’est ce que c’est ? C’est l’écrit électronique – المبحث الثاني:الوثيقة الإلكترونية تضاهي في حجيّتها الوثيقة الورقيّة منذ ظهور الوثيقة الإلكترونية على السّاحة القانونيّة عبر بوّابة الإثبات ووسائله ، أصبح رجال القانون[83] يتحدثون عن تراجع مبدأ تفوّق الكتب:
Le principe de prééminence de l’écrit وكأنّ الوثيقة الإلكترونية هي أبعد ما يكون عن الكتب والحال أنّها لا تعدو أن تكون سوى شكل جديد من أشكال الكتابة[84]، كما قدّمنا، فهي بالعكس تدعّم مبدأ تفوّق الكتب وهو مبدأ معمّر يرجع إلى 400 سنة[85] فرغم الثورة الرقميّة والإتّصالية التي قذفت بنا في عالم إفتراضي، لا مادّي وأدخلت أعرافا وأنماطا جديدة في التّعامل بين النّاس، فقد حافظ التشريع التونسي على علويّة الكتب كوسيلة إثبات تحتلّ الصّدارة بطبيعتها في المادّة المدنيّة تبعا لنظام الإثبات المقيّد[86] وتفرض نفسها في المادّة التّجاريّة لما توفّره من ضمانات واستقرار للمعاملات. وتتجسّد هذه المحافظة في الإعتراف للوثيقة الإلكترونية بحجيّة تضاهي تلك المعترف بها للوثيقة الورقيّة مع احترام مبدأ تدرّج وسائل الإثبات وترتيبها من حيث درجة الحجيّة ،Le principe de la hiérarchie des preuves دون أن ينجرّ عن ذلك أدنى تمييز أو تفاضل بين الكتب الورقي والكتب الألكتروني وتأسيسا على ذلك نصّت الفقرة الثانية من الفصل 453 جديد م-ا-ع الى أنّه :"تعدّ الوثيقة الألكترونيّة كتبا غير رسمي إذا كانت محفوظة في شكلها النّهائي بطريقة موثوق بها ومدعّمة بإمضاء ألكتروني." وتجدر الإشارة أنّ الإعتراف بحجيّة الوثيقة الإلكترونية على النّحو السّابق الذّكر لم يكن وليد اللّحظة الأولى بل إنّ المشروع الأوّلي لتنقيح مجلّة الإلتزامات والعقود نصّ على تنقيح الفصل 477 م-ا-ع لغاية توسيع مفهوم بداية الحجّة ليشمل وسائل الإثبات الحديثة مثل التّسجيلات المعلوماتيّة والأشرطة الممغنطة[87]، وتنقيح الفصل 478 م-ا-ع لغاية إقرار مفهوم التّعذّر المادّي والمعنوي للحصول على حجّة مكتوبة بالنّسبة إلى المعاملات الإلكترونية[88]. ثمّ تراجع المشرّع عن هذا الإتّجاه، واتجهت عنايته إلى إدماج فصل جديد:"468 مكرّر ر-م-ا-ع" بالباب المتعلّق بالمحرّرات التي تعدّ حججا مكتوبة واشترط أن لا تكون للوثيقة الإلكترونية قوّة في الإثبات إلاّ إذا كانت تحمل إمضاء الشخص الذي أصدرها وفق شروط تضمن مصداقيّتها[89] وكذلك كان الشأن بالنسبة للقانون المقارن حيث مرّ الإعتراف بحجيّة الوثيقة الإلكترونية في إطار البيّنة بالكتابة بعدّة مراحل فقد اعتبرت أوّلا فرينة من جملة القرائن ثمّ بداية حجّة أو صورة من صور التعذّر المادّي والمعنوي لتحرير الكتائب بصفة مسبّقة[90] إلى أن تمّ تكريس نظريّة المعادل أو المرادف الوظيفي : L’approche dite de l’équivalent fonctionnel. التي أسّس لها تشريع الأمم المتّحدة حول التّجارة الإلكترونية سنة 1996 الذي نصّ في قراءة عموديّة للمادّتين السادسة والتّاسعة منه أنّ رسالة البيانات تعدّ كتبا ولا يطبّق، في أيّة إجراءات قانونيّة، أيّ حكم من أحكام قواعد الإثبات من أجل الحيلولة دون قبولها كدليل إثبات لمجرّد أنّها رسالة بيانات[91]. ثم كرّس فقه القضاء تلك النّظريّة وخاصّة القرار التعقيبي الفرنسي الصّادر في 2 ديسمبر 1997[92] بعباراته التّالية « L’écrit constituant, …, l’acte d’acceptation de la cession ou de nantissement d’une créance professionnelle peut être établi et conservé sur tout support, y compris pour télécopies, dès lors que son intégrité et l’imputabilité de son contenu à son auteur désigné ont été vérifiées ou ne sont pas contestées. » وما لبثت مختلف التّشاريع في العديد من أصقاع العالم أن انتهجت نفس الإتّجاه ونسجت على نفس منوال القانون النّموذجي للأمم المتّحدة المذكور أعلاه ونذكر على سبيل المثال سنغفورة[93] جمهوريّة كوريا، كاليفورنيا، إيطاليا[94]، ألمانيا[95]، أمريكا[96]، بلجيكا[97]، النّمسا[98]، كلومبيا، فرنسا[99]، إلخ، وجميعها جعلت من الكتب الإلكتروني مرادفا للكتب الورقي إمّا في درجة معيّنة من الحجيّة كالقانون التّونسي الذّي نزّلها منزلة الحجّة غير الرسميّة وإمّا بصفة مطلقة كما هو الشّأن بالنّسبة للقانون الفرنسي ورغم ذلك يبقى الإتفاق سائدا على أنّ شرط المعادلة بين هذين الشكلين من الكتائب يتمثّل في ضرورة ضمان الكتب الإلكتروني لوظائف الكتب الورقي التّقليدي وأهمّها التعريف بالشخص الصّادر عنه الكتب وضمان سلامة المعطيات التي يحتويها. فأمّا السّلامة فهي تخضع أساسا لطرق الحفظ المعتمدة وقد سبق القول في ذلك وأما التّعريف بصاحب العمل القانوني فتؤمّنه مؤسّسة الإمضاء (الفقرة الأولى) وإذا أردنا المواصلة في اتّجاه المعادلة بين الورقي والإلكتروني فإنّه لا بدّ من الوقوف على مسألة النسخ وحجيّتها (الفقرة الثانية). الفقرة الأولى : على مستوى الإمضاء : هل يمكننا اليوم مع المستجدّات التقنيّة والقانونيّة الحديث عن مؤسّسة للإمضاء بما هي مجموعة من القواعد القانونيّة التي تضبط النّظام القانوني لهذا الأخير؟ نعم، هي الإجابة المباشرة، فبتنقيح مجلّة الالتزامات والعقود الأخير بمقتضى القانون عـ57ـدد المؤرّخ في 13 جوان 2000 وبإرساء إطار تشريعي خاصّ بالمبادلات والتجارة الإلكترونية في 9 أوت 2000 نحت المشرّع ملامح النّظام القانوني للإمضاء ماهيّة (أ) وآثارا (ب) في انتظار أن ينهي التطبيق وما يفرزه من فقه قضاء صقله. أ – ماهيّــــــة الإمضـــــــاء : يعتبر التشريع التونسي سبّاقا في وضع تعريف للإمضاء جاءت به مقتضيات الفقرة الثانية[100] من الفصل 453 م-ا-ع. "ويتمثّل الإمضاء في وضع اسم أو علامة خاصّة بخطّ يد العاقد نفسه مدمجة بالكتب المرسوم بها أو إذا كان الكترونيّا في استعمال منوال تعريف موثوق به يضمن صلة الإمضاء المذكور بالوثيقة الألكترونيّة المرتبطة به." وهو في الحقيقة تعريفان يتعلّق الأوّل بالإمضاء الخطّي :Signature manuscrite (1) فيما يهتمّ الثاني بالإمضاء الألكتروني :Signature électronique (2) 1 - الإمضاء الخطّي أو اليدوي : تجدر الإشارة منذ البداية إلى أنّ صياغة الفصل 453 م-ا-ع في حاجة من المفروض الى تعديل وإعادة نظر إذ من المفروض أن يكون الطّالع المجسّد في الفقرة الأولى عامّا بمعنى يتضمّن حكما عامّا ثم يأتي التفصيل أو الإستثناءات في الفقرات الموالية فإذا اعتمدنا هذا المنهج في قراءة الفصل 453 م-ا-ع فإنّنا سنقع حتما في تناقض فالفقرة الأولى نصّت على أنّه : "يجب أن يكون الإمضاء بيد العاقد نفسه بأسفل الكتب والطّابع لا يقوم مقامه بحيث يعتبر وجوده كعدمه". فيما جاءت الفقرة الثانية بتعريف لكلّ من الإمضاء اليدوي والإمضاء الإلكتروني على النّحو السّالف الذّكر، بما تكون معه الفقرة الأولى متماشية بصورة حصريّة مع تعريف الإمضاء اليدوي بما هو وضع اسم أو علامة خاصّة بخطّ يد العاقد نفسه لتكون امتداد له. كما أنّ صيغة الوجوب المستعملة في الفقرة الأولى تجعل من الإمضاء اليدوي هو وحده المقبول قانونا[101] وهو ما يتناقض مع إعتماد الثنائيّة في الإمضاء من خلال الاعتراف بالإمضاء الإلكتروني ممّا من شأنه أن يتعارض ومقصد المشرّع في اعتما د اعتماد تعريف واسع للإمضاء يواكب تطورات تقنيات الإتّصال ويتماشى مع تعريف الوثيقة الإلكترونية. فكيف يمكن تجاوز هذا الإضطراب غير المقصود قطعا؟ الحلّ بسيط وهو لغوي صرف يتمثّل في استبدال عبارة "ممضى بيد العاقد نفسه" بعبارة "ممضى من طرف العاقد نفسه" على غرار المشرّع الفرنسي الذي أبدل عبارة
« de sa main » الواردة بالفصل 1326 من المجلّة المدنيّة الفرنسيّة بعبارة « par lui-même » بمقتضى التنقيح المؤرّخ في 13 مارس 2000 وذلك نظرا لشموليّة العبارة الثانية واستيعابها لجميع أشكال الكتابة والإمضاء. ونعود الى تعريف الإمضاء اليدوي لنلاحظ أن التعاريف قد تعدّدت وإن كانت تصبّ جميعها في نفس الدّلتا وتعدّدها راجع إلى إعتماد أحد المعيارين أو كليهما في التعريف : معيار شكلي وآخر وظيفي فالأوّل يعني بكيفيّة الإمضاء والثاني يبيّن الغاية منه. فشكليّا عرفه البعض على النّحو الآتي : « La signature est un signe personnel suffisamment distinctif. »[102] فيما اعتبره السيّد علي كحلون : "تلك العلامة التي يمضيها الشخص على الكتب تحت أيّة صورة كانت للدّلالة على موافقته على مضمون الكتب."[103] وهو بالنسبة للأستاذ ERIC A. CAPRIOLI : « Une in******ion qu’une personne fait de son nom (sous une forme particulière et constante) pour affirmer l’exactitude, la sincérité d’un écrit ou en assumer la responsabilité. »[104] وهذا التعريف يتقارب الى حدّ بعيد مع التعريف الذي أرساه مشرّع الكيباك (Québec) صلب الفصل 2827 من مجلّته المدنيّة « La signature consiste dans l’apposition qu’une personne fait sur un acte de son nom ou d’une marque qui lui est personnelle et qu’elle utilise de façon courante, pour manifester son consentement. » وفي نفس هذا الإطار يعرّفه D.PONSOT على أنّه : « Une in******ion (ou un graphisme) originale, personnelle, habituelle et notoire, par laquelle un individu manifeste son consentement au contenu d’un écrit. »[105] وفي تعريف وظيفيّ أكثر منه شكلي يماثل CHRISTOPHE DEVYS الإمضاء بـ : « Tout signe intimement lié à un acte permettant d’identifier et d’authentifier l’auteur de cet acte et traduisant une volonté non équivoque de consentir à cet acte »[106] ولئن عرّف المشرّع التونسي الإمضاء اليدوي في الفقرة الثانية من الفصل 453 م-ا-ع فإنّ تعريفه كان شكليّا صرفا[107] وكأنّ الشكل الذي قدّمه يغني المحكمة عن التأكّد من تحقّق الغايات المرجوّة من ورائه والتي تضمنتها المفاهيم السالفة الذكر وهي التعريف بالعاقد، استثباته والتّعبير عن موافقته على مضمون الكتب وسنأتي على ذكرها تفصيلا في بابها. هذا الإتّجاه الذي اعتمده المشرّع التونسي مجسّدا في أنّ الشّكل يخفي المضمون أو يدل عليه يجد له المناصر والمناهض في فقه القضاء المقارن خاصّة فالمناصرة تقودها محكمة Nancy من خلال حكم صادر عنها في 1 مارس 1831[108] أكّدت فيه أنّه يمكن الاستغناء في الإمضاء عن ذكر الإسم العائلي والإستعاضة عنه بكلّ عبارة أخرى مميّزة وخاصّة . وكتطبيقات لهذا التوجه أقرّ فقه القضاء إمكانيّة استعمال اسم مستعار [109](un pseudonyme) أو التوقيع بالحروف الأولى من الإسم (Les initiales)[110] أو بالإشارة إلى علاقة قرابة[111] أو حتى إلى وظيفة ما وقد ذهب فقه القضاء بالنّسبة لشكل الإمضاء إلى اعتبار الخطوط أو الرّسوم التي يقوم بها الممضي على إثر كتابة اسمه أو إحدى العلامات بغية إضفاء صبغة شخصيّة وخصوصيّة على الإمضاء، ليست وجوبيّة ولا يمسّ غيابها من صحّة الإمضاء وهو موقف استقرّ عليه فقه القضاء المقارن القديم والحديث على حدّ سواء[112] فمنذ سنة 1846 حصل الاتّفاق على أنّه : « …Il y a signature, lorsque le nom d’une personne écrit de sa main est mis à la fin d’un acte pour le certifier… l’absence du parafe, c’est à dire d’un ou de plusieurs traits de plume que certaines personnes mettent ordinairement à la suite de leur signature, ne peut donc la vicier, la rendre nulle. » ولا يهم إن كانت العلامة أو الإشارة غير مقروءة ما دامت تكتسي خصوصيّة[113] وأمّا المناهضة، مناهضة إتّجاه الشكل في الإمضاء كفيل بضمان غاياته، جسّدتها عديد القرارات نذكر من أهمّها قرار محكمة التعقيب الفرنسيّة الصّادر بتاريخ 15 جويلية 1957[114] والذي أكّدت فيه أن مجرّد علامة لا تكفي لتكون إمضاء, وفي قرار آخر اعتبرت أن العنوان أو المعطيات المطبوعة بطالع الرّسالة (l’en-tête d’une lettre) لا يمكن لها تعويض الإمضاء. وتجدر الإشارة أنّه على عكس القانون التونسي الذي منع اعتماد الختم أو الطّابع كإمضاء[115]، سمح المشرّع الفرنسي بذلك في إطار قانون 16 جوان 1966 وذلك بصفة استثنائيّة. ومع ظهور تقنيّات الاتصال الحديثة واقتحامها عالم الأعمال والأموال اتّجه رجال القانون إلى تعريف الإمضاء تعريف واسعا لا يمتّ بالماديّة بصلة حتّى يشمل جميع أشكاله وخاصّة في التّشاريع التي لم تعرّف أصلا الإمضاء اليدوي أو التي لم تعرّفه تعريفا ضافيا حتى بعد الحمّى التشريعيّة التي يشهدها العالم اليوم ومثالها التشريع الفرنسي الذي تضمّن تنقيحا لأحكام الإثبات ومع ذلك تبنّى تعريفا فضفاضا للإمضاء اليدوي جاءت به مقتضيات الفقرة الأولى من الفصل
4-1316 من م-م-ف : « La signature nécessaire à la perfection d’un acte juridique identifie celui qui l’appose. Elle manifeste le consentement des parties aux obligations qui découlent de cet acte. Quand elle est apposée par un officier public, elle confère l’authenticité à l’acte. » وهو تعريف واسع يعتمد على تعداد وظائف الإمضاء بصفة عامّة دون الوقوف على الشكل مما يجعل هذا المفهوم المحايد صالحا لكلّ أشكال الإمضاء يدويّا كان أو إلكترونيّا أو أيّ نوع آخر[116]. 2- الإمضاء الألكتروني : على خلاف الإمضاء اليدوي حضي الإمضاء الإلكتروني باهتمام تشريعي كبير على الصعيد العالمي والاوروبي والدّولي ويعود ذلك الى أن الإمضاء الإلكتروني أدخل اضطرابا في نظام الإثبات وأصبح تقنيّة يفرضها التطبيق والواقع العملي فظهرت بالتّالي ضرورة تأطيره قانونيّا حتّى تستقرّ المعاملات وتوفّر رصيدا من الضّمانات. وفعلا اعترف القانون التونسي كسائر التّشاريع المقارنة بالإمضاء الإلكتروني فأشار اليه صلب الفصل 453 مكرّر م-ا-ع وعرّفه بالفقرة الثانية من الفصل 453 من ذات المجلّة فيما اهتمّ ق-م-ت-أ بضبط مكوّناته. ولمزيد التعمّق في دراسة الإمضاء الإلكتروني يتّجه استعراض بعض المحطّات في تاريخ الإعتراف به (1-2) للوقوف فيما بعد على بعض تطبيقاته (2-2).
يتبع ...
رد: أريد بحثا حول طرق و وسائل الإثبات في القضاء المدني الجزء الثاني و الإداري
2-1- مسيرة الإعتراف بالإمضاء الألكتروني : وفاء للقاعدة : "التطبيق يفرز التعليق فالتقنين"، كانت بادرة الاعتراف بالإمضاء الإلكتروني فقه قضائيّة. فقد قوبل بالرّفض والصدّ بادئ الأمر فعلى سبيل المثال أقرّت محكمة Sète في 9 ماي 1984[117] أنّه لا مجال لاعتبار الإمضاء الإلكتروني إمضاء. … » وهو اتّجاه سانده الفقهاء ودعوا إلى تقنينه[121]. وأوردت محكمة التعقيب الفرنسيّة في تقريرها السّنوي لسنة 1989[122] أنّ الإمضاء الإلكتروني يوفّر نفس الضّمانات المعترف بها للإمضاء اليدوي : وفي الأثناء ظهر ما يعرف باتّفاق التّبادل (accord d’interchange).والسّلسلة السريّة (chaîne de confidentialité) وهي عبارة عن اتّفاقات يبرمها العملاء وخاصّة منهم التجّار مسبقا لتحديد الوثائق أو العمليّات التي يمكن أن تخضع للشكليّة الألكترونيّة غير أنّ هذا النّوع من الاتفاقات لاقى انتقادات كبيرة لعدم ضمانه الإستثبات والأمان[123]. وهكذا بقي الإعتراف بالإمضاء الألكتروني في إطار تعاقدي خاضع لاتّفاقات الأطراف التي لا يمكن من خلالها تعميم استعمال الإمضاء الألكتروني في جميع المعاملات التّجاريّة خاصّة تلك المتعلّقة بالشيك والكمبيالة[124] وإن أصبحا اليوم يخضعان إلى التّعامل الإلكتروني على مستوى اجراءات المقاصة بين البنوك وسيأتي القول في ذلك. وكان يجب أن ننتظر المنتصف الثاني من سنة 1996 لتبادر لجنة الأمم المتّحدة للقانون التّجاري، في إطار تنسيق وتوحيد القانون التّجاري الدّولي لضمان سلامة المعاملات التّجاريّة، بوضع تعريف للإمضاء الإلكتروني[125] ربطت فيه حجيّة هذا الأخير بمدى تحقيقه للوظائف المرجوّة منه وهي التّعريف بالاشخاص وضمان صلة الأطراف بمضمون الوثيقة بحسب الوسائل الفنيّة المستعملة ودرجة الوثوق بها وعليه أورد أنّه : "عندما يشترط القانون وجود توقيع من شخص، يستوفي ذلك الشرط بالنّسبة إلى رسالة البيانات إذا : أ- استخدمت طريقة لتعيين هويّة ذاك الشخص والتدليل على موافقة ذلك الشّخص على المعلومات الواردة في رسالة البيانات. ب- وكانت تلك الطّريقة جديرة بالتّعويل عليها بالقدر المناسب للغرض الذي أنشئت أو أبلغت من أجله رسالة البيانات، في ضوء كلّ الظروف، بما في ذلك أيّ إتّفاق متّصل بالأمر"[126] واقتيادا بتلك الخطوط العريضة وضع الإتّحاد الأوروبي إطارا عامّا للإمضاء الألكتروني بتاريخ 13 ديسمبر 1999[127] اعترف فيه بحجيّة هذا الأخير في جميع أشكاله دون تمييز على مستوى التقنيّات داعيا الدّولة الأوروبيّة الى انتهاج نفس المنهج[128] بغية دعم التّجارة الإلكترونية وتطويرها في مناخ يسوده الأمان والثّقة وهل من إطار آخر غير الإطار القانوني يمكنه توفير مثل هذا المناخ[129] فقد عرّف الفصل 2 – 1 من التّوصية المذكورة أعلاه الإمضاء الالكتروني كما فرّق بين الإمضاء الإلكتروني البسيط (simple) والإمضاء الإلكتروني المتقدّم أو المدعّم ثم، على الصعيد الدّولي اعتمدت أغلب التّشاريع إطارا عامّا للإمضاء الإلكتروني اعترفت بمقتضاه بحجيّة هذا الأخير وأقرّت المساواة بينه وبين الإمضاء اليدوي من ذلك القانون الكندي[130]، القانون البلجيكي[131] وكذلك فصل المشرّع التونسي الذي سوّى بين الإمضاء اليدوي والإلكتروني وعرّفهما صلب الفصل
453 م-ا-ع[132] الذي نصّ على أنّ الإمضاء الإلكتروني يتمثّل في "استعمال منوال تعريف موثوق به يضمن صلة الإمضاء المذكور بالوثيقة الإلكترونية المرتبطة به" ونصّ الفصل الخامس من القانون عدد83 لسنة 2000 المتعلّق بالمبادلات والتّجارة الإلكترونية على أنّه " يمكن لكلّ من يرغب في إمضاء وثيقة إلكترونية إحداث إمضائه الإلكتروني بواسطة منظومة موثوق بها يتمّ ضبط مواصفاتها التّقنيّة بقرار من وزير المواصلات" وعرّف ذات القانون منظومة إحداث الإمضاء بأنّها مجموعة وحيدة من عناصر التشفير الشخصيّة أو مجموعة من المعدّات المهيّأة خصّيصا لإحداث إمضاء إلكتروني. كما عرّف منظومة التّدقيق في الإمضاء على أنّها مجموعة من عناصر التشفير العموميّة أو مجموعة من المعدّات التي تمكّن من التدقيق في الإمضاء الإلكتروني. وقد جاء في شرح الأسباب [133] أن "الإمضاء الإلكتروني المعترف به قانونا هو كل وسيلة إلكترونية تمكّن من القيام بالوظائف التالية : [FONT="]- تعريف الشّخص الممضي أو الملتزم [FONT="]- بيان أنّه يريد الالتزام[/FONT] [FONT="]- ضمان الصّلة بين الإمضاء وبين النصّ الإلكتروني الذي وسمت به وهذه الوظائف يمكن أن تقوم بها عديد التكنولوجيّات التي تحقّق درجة كبيرة من الأمان والسريّة والتي لم يشأ المشروع الخوض فيها بل تركها لنصوص خاصّة."[/FONT] ومن ثمّ يمكن التكهّن مسبقا وأنّ النصوص الخاصّة المتحدّث عنها والمتمثّلة أساسا في قرارا وزير المواصلات المشار اليه كما أسلفنا صلب الفصل
5 من ق-م-ت ستتبنّى منظومة للإمضاء الالكتروني مبنيّة على تقنيّة التّشفير(Cryptage)[134] المعتمد على نظام المفتاحين العلني والسرّي[135] وعلى تدخّل الغير المصادق[136] وهي الطّريقة المثلى والمعتمدة بواقع التّجارة الإلكترونية والتي أثبتت نجاعتها[137]. فاعتبارا لغياب الاتّصال المادّي بين المتعاقد والكتب من ناحية فاعتبارا لغياب الإتصال المادي بين المعاقد والكتب من ناحية وبين المتعاقدين من ناحية أخرى فإنّه لا بدّ من تواجد طرف ثالث يقوم بمهمّة التّعريف بالأطراف فيما بينهم وضمان الصّلة بين الإمضاء وصاحبه المتعاقد وذلك عن طريق شهادة مصادقة يمنحها هذا الغير المصادق إلى المعني بالأمر الذي يرسلها ضمن مراسلته وهي شهادة الكترونية تحمل إمضاء هيكل المصادقة الألكتروني وتتضمّن هويّة صاحب الشّهادة، هويّة الشخص الذي أصدرها وإمضاءه الألكتروني (بمعنى الشخص الطّبيعي أو المعنوي الشّاغل لخطّة الغير المصادق)، عناصر التدقيق في إمضاء صاحب الشهادة، مدّة صلوحيّة الشهادة ومجالات استعمالها[138] . إلاّ أنّه يجدر التّمييز بين الإمضاء الرّقمي[139] وتقنيّة تشفير المراسلات ذلك أن نظام الرّموز يقتصر على الإمضاء فقط طالما أنّه يمكن إضافة الإمضاء الإلكتروني إلى مراسلة لا تكون معطياتها مشفّرة. كذلك لا يجب الخلط بين الإمضاء بواسطة المفتاح العام وتقنيّة التشفير[140] علاوة على أنّ زوج مفاتيح التشفير يختلف عن زوج المفاتيح الخاصّة بالإمضاء ولذلك يرى الفنيّون أنّه على مزوّدي هذه المفاتيح[141] أخذ الإحتياطات التقنيّة اللاّزمة حتّى لا يقع تحويل وجهة مفاتيح الإمضاء الى غايات غير التي سن من أجلها[142] كيف إذن تتمّ عمليّة الإمضاء تقنيّا ؟ يمرّ الإمضاء الرّقمي بعدّة مراحل متسلسلة حدّدتها لجنة الأمم المتّحدة للقانون التجاري[143] كالتالي : 1/ إحداث زوج من المفاتيح خاصّة بالمستعمل سواء بنفسه أو بواسطة الغير. 2/ كتابة المراسلة على شاشة الحاسوب 3/ إعداد مختصر أو مختزل (Un abrégé) للمراسلة من طرف المرسل وذلك باستخدام وسيلة فنيّة تعرف بمنظومة hachage تسمح باستحالة النصّ مهما كان طويلا إلى مجرّد دالة جبريّة أي علامة مميّزة يعبّر عنها بـEmpreinte فتكون خاصّة بهذا النص بمعنى أنّه يستحيل وجود صورة مماثلة لها وسيتبع الحديث عن هذه المنظومة. 4/ تشفير المرسل لذلك المختصر بمفتاحه الخاص، فالإمضاء الرقمي يتمثّل إذن في ذلك المختصر المشفّر. 5/ يقع ارفاق هذا الإمضاء الألكتروني بالمراسلة[144] من طرف المرسل الذي يبعث بها ممضاة عبر شبكة الأنترنات. 6/ يستعمل المرسل اليه المفتاح العام للمرسل[145] للتثبّت من إمضائه الرّقمي وهنا تحصل عمليّة التّعريف : Identification ذلك أنّ كلّ مفتاح عام يقابله مفتاح خاص واحد يعود الى شخص واحد دون غيره. 7/ يقوم المرسل اليه بإحداث مختصر أو مختزل للمراسلة باستخدام نفس المعادلة الرّياضيّة التي استعملها المرسل ثم يقارن المختصرين حتى يتأكّد من سلامة المراسلة. 8/ يمنح الغير المصادق بطريقة الكترونيّة شهادة المصادقة الالكترونية فيرسلها الباعث ضمن مراسلته ليفتحها المرسل اليه باستعمال المفتاح العام فيكتشف الهويّة الكاملة للمرسل ويطمئن إلى أنّ الإمضاء الذي تلقّاه سليم تقنيّا ومطابق للمواصفات القانونية وصادر عن المرسل دون غيره وليتأكّد من سلامة شهادة المصادقة نفسها، يعمل المفتاح العام للمزوّد وهنا تحصل عمليّة الإستثبات : L’authentification ومن ثمّ ولئن لا يعدّ تدخّل الغير المصادق بخدماته شرط صفة للإمضاء الرّقمي إلاّ أنه يمثل محور الرّحى وحجر الأساس في مؤسسة الإمضاء الرّقمي فهو الذي يؤمّن الجانب الوظيفي للإمضاء والمتمثّل في التعريف بالممضي واستثباته ولذلك فإن التسمية المثلى هي الغير المستثبت أو مزوّد الإستثبات Fournisseur d’Authentification وهي ذات التّسمية التي اعتمدها القانون الإيطالي المؤرخ في 13 مارس 1998 والمتعلق بالوثيقة الإلكترونية والإمضاء الرّقمي وذلك عوضا عن تسمية سلطة المصادقة سلطـة المصادقCA : Autorité de certification التي تحيل على مهام محدّدة بعينها[146] وتدليلا على أهميّة الاستثبات بالنّسبة للإمضاء ذهب القانون الأمريكي في مراجعته للقانون التّجاري الموحّد (U.C.C) في أوت 1998 الى استبدال عبارة "إمضاء" بعبارة "استثبات"[147] . ونظرا لأهميّة هذا الهيكل نخصّص له بابا مستقلاّ في المباحث القادمة بقي الآن أن نقف على بعض أشكال الإمضاء الألكتروني وتطبيقاته. يتبع .....- تطبيقــــــــات الإمضـــــاء الألكتروني [/FONT] يتمثّل الإمضاء الالكتروني كما أسلفنا في شكل رموز رياضيّة سريّة مرتبطة برسالة بيانات الكترونيّة تعرّف بهويّة صاحبها، يعبّر عنه بمنوال تعريف وبمفهومه ذاك يتّخذ عدّة أشكال تطوّرت بتطوّر تكنولوجيا الإتصالات والمعلومات فأوّل من استعمل الإمضاء الألكتروني البنوك والمصاريف كما أنّ فقه القضاء الّذي اعترف بحجيّة الإمضاء الالكتروني والّذي قدّمن ا عيّنات منه كان كلّه صادرا في قضايا تهم البنوك وحرفائها وتطرح مسألة الرّقم السرّي وحجيّته كإمضاء الكتروني. وفيما يلي استعراض بعض تمظهرات الإمضاء الألكتروني الحرباء[148] وتحوّلاته : * التّلكس بالتشفير المتناسق :chiffrement symétrique وهي تقنيّة تستعملها البنوك للتعريف بهويّة بعضها البعض عبر استعمال تلكس في تناقل الأوامر بالدّفع التي تصدر عن حرفائهم فيحرر بنك الحريف الآمر بالدّفع برقيّة إلى بنك المستفيد أو بنك المراسل الأجنبي يطلب منه دفع مبلغ معيّن مع ذكر تاريخ التحرير واسم المستفيد ثم يوقّعه بوضع عدد معروف بالمفتاح أو الشفرة على زاوية من البرقيّة وهو ناتج عن دالّة رياضيّة (Fonction mathématique) تأخذ بعين الإعتبار جميع عناصر المتغيّرات في التّلكس وتستند إلى قاعدة سريّة لا يعرفها إلاّ البنك الباعث والبنك المراسل[149] الذي عند تلقّيه التلكس يقوم بحل الشفرة والتأكد من مصداقيّتها بتركيب عدد مماثل فإن توافقا العددان امتثل للأمر بالدّفع وإن اختلفا امتنع عن ذلك وتستعمل البنوك التونسيّة هذه الوسيلة. * الرمز السرّي : LE CODE SECRET وهو عبارة عن امضاء الكتروني مبني على البطاقة الذكية[150] والرّمز السرّي للحريف والمعروف بـ (Personnel identification number) وهو عدد يتكون من أربعة أرقام يتحصل عليه الحريف مع بطاقة بنكية[151] بمقتضى عقد يوقّعه مع البنك يعتبر بموجبه إدخال البطاقة مع الرّمز السرّي في موزع الورقات النقدية امضاء الكترونيا معادلا للإمضاء اليدوي لصاحب البطاقة الذي لا يمكنه لاحقا انكار عمليات السّحب الآتي حتّى وإن لم يقم بها بصفة شخصية طالما التزم بالمحافظة على سريّة الرّمز وعدم اطلاع الغير عليه بأي طريقة كانت مباشرة أو غير مباشرة. وقد طرح الرّمز السرّي على الصّعيد القضائي عديد الإشكاليّات التّي مهّدت إلى الإعتراف به كإمضاء إلكتروني بعد مسيرة انطلقت منذ سنة 1980 وتواصلت إلى حين صدور قرار Crédicas الشّهير في 8 / 11 / 1989 والذي أقرّت فيه محكمة التعقيب الفرنسية شرعية الرّمز السّري معتبرة إيّاه إمضاء إلكترونيا ودليلا على هوية صاحب العملية مؤيّدة بذلك موقف محكمة الإستئناف بـ Montpellier في قضيّة أخرى[152] استقرّ رأيها فيها على أنّ المؤسسة المالية المدّعية قد قدّمت براهين على وجود مستحقاتها في ذمّة الحريف وذلك بواسطة تسجيلات الجهاز والتي لم تكن ممكنة إلاّ من خلال استعمال البطاقة المغناطيسية والرّمز السرّي طالما لم يقع الإحتجاج من المدين بأيّ خلل في النظام الإعلامي أو بإطّلاع الغير على الرقم السرّي، فتمّ هكذا نقض حكم محكمة LASETE الإبتدائي [153] الذي لم يعترف بحجيّة الرّمز السرّي كإمضاء إلكتروني على أساس أنّ الإثبات يكون بمقتضى الأحكام العامة وبالتّالي لا بدّ من توفّر كتب ممضى بخطّ اليد ، لإقامة الدّليل على الأمر بالوفاء من طرف الحريف[154]. الإمضاء البيومتري : Signature biométique وهو إمضاء يعتمد على الصفات الجسدية للشخص ومن بينها قزحيّة العين (IRIS) وهي الأكثر استعمالا، بصمات إصبع اليد أو الإبهام وتخزن الصورة بصفة رقمية ومضغوطة في الذّاكرة الصّلبة للحاسوب أو في البطاقة الذكية . وبصفة عملية ، يقف الحريف أمام موزّع النّقديّات ويدخل البطاقة الذكية في الآلة القارئة فتلتقط له صورة حينية لقزحية العين مثلا تدرج في سجل رقمي تقع مقارنته بالسجل الرقمي الموجود على البطاقة أو حاسوب المنظومة فإذا كان هناك تعادل للسّجلين التشخيص وتمّت عملية السحب ، أما إذا وقع تباين فإنّه يتّم حجز البطاقة من طرف الموزع لأنه في الغالب تكون البطاقة مسروقة فاحتمال تواجد شخصين لهما نفس النسيج القزحي يعادل واحد على مائة مليون[155] * الإمضاء الإلكتروني الديناميكي في البنك المباشر Banque directe ومعنى ذلك أن يقوم الحريف بعملياته البنكية وهو في بيته من خلال جهاز الحاسوب الشخصي فيوقع أوامره باستعمال آلة مغيرة لا يزيد حجمها عن البطاقة البنكية وهي عبارة عن آلة حاسبة تحتوي على Microprocesseur به دالة جبرية تولّد الرّمز السري بصفة ديناميكية كل دقيقة تقريبا بصفة متزامنة مع منظومة البنك المباشر حيث لا يمكن سرقته لأنّه متغيّر بصفة مستمرة وعملية الإمضاء تتمثل في إدخال الرقم الذي يظهر على الشاشة الصغيرة في الحين. * الإمضاء الإلكتروني اليدوي : وهو امضاء يعتمد على طريقة الطقم وكل طقم يحتوي على 256 مكان مخصّص للحروف المطبعية ويحتل الإمضاء مكانا واحدا ويكفي أن تبعث بنموذج من الإمضاء اليدوي عن طريق الفاكس مع 30 دولار إلى شركة مختصة لتفتح لك طقما شخصيا فيه الإمضاء اليدوي الذي يمكن لك أن تضعه في الكمبيوتر وتحميه برمز سري لاستعماله عند الحاجة. ويمكن انتاج الإمضاء الالكتروني اليدوي عن طريق تفسخ الإمضاء اليدوي بجهاز سكانر SCANARISATION فيصبح إمضاء ألكترونيا يمكن استعماله في سجل رقمي ليقع إدماجه في كلّ تطبيق. ولعل التطبيق بدأ يفرز بعض الإشكاليات التي من شأنها أن تفسح المجال أمام فقه القضاء التونسي ليقول كلمته في الإمضاء الإلكتروني فمؤخرا تعهّد مكتب التحقيق الثالث بالمحكمة الابتدائية بالمنستير بقضية في التدليس واستعمال مدلّس رسّمت لديه تحت عــ 2000/645 ـدد تمثلت وقائعها في أنّ المتضرر يعمل كمدير إداري في شركة فرنسية للخياطة وقد تولى وكيلها الفرنسي طرده فتقدم بقضية شغليّة إلى قاضي العرف وعند اجراء الجلسة الصلحية بين الطرفين نفى وكيل الشركة المدّعى عليها واقعة الطّرد التعسّفي مؤكّدا أنّ المدّعي قد استقال من تلقاء نفسه واستظهر في ذلك بكتب استقالة ممضى من طرف المدعي ، غير أنّ هذا الأخير ولئن اعترف بأنّ الإمضاء الموجود على الكتب يخصه إلاّ أنّه تمسّك بأنّه لم يقدّم استقالته ولم يمض على تلك الورقة وما تحتويه من معطيات راميا إياها بالزور الجنائي . وتقدم في الغرض بشكاية إلى وكالة الجمهورية . تمسك فيها بأنّ وكيل الشركة المؤجّرة يحتفظ لديه بعدد من الأوراق البيضاء تحمل امضاءه اليدوي لا غير وقد هدّده باستعمالها ضدّه في العديد من المناسبات وما كتب الاستقالة المرمي بالتدليس إلاّ تجسيما لهذا التهديد إذ تولّى وكيل الشركة كتابة نصّ الإستقالة على جهاز الحاسوب ثمّ قام بنقل وإضافة إمضاء المتضرر اليدوي الذي يحتفظ به على بياض إلى تلك الوثيقة بواسطة تقنية التصوير التفرّسي Scanarisation ليصبح إمضاء الكترونيا يدويا ومن ثمّ انطلقت الأبحاث وهي الآن ، في تاريخ كتابة هذه الأسطر في مرحلة الإختبار الذي سيحدد طبيعة الامضاء إن كان يدويا خطيا بيد المتضرّر أو إلكترونيا. وعلى صعيد القانون المقارن وقبل أن يتدخل مجلس الدولة تشريعيا لضبط الوسائل الموثوق بها المعتمدة لإحداث الإمضاء الإلكتروني ، تدخّل فقه القضاء الفرنسي ليعلن عن موقفه من الإمضاء الإلكتروني اليدوي إذ صرّحت محكمة الإستئناف ببسانسون أنّ الإمضاء اليدوي المنقول بواسطة التصوير التفرّسي لا يعتدّ به ولا يعتبر إمضاء [156] ولا تزال القضية اليوم جارية وهي من أنظار محكمة التعقيب التي سيكون موقفها حاسما وربّما يمهّد إلى إرساء سلّم تفاضلي بين أشكال الإمضاء الالكتروني خاصة بعد قانون 13 مارس 2000 والقائم على فلسفة التقني يحدّد القانوني بمعنى أن إعتماد الإمضاء الإلكتروني كإمضاء قانوني مرتبط وثيق الإرتباط بالوسائل الفنية المستعملة لإحداثه وبدرجة الوثوق بها. * الإمضاء الإلكتروني على قاعدة المفتاح السري والمفتاح العلني : وهو ما يعرف تحديدا بالإمضاء الرقميla signature numérique وقد أتينا على تعريفه وبيان نظامه الفني في الفقرة السابقة ونظرا لشيوع استعماله واعتماده[157] وأهميته مقارنة ببقية أشكال الإمضاء الإلكتروني التي يبقى اعتمادها مقتصرا على معاملات في إطار شبكة مغلقة أو خاصة يعرف جميع أطرافها بعضهم البعض على عكس العالم الافتراضي للأنترنات [158]. فضلا عن كون الإمضاءالرقمي هو المرشّح للإعتماد من قبل المشرع التونسي ، فإنّه يتّجه الوقوف على آثاره كإمضاء للكشف عن دوره في الإثبات. ب – آثار الإمضاء الإلكتروني : فإنّ الإمضاء الإلكتروني هو الكفيل بإثبات محتوى العقد من إلتزامات والتأكد من توفر أركانه القانونية [160] وخاصّة منها ركن الرضاء والموافقة الذي به ينعقد العقد استجابة لمبدأ الرضائية في العقود خاصة في المادة التجارية حيث تكاد الشكليات تغيب ليحلّ محلّها في الغالب العرف التجاري. تأمينا لمتطلبات المعاملات من سرعة وتأسيسا على قرينة الثقة المتبادلة . طبعا هذا الإعتراف لصالح الإمضاء الإلكتروني مشروط بضمانه لوظائف الإمضاء بصفة عامة.[161] وقد حصر البعض وظائف الإمضاء في وظيفتين إثنتين[162] فيما يتجه رأينا إلى جعلها ترتفع إلى خمس وظائف إقتداء برأي-C.Devys [163] وهي كالآتي : التّعريف بصاحب الكتب وإستثباته, التعبير عن الرضاء بالعمليّة وإستثبات محتوى الكتب وأخيرا تهيئة الحجّة أو وسيلة الإثبات. وسنتولى بيانها على التوالي: 1- التّعريف بصاحب الكتب : l’identification [164] ويقتضي التّعريف أن يكون الشخص مجهولا بصفة مطلقة أي عدم وجود سابقيه معرفة أو بصفة عرضيّة بمعنى أنّ الشّخص معروف لدى المتلقّي إلاّ أنّه لا يمكن الجزم عند تلقّي إرساليّة أو قراءة كتب ما بأنّ المراسلة أو المعطيات المضمّنة بالكتب صادرة عن ذلك الشخص دون سواه. وهذه الوظيفة يحقّقها الإمضاء الإلكتروني على حدّ سواء فالأوّل يعتمد على علامة خاصّة بيد العاقد التّعرف به [165] أمّا الثاني فيعتمد إلى وسائل فنيّة ومعادلات رياضيّة تمكن من التّعرّف إلى صاحبها فالإمضاء الرقمي يرتكز على ثنائيّة المفتاح السري والعلني كما قدّمنا ذلك أنّ المفتاح الخاصّ هو الّذي يحمل عناصر التعرّف بصاحبه ويقع التثبت منها بإعمال المفتاح العلني فهما مرتبطان تقنيّا لا يصلح أحدهما لغير الآخر إلاّ أنّ فرضيّة سقوط منظومة الإمضاء بحوزة الغير وتكسير الشفرة واردة حسب الفنيين ولكن بنسبة ضئيلة جدّا ويتم ذلك في صورة ما إذا كان المفتاح السري معتمدا على الكربيتولوجيا الضعيفة ( أقلّ من 56 bits ) ووظّفت في الآن نفسه قوّة حسابية مبنية على عدة كمبيوترات لكسر المفتاح السري وهذا يقتضي أن تكون الوثيقة الإلكترونية ذات أهمية استراتيجية لمن يريد كشف مفتاحها السري . وبالتالي يصبح ماسك منظومة الإمضاء غير صاحبها الأصلي فيكون التعريف مغلوطا لذلك فإنّ أكثر أنواع الإمضاء الإلكتروني التي تضمن الشخصية والشخصانية [166] في نفس الوقت هو الإمضاء البيومتري لأن من طبيعته أن يكون مرتبطا بالصفات الجسدية للشخص ونسبة وجود شخصين بنفس الأنسجة القزحية مثلا تعادل واحد على مائتي مليون كما قدمنا .[167] وحرصا على تحقيق هذه الوظيفة بأكثر ضمانات ميّزت توصية الاتحاد الأوروبي في 13 ديسمبر 1999 حول الإمضاء الإلكتروني بين الإمضاء الإلكتروني البسيط [168] والإمضاء الإلكتروني المدعم [169] Signature
نظرا وأنّ هذا الأخير[170] . - يكون متّصلا بالممضي فقط - يمكّن من التعريف بالممضي - يكون محدثا بوسائل تكون تحت مراقبة الممضي المطلقة. - يكون متّصلا بالمعطيات والبيانات التي يتعلق بها بصفة يمكن معها التفطن لكل تغيير لاحق.[171] وقد ساد الإتفاق على أنّ الإمضاء الإلكتروني المتقدم هو وحده المساوي للإمضاء اليدوي والحري بأن يتمتع بنفس القوّة الثبوتية.[172] وقد وضع المشرع الفرنسي قرينة قانونية لصالح مصداقية منظومة إحداث الإمضاء الإلكتروني تقنيا وهي قرينة بسيطة قابلة للدّحض بإثبات العكس. كما وضع قرينة أخرى على أنه بمجرد إحداث الإمضاء الإلكتروني فإنّ التعريف بالممضي يعتبر حاصلا وسلامة الحجّة مضمونة وذلك في إطار الشروط المضبوطة بواسطة أمر من مجلس الدّولة[173] وفعلا أصدر هذا الأخير منذ أيام قلائل هذا الأمر المنتظر تحت عـــ 272 – 2001 ـدد بتاريخ 30 مارس 2001 [174] ، تضمن 11 فصلا تناول الفصل الأول منها تعريف جميع المصطلحات المتعلقة بالإمضاء الإلكتروني واعتمد في ذلك نفس توجه توصية الإتحاد الأوروبي المؤرّخة في 13 / 12 / 1999 حول الإمضاء الإلكتروني. ونتولّى في ما يلي التعرّض إلى بعض الجديد الذي جاء به : - أقرّ العمل بالإمضاء الإلكتروني المبني على تقنية التّشفير اللّاتماثلي Cryptologie asymétrique ، أي المعتمدة على المفتاحين العلني والسرّي لكنّه أورد هذه التّقنية على سبيل الذّكر لا الحصر حتّى يسمح باعتماد ما يفرزه التطور العلمي من تقنيات توفر نفس الضّمانات أو تفوّقها.
( الفصل الأوّل-4- ) . - ميّز بين الإمضاء الإلكتروني كيفما عرّفه الفصل 1316-4 من المجلّة المدنيّة الفرنسيّة وبين الإمضاء الإلكتروني المؤمّنSignature électronique sécurisée والذي يرادف في تعريفه [175] الإمضاء الإلكتروني المتقدّم Signature électronique avancée حسب توصية الاتحاد الأوروبي المذكورة أعلاه . ( الفصل الأول 1 و 2 ). - وبالتّوازي ميّز بين نوعين من شهادات المصادقة : · شهادة إلكترونية :Certificat électronique وهي وثيقة في شكل الكتروني تضمن صلة منظومة التدقيق في الإمضاء بالممضى وتعطى للإمضاء الإلكتروني . · شهادة الكترونية موصوفة : Certificat électronique qualifié وهي وثيقة الكترونية تتماشى مع الإمضاء الإلكتروني المؤمّن وتتضمّن جملة من البيانات الخاصة بهيكل المصادقة والممضي بالشهادة نفسها وهي نفس البيانات تقريبا الواردة بتوصية الإتحاد الأروبي والمتقاربة مع مضمون شهادة المصادقة الإلكترونية التونسية .
( الفصل 6 ). · ودائما في نفس التّمشي الثنائي ، شرّع هذا الأمر التّطبيقي لصنفين من مزوّدي خدمات المصادقة ، فنجد مزوّد خدمات مصادقة ومزوّد خدمات مصادقة موصوف (Qualifié) الذي يتحصل على هذه الصّفة بمقتضى شهادة يمنحها إيّاه هيكل مختصّ يحدّد تركيبته ومهامه قرار صادر من وزير الصناعة ( الفصل 7 ). · إلى جانب اسناد شهادات المصادقة يمكن لمزوّدي خدمات المصادقة تزويد المتعاملين بمنظومتي إحداث ومراقبة الإمضاء ( أو التّدقيق فيه ) مع أخذ الإحتياطات الأمنيّة اللّازمة . ( الفصل 6.II ) · يخضع مزوّد خدمات المصادقة إلى مراقبة مؤسسة عمومية يقع تحديد هيكلتها ومهامها بمقتضى أمر من الوزير الأول ( الفصل 9 ). · يجب على مزوّد خدمات المصادقة توفير جملة من الضّمانات على مستوى الطّاقات الفنيّة والتّقنيّة أو الطّاقات البشريّة ، وهي تقريبا نفسها المنصوص عليها صلب ق.م.ت.أ. التونسي. · لكلّ صنف من صنفي الإمضاء الإلكتروني منظومة إحداث تختلف مواصفاتها بحسب نوع الإمضاء ذلك أنّ الإمضاء الإلكتروني المؤمّن يتميّز بمنظومة إحداث مؤمّنة :Sécurisée التي لا تتّخذ هذا الوصف إلاّ بعد عمليّة تقييم ومصادقة يقوم بها هيكل خاصّ أعدّ للغرض
(un comité directeur de la certification ) مركّز بالوزارة الأولى يقع ضبط هيكلته ووظائفه بمقتضى أمر من الوزير الأول ( الفصل 4 ) ، كما ينتظر أن يصدر هذا الأخير أمرا يتولّى فيه تحديد اجراءات وقواعد تقييم منظومات إحداث الإمضاءات المؤمّنة ( الفصل 3 ) . · منظومة التّدقيق في الإمضاء أو التّحقق منه يمكن أن يمنحها أو يضعها شخص آخر غيرا يدعى المراجع أو المحقق Le vérificateur كما يمكن أن تخضع على غرار منظومة إحداث الإمضاء إلى التّقييم والمراقبة من طرف نفس الهيكل المنصوص عليه بالفصل 4 من ذات الأمر. · اشترط في هذا الغير المراجع أن يكون قادرا، عند الضّرورة، على تحديد محتوى المعطيات الممضاة وأن يكون مطّلعا على جميع البيانات المتعلقة بالشّهادة الإلكترونية. ( الفصل 5 ). · حدّد الأمر التّطبيقي من مجال قرينة الوثوق ( Fiabilité ) في تقنيّة الإمضاء الإلكتروني الواردة بها مقتضيات الفصل 1316 – 4 ليجعلها مقتصرة على الإمضاء الإلكتروني المؤمّن المحدث بواسطة منظومة إحداث مؤمّنة والواقع مراقبته عن طريق شهادة إلكترونية موصوفة. ( الفصل الثاني ). وما تجدر الإشارة إليه أنّ هذا الأمر التّطبيقي لم يؤطّر مؤسسة الإمضاء الإلكتروني بصفة نهائية بل فسح المجال لسلسلة من الأوامر التطبيقية التي لا يقل عددها عن الأربعة حتّى يكتمل نسيج الإثبات الإلكتروني وإن يظلّ منقوصا في كلّ الأحوال ما لم تنظّم قانونيّا المعاملات التجارية الإلكترونية على غرار فعل المشرّع التونسي حيث يعتبر قانون المبادلات والتجارة الإلكترونية رائدا في مجاله . وفي إنتظار أن يصدر ما يماثل هذا الأمر عن وزير المواصلات ، يمكن القول بأن الإمضاء الإلكتروني المدعم يعادل الإمضاء الإلكتروني في القانون التونسي كيفما عرفناه سابقا وكيفما نظمه ق.م.ت.أ. طالما أنّه يضمن نفس الخصائص والمواصفات المومأ إليها سابقا وذلك بمساعدة طرف ثالث : مزود خدمات المصادقة الذي يمنح للمتعاقد شهادة لا تعرف به فحسب وإنّما تستثبت هويته كذلك. 2 – استثبات هوية الممضي : l’anthentification يتمثل الإستثبات في مراقبة والتأكد من مصداقية التعريف فإذا كان هذا الأخير يكشف عن هوية الممضي فإن الإستثبات يسمح بالتأكد من تلك الهوية والتثبت من أنها تنطبق فعلا على شخص المخاطب أو الباعث ، وهي وظيفة لا يحققها الإمضاء اليدوي مباشرة بل يسمح بها لاحقا عند نشوب نزاع ما حول إسناد الإمضاء لشخص ما أو عند إنكار الممضي للإمضاء الموجود بالكتب وهي إمكانية نظّمها الفصلان 458 و 459 من م.إ.ع. وعلى العكس من ذلك يوفّر الإمضاء الإلكتروني إمكانية التحقق من شخص الباعث وهويته حالا ، فور توصله بالمراسلة وذلك بفضل شهادة المصادقة التي يؤمنها مزوّد خدمات الاستثبات أو ما يعرف بالغير المصادق : le tiers
certificateur الذي يتولى عند طلب شهادة جمع المعلومات ذات الصبغة الشخصية والتي تمكن من التعرف على الشخص المعني بالأمر وذلك مباشرة منه أو من خلال الغير بعد أخذ موافقته[176]والالتزام بالمحافظة على سرية تلك المعلومات إلاّ إذا سمح له بنشرها أو الإعلام بها ( الفصل 15 من ق . م . ت . أ ) وبناء على تلك المعطيات المتحصّل عليها يتولى هيكل المصادقة إعداد شهادة المصادقة وهي عبارة عن بطاقة تعريف إلكترونية في شكل وثيقة إلكترونية تتضمّن سلسلة من المعلومات منها ما يتعلق بالشخص المراد تعريفه كذكر اسمه وعنوانه وأهليته ومنظومة التدقيق في إمضائه[177] ( ويقصد بها المفتاح العام ) التي تتماشى مع منظومة إحداث الإمضاء [178] ( ويقصد بها المفتاح الخاص ) ولما لا صورته ... إلخ وإن كان شخصا معنويا ، يتعيّن على المزوّد التّدقيق مسبّقا في هويّة الشّخص الطبيعي الذي يتقدم إليه وصفة تمثيله للشّخص المعنوي ومنها ما يتعلّق بهيكل المصادقة ذاته من ذلك هويّته وإمضائه الإلكتروني الذي يمكّن من استثبات شهادة المصادقة نفسها ، علاوة على بعض الإيضاحات التي تخص الشهادة كتحديد مدّة صلوحيّتها ومجالات استعمالها كبيان قيمة المعاملات مثلا التي يمكن أن تستخدم فيها الشهادة كلّ ذلك حتّى يكون المتعامل على بيّنة من جميع ظروف وملابسات المعاملة المقدم عليها وهو ما لا يوفّره الإمضاء اليدوي الذي ولئن كان شخصيا إلاّ أنّه لا يسمح بالوقوف على حقيقة الممضي الشخصية والمهنية بالطّريقة التي بيّناها أعلاه وفي كلّ وقت ومن أيّ مكان ذلك أنّ مزوّد خدمات المصادقة ملزم بمسك سجّل إلكتروني لشهادات المصادقة على ذمّة المستعملين يمكنهم الإطّلاع إلكترونيّا بصفة مستمرة على المعلومات المدوّنة به التّي تظلّ قابلة للتّحيين والتّعديل من قبل صاحب الشهادة الذي يمكنه في كلّ وقت وبعد تقديم مطلب في الغرض النّفاذ إلى المعلومات الشخصية المتعلقة به وتعديلها . ( الفصل 42 من ق.م.ت.أ ) وتجدر الإشارة أنّه بمراجعة توصية الإتحاد الأوروبي حول الإمضاء الإلكتروني وخاصة الملاحق الخاصة به والمتعلقة تحديدا بمضمون شهادة المصادقة الموصوفة : certificat qualifié والتي تسند بشأن الإمضاء الإلكتروني المدعّم أو المتقدم Signature électronique avancée دون غيره ، تبيّن وأنّها تحمل نفس المواصفات والبيانات تقريبا التي أوجب المشرّع التونسي توفرها في شهادة المصادقة بما تكون معه هذه الأخيرة حريّة بالإعتبار على مستوى الضمانات التي توفرها طالما أنّها تستجيب لمواصفات عالمية ، فضلا عن إحاطتها بوسائل حمائية أخرى نأتي على ذكرها في بابها. 3 - استثبات محتوى الكتب : ويعني ذلك التأكد من أنّ محتوى الكتب لم يتغيّر وهو يمثّل ما وقع فعلا الإتفاق عليه بين أطراف المعاملة دون تحوير أو تعديل يذكر . وكيف يمكن ضمان هذه الوظيفة ؟ ذهب البعض إلى اعتبار الغير المصادق هو الكفيل بالقيام بهذه المهمة واعتبروه مأمورا عموميا افتراضيا ( Un cyber – notaire ) أو مأمورا إلكترونيا (un notaire électronique) [179] والحال أنّه لا يمكن أن يقوم مقامه إذ أنّه يفترض بالمأمور العمومي أن يكون على علم بمحتوى الكتب وهو الذي حرّره أو إطّلع عليه في صياغتة النهائية قبل التعريف بالإمضاء عليه بمعنى أن يكون غيرا شاهدا وهو ما لا ينطبق على مزوّد خدمات المصادقة. على الأقل ، في الوضعية الراهنة إذ أنّ مهمّته تقتصر على ضمان الصّلة بين منظومتي إحداث الإمضاء والتدقيق فيه وصاحبهما فحسب وإن كانت صياغة الفصل الثاني من ق.م.ت. أ في تعريفه لمزوّد خدمات المصادقة الالكترونية [180] تسمح بتكليفه بمهام أخرى قد تدخل في نطاق وظائف المأمور العمومي من ذلك تثبيت تاريخ للوثيقة الإلكترونية على معنى الفصل 450 من م.إ.ع. ولكن دون الحصول دائما على صفة الأمور العمومي الذي يبقى خاضعا في نظامه إلى نصوص قانونية خاصة آمرة لا يمكن الاتفاق على مخالفتها.[181] ورغم إقصاء هيكل المصادقة من هذه المهمة إلاّ أنّ تحقيقها يظلّ مرتبطا بالإمضاء الإلكتروني بمراحله التقنية ذلك أنّ سلامة ومصداقية المحتوى تضمنها تقنية المفتاحين السري والعلني وخاصة تقنية Hachage التي تمكّن من اختزال المحتوى ليصبح في شكل دالة جبرية لا نظير لها ولا شبيه على الإطلاق فالمفتاحان المستعملان في إحداث الإمضاء وتدقيقه هما ذاتهما المستخدمان لتشفير المحتوى بعد اختزاله ويمكن للمرسل إليه أن يراقب مصداقية المحتوى من خلال إحداث مختزل بنفس الطريقة الحسابية فإنّ تماثل المختزلان تأكّد من أنّ المحتوى هو نفسه المتّفق عليه وأنّه لم يتعرّض إلى التغيير على الأقل من قبل الغير علاوة على أنّ تلك التقنيّة تضمن عدم إنكار المرسل لمضمون الوثيقة لأنّها تستدعي تدخّل مفتاحه الخاص الّذي لا يعلمه أحد غيره . 4- التّعبير عن إرادة الإلتزام والرّضاء بآثار العمل القانوني : يمكن تعريف التراضي بأنّه توافق إرادتين على احداث أثر قانوني ويتحقق هذا التوافق بمجرّد صدور قبول مطابق لإيجاب طبق الفصل 32 من م.إ.ع[182] . والتّعبير عن الإرادة معناه الإفصاح عنها وإبرازها إلى العالم الخارجي بإحدى وسائل التعبير . فإذا كان التعبير لازما لوجود الرضاء فإن القانون لم يفرض على المتعاقدين اتخاذ شكل معين في التعبير وذلك اعتمادا على مبدأ الرّضائية العقود فيمكن أن يكون التعبير بالكتابة أو اللفظ أو الإشارة المتداولة أو إتّخاذ موقف لا تدع ظروف الحال شكّا في دلالته . وفي هذا الإطار يتنزل الإمضاء فباعتباره علامة خاصة تميّز الممضي عن غيره فإنّ وضعها على الكتب يفيد موافقته على محتواه وهو أثر قانوني أكّدته التّشاريع سواء بصفة صريحة أو ضمنيّة فقد أورد المشرع التونسي تنصيصا بالفصل 448 من م.إ.ع يستشف منه أنّ إمضاء المتعاقدين يعبر عن رضاهما الذي هو ركن صحة في العقد وذلك على النحو التالي : " إذا كان الكتب لا يعتبر رسميا ( .... ) اعتبر كتبا غير رسمي إذا كان به إمضاء المتعاقدين الواجب رضاهما لصحة العقد ." ونفس المقصد عبّرت عنه صياغة الفصل 458 من م.إ.ع إذ ورد في فقرته الأولى أنه : إذا وقع الاحتجاج بكتب غير رسمي على شخص، فعليه أن يعترف به أو ينكر خطّه أو إمضاءه بوجه صريح وإلاّ اعتبر الكتب مقبولا لديه " . أمّاّ القانون الفرنسي فقد انتهج منهج الصراحة في تركيز هذا الأثر القانوني إذ أورد بالفصل 1316 – 4 من المجلة المدنية الفرنسية أنّ الإمضاء يعبّر عن رضاء الأطراف بالإلتزامات المنجرة عن العمل القانوني الممضى.[183] ولتحقيق هذا الغرض يجب أن يكون الإمضاء متصلا بالكتب وهو أمر مفروغ منه بالنّسبة للإمضاء اليّدوي الذي يفترض اتّصالا مادّيا بين الشخص والكتب على عكس الإمضاء الإلكتروني اللّامادي بطبيعته لذلك اتّجهت جميع التّشاريع التّي اعتمدته إلى التّأكيد على وجوبيّة أن يكون الإمضاء الإلكتروني متّصلا بالكتب مع الإحتفاظ بشرط أن يكون بأسفل الوثيقة فهو يعني المصادقة على جميع ما ورد بها من إلتزامات. وعلى هذا الأساس أورد المشرّع التّونسي قاعدة عامّة صلب الفقرة الثانية من الفصل 453 م.إ.ع توجب أن يكون الإمضاء يدويا كان أو إلكترونيا بأسفل الكتب ثمّ أكّد في تعريفه للإمضاء الإلكتروني في الفقرة الثانية من ذات الفصل أنّ هذا الأخير يتمثل في استعمال منوال تعريف موثوق به يضمن صلة الإمضاء المذكور بالوثيقة الإلكترونية المرتبطة به . كذلك الشأن بالنسبة للقانون الفرنسي [184] الذي اقتدى بتوصية الإتحاد الأوروبي حول الإمضاء الإلكتروني.[185] ولكن ولئن كان الإمضاء الإلكتروني يحمل في طيّاته موافقة على محتوى الكتب إلاّ أنّه لا يمكّننا من التثبّت من سلامة هذا الرّضاء من العيوب أو من حقيقة تبادله بين الطّرفين طالما وأنّ الإتّصال قائم بين أجهزة الحاسوب لا بين الأشخاص إلى درجة أن اعتبر البعض الحاسوب وكيلا للمتعاقد[186] فيما اعترف له البعض الآخر بالشخصية القانونية.[187] وبالتالي أضحى الإمضاء الإلكتروني وسيلة إثبات مستقلة يستخدمها المتعامل لإثبات هوية معاقده وإرادة إلتزام هذا الأخير تجاهه بفحوى العقد أو المعاملة دون أن يتحمّل عبء اثبات احترام القواعد الفنية والسلامة التقنية إذ يتمتع بقرينة الصحّة والمطابقة للمواصفات ذلك أنّ الأصل في الأمور الصحّة والمطابقة للقانون حتّى يثبت خلافه. [188] . فضلا عن أنّ المتعامل يمكنه إثبات المعاملة الإلكترونية بوثائق يدوية يطالب بها الطّرف المقابل وتصله عبر أيّ وسيلة كانت كالبريد متضمّنة لكافة المعطيات المتعلقة بالمعاملة في جميع المراحل التي مرت بها[189]. 5 – تهيئة وسائل الإثبات : ونميّز هنا بين الإمضاء كوسيلة إثبات Ad probationem وبين الإمضاء المطلوب كشرط صحّة Ad validitatem فأمّا الأول فقد تعرّضنا إليه بالبسط فيما سلف بيانه من وظائف للإمضاء الإلكتروني وبقي أن نتعرّف على هذا الأخير وهو يقوم بدور حجر الأساس بالنسبة للعديد من وسائل الإثبات فهو يمثل أساس حجيّة الوثيقة الإلكترونية التي لا يمكن لها أن تكتسب حجيّة الكتب غير الرسمي ما لم تكن مدعّمة بإمضاء إلكتروني ( الفصل 453 مكرر م.إ.ع ) فميزة الحجّة غير الرسميّ تكمن في إمضاءها طبقا للشروط القانونية. ومن ثمّ تكون الحجّة غير الرسميّ الإلكترونية متمثلة في سلسلة من أحرف وأرقام ورموز وإشارات مقروءة ومفهومة [190] ومذيّلة بإمضاء إلكتروني. وهي نفس الحجيّة التي اعترف بها القانون الإيطالي حول الإمضاء الإلكتروني للوثيقة الإلكترونية. وهي حجيّة من شأنها أن تطمئن المتعاملين عبر شبكة الأنترنات. ففي إطار الأعمال التجارية المختلطة مثلا بين مستهلك وتاجر ، لن يكون هذا الأخير في حاجة إلى تدعيم هذه الوثيقة بوسائل إثبات أخرى تطبيقا لقواعد الإثبات المقيد في المادة المدنية بل أضحت الوثيقة الإلكترونية كافية بذاتها . كذلك الشأن بالنسبة للمستهلك الذي ولئن يتمتع بمبدإ حريّة الإثبات فإنّه لن يتكبد منذ الآن ، عناء البحث عن وسائل إثبات وجمعها ثمّ اختيار المقنع منها لاثبات تعاقده مع التاجر وإقامة الدّليل على التزامات هذا الأخير تجاهه ، فالوثيقة الإلكترونية ، حجّة غير رسميّة ، تغنيه عن كلّ ذلك . إذ لا فرق بينها وبين الحجّة غير الرسميّة الورقية أو اليدوية : بل إن البعض لا يزال يدعو إلى ضرورة إكساء الوثيقة الإلكترونية بحجية تفوق تلك المعترف بها للكتب الورقي إن أكّد
Maître Théo Hassler أنّ الوثيقة الإلكترونية : لأنّه حسب رأيه : « Le risque d’imiter une signature, n’existe plus. » كما أنّ الإمضاء الإلكتروني يضفي قوّة ثبوتيّة على بعض الأدلّة والوثائق التجارية وخاصة منها الفواتير أو قوائم البضاعة التي أوجب الفصل 598 م.ت[191]. أن تكون مقبولة ليمكن اعتمادها في الإثبات. والفواتير هي وثائق يصدرها التاجر بإرادته المنفردة وبالتالي لا يمكن أن تكتسب قيمة ثبوتية إلاّ إذا قبلها الحريف أو المخاطب بها ذلك أنّ قبول الفاتورة يعتبر مصادقة على العقد الأصلي الذي كان سببا في إصدارها كما تمكن من إثبات محتواه.[192] والقبول يمكن أن يكون صريحا أو ضمنيا فالضمني يستخلص من الخلاص أو من إدراج الفاتورة في الحسابيات وعملا بالأعراف التجارية يعتبر السكوت لأجل معين بعد التوصل بالفاتورة قبولا لها [193]. وأمّا القبول بصفة صريحة فيكون إذا ما استظهر الحريف بوصل استلام
( Accusé de réception ) بدون أن يبيّن أدنى تحفّظ أو احتراز أو عندما يعيدها ممضاة وهي الفرضية الأكثر شيوعا. ومع تطور وسائل الإتّصال أصبحت الفواتير إلكترونية وتتمتع بتلك الصفة سواء تمّ إعدادها على شاشة الحاسوب مباشرة أو كانت معدّة على حامل ورقي وتمّ إرسالها بطريقة إلكترونية [194] وهي إمكانية أجازها قانون 30 ديسمبر 1996 المتعلق بنظام المحاسبة للمؤسسات ولكن يبقى العمل بها رهين الحصول على موافقة إدارة الآداءات كما هو معمول به مثلا في القانون الفرنسي [195] . وتعدّ الفاتورة الالكترونيّة أوّل تطبيق شهده نظام E.D.I [196]من خلال برنامج TEDIS [197] الذي اعتمده المجلس الأوروبي في 5 أكتوبر 1987 وهو عبارة عن برنامج معلوماتي خاص بالتبادل الالكتروني للمعطيات التجارية في مجالات التجارة والصناعة والإدارة[198] ويمتد هذا البرنامج ليشمل أوامر الشراء ووصولات التسليم والرسائل التي أضحت جميعها وثائق الكترونيّة بحاجة الى أن تحلّى بالإمضاء الألكتروني للاعتداد بمحتواها كوسيلة إثبات[199]. وقد اعتبر البعض أن الإمضاء يضفي على الحجة غير الرسميّة وصف الأصل[200] فهل يستقيم الأمر بالنسبة للوثيقة الألكترونية؟ الفقرة الثانية : على مستوى النسخ : أقرّ المشرّع التونسي مبدئيّا ثنائية الأصل والنسخة بالنسبة للوثيقة الإلكترونية حيث جاء بالفصل 470 جديد من م إ ع أن "نسخ الحجج الرسمية وغير الرسمية المأخوذة من الأصل تعتبر كأصولها إذا شهد بصحتها المأمورون العموميّون المأذونون بذلك بالبلدان المأخوذة بها النّسخ أو إذا أقرّ بصحّتها الطرف المحتج بها ضدّه أو إذا كانت ممضاة من طرفه أو إذا تم إنجازها وفق وسائل فنية توفّر كل الضّمانات لمطابقتها لأصولها ». وفي صورة عدم توفّر هذه الشّروط يتمّ عرضها على الإختبار لبيان مدى صحتها." وأضاف الفصل 471 جديد من نفس المجلة أنّ : " الحجج الخاصّة أو العمومية الموجودة بخزائن المكاتيب العمومية إذا أخذ المكلف بها نسخا منها طبق القوانين اعتبرت كأصلها وتجري هذه القاعدة على النّسخ المأخوذة من دفاتر المحاكم المنتسخ بها الحجج إذا شهد بمطابقتها لأصلها أو إذا تمّ إنجاز تلك النّسخ وفقا للوسائل المشار إليها بالفصل المتقدم. وتنطبق أحكام الفقرة السابقة إذا لم يحتفظ طرف ما أو مؤتمن على الوثائق بأصل السّند وقدّم نسخة ثابتة ودائمة لها. وتعتبر نسخة ثابتة ودائمة كل منتسخ يؤدّي إلى تغيير في شكل السّند المادي غير قابل للّرجوع فيه مثل الميكروفيلم والميكروفيش وكلّ وسيلة خزن إلكتروني أو ضوئي أخرى." وبالتّالي فإنّ الوثيقة الإلكترونية بإعتبار أنّها ترقى إلى مرتبة الحجة غير الرسمية ، تتمتّع نسخها بحجيّة وفق شروط ومواصفات معيّنة ( أ ) إذا ما غابت تولّت المحكمة إعمال سلطاتها التقديرية لحسم المسألة (ب). أ – حجيّة نسخ الوثيقة الإلكترونية : يتحصحص من الفصلين المذكورين سالفا أنّ النّسخ الرسمية وغير الرسمية والنّسخ المأخوذة من الأرشيف الوطني ودفاتر المحاكم والنسخ التي بحوزة أي طرف، تعتبر كأصولها إذا ما تمّ إنجازها وفق وسائل فنيّة توفّر كلّ الضّمانات لمطابقتها لأصولها . ومعنى ذلك أنّ نسخ الوثيقة الإلكترونية تتمتّع بنفس حجية هذه الاخيرة فتتنزل منزلة الحجج غير الرسمية لكن بشرط إنجازها طبق وسائل فنيّة تضمن مطابقتها لأصلها. فماهي إذن هذه الوسائل الفنية ؟ نفس السؤال طرح أثناء مناقشة مشروع القانون المتعلق بتنقيح بعض الفصول من مجلة الإلتزامات والعقود والذي بمقتضاه ورد الفصلان 470 و 471 على الصّيغة المذكورة أعلاه ، فكان الجواب أنّه : " يقصد بالوسائل الفنية جميع الوسائل المعلوماتية والإلكترونية وجميع ما يمكن أن يحدثه التطور الحاصل في عالم الإعلامية والإتّصالات ونقل المعلومة بدءا بإنشاءها ومرورا بتسجيلها وحفظها نهاية ، بخلاف الحجج الكتابية الورقية. ويندرج في هذا الباب جميع الأوعية الإلكترونية والتسجيلات الإلكترونية والحوامل الإلكترونية ووسائل التوثيق الحديثة مثل الميكروفيلم والميكروفيش وكل وسيلة خزن إلكتروني أو ضوئي أخرى شرط أن توفر هذه الوسائل الفنية الضمانات لمطابقتها لأصلها." ولكن نعود ونتساءل هل يوجد أصل في الرقمي حتّى نتحدث عن نسخة ؟ إنّ الحديث عن الأصل لا يمكن أن يجد صدى له إلاّ في العالم الورقي الذي يتأسس على سندات مادية يمكن إعداد مثيل لها بتوظيف وسائل غير قانونية لذلك اشترط القانون أن تكون مشهودا عليها بمطابقتها لأصولها من طرف مأمور عمومي أو معترفا بها من طرف المحتجّ بها ضدّه أو ممضاة منه. وهو ما لا يتماشى ومحيط الوثيقة الإلكترونية اللامادي وتركيبتها وصياغتها التكنولوجيتين إذ الأصل في العالم الإلكتروني له مدلول خاص ذلك أنّه يقترن بسلامة الوثيقة Intégrité بمعنى أن تحافظ الوثيقة على مميزاتها وصحتها على الحالة التي أنشئت عليها أول مرة، إذن الأصل في الفضاء الإلكتروني يتمثل في ذلك النص الذي تمت صياغته وكتابته على شاشة الحاسوب لأوّل مرّة بواسطة لوحة الأحرف ثمّ تمّ حفظه على حامل إلكتروني وعند الإحتجاج به سيقدم منه مثيل لكن هذا المثيل عند تقديمه للقضاء هل يمكن الجزم بأنّه النّسخة أم الأصل ؟ يؤكّد الفنيّون أنّه يصعب بل من المستحيل التمييز بين الأصل والنسخة في العالم الإلكتروني . المبني على تقنية الرّقمنة La numérisation التي تمكّن من الحصول على أجيال متعاقبة من نفس الوثيقة دون التمكن من التمييز
بينها[201] ولمزيد الوقوف على هذه الإشكالية نتناول المسألة بأكثر وضوح . فمتابعة للمنطق القانوني المجسم بالفصلين 470 و 471 من م.إ.ع ،يمكن اعتبار الوثيقة الإلكترونية التي تمّ إنشاؤها على شاشة الحاسوب هي الأصل فيما تتمثل نسختها في تسجيلها على حامل إلكتروني كالقرص المضغوط مثلا بقصد حفظها وهو ما يمثل حسب عبارة الفصل 471 م.إ.ع نسخة ثابتة ودائمة ويتحدد وصفها ذاك بحسب نوع الوعاء الإلكتروني ومميزاته التقنية فأن تكون ثابتة يقصد به أنّها لم تتغيّر أثناء تسجيلها على الحامل الإلكتروني سواء بتدخل من الإنسان أو من الآلة نفسها ، جهاز الحاسوب ، كأن تتعرّض إلى عطب طارىء في أحد دواليبها فتنقلب المعطيات أو يختفي بعضها . وأمّا أن تكون دائمة فيعني أن تحافظ على شكلها ذاك بدون تحديد في الزّمن و هذا يقتضي أن يتّسم الوعاء الإلكتروني بالصّلابة وبعدم قابليته للتغيير [202] وبصموده أمام المؤثرات المناخية والطبيعية كالغبار وأشعة الشمس ودرجة الرطوبة وكذلك المؤثرات الفنية الخارجية فعلى سبيل المثال تتبدل المعطيات داخل قرص مغناطيسي إذا مررنا به عبر حقل مغناطيسي أو كهربائي من غير حمايته بما يسمى بواقي ( Cage de fraday ) Fraday . ومرّة أخرى نتأكد من أهمية الحفظ ونوعية وسائله لإضفاء الحجيّة على الوثيقة الإلكترونية وقد سبق القول في ذلك. هذا إذن التحليل التقني لنسخة الوثيقة الإلكترونية المتحدث عنها بالفصلين 470 و 471 م.إ.ع لكن على صعيد الإثبات يمكن أن نتعرض إلى صعوبات يطرحها نفس هذا التحليل التقني إذ أنّه يمكن الولوج مرة ثانية إلى الوثيقة الإلكترونية المخزنة بذاكرة الحاسوب على أنّها الأصل واحداث تغييرات فيها بالزيادة أو النقصان مع الإحتفاظ بنفس التسجيل الأوّل على الحامل الإلكتروني باعتباره نسخة ثم يقع الاحتجاج بالأصل المخزّن بذاكرة الحاسوب الحية على شاكلته الجديدة لدفع ومعارضة محتوى الحامل الإلكتروني والحال أنّ هذا الأخير أضحى هو الأصل في الحقيقة . واعتبارا لذلك كلّه فإنهّ من المستقيم قانونيا وتقنيا أن تعتبر الوثيقة الإلكترونية بمعزل عن ثنائية الأصل والنّسخة [203] التي لا يمكن أن تتماشى ومتطلباتها الفنية فيكون المعيار الوحيد لتقدير حجيتها في أيّ شكل كانت عليه وفي أيّ صيغة يقتضيها القانون ، هو درجة سلامتها وهو الإتّجاه الذي كرّسته لجنة الأمم المتحدة في صياغتها للمادة السابعة من القانون النموذجي حول التجارة الإلكترونية والتي جاء فيها أنّه : " عندما يشترط القانون تقديم المعلومات أو الإحتفاظ بها في شكلها الأصلي ، تستوفي رسالة البيانات هذا الشرط إذا : ( أ ) وجد ما يعول عليه لتأكيد سلامة المعلومات منذ الوقت الذي انشئت فيه للمرة الأولى في شكلها النهائي ، بوصفها رسالة بيانات أو غير ذلك، ( ب ) كانت تلك المعلومات مما يمكن عرضه على الشخص المقرر أن تقدم إليه وذلك عندما يشترط تقديم تلك المعلومات ". وإذا جدّ نزاع حول سلامة الوثيقة فإنّ الأمر يؤول إلى مطلق اجتهاد المحكمة بالاستعانة بأهل الخبرة والاختصاص. ب – دور القاضي في تقدير الحجعية : لم تعد وظيفة القاضي تقتصر على التصريح بوجود حق أو بإنعدامه طبقا للقانون [204] كما لم يعد ذلك الناطق الرسمي باسم القانون دون أدنى اجتهاد أو إضافة وإن كانت لصالح القانون ذاته[205] بل أصبح يتمتع بسلطات واسعة منحها القانون إيّاه حتى يتمكن من إنجاز المهمة المنوطة بعهدته بمقتضى القانون ، حتّى يكون قاضي الواقع والإثبات [206]، هذا الواقع الذي أصبح من الصعب على القاضي الإلمام به خاصة إذا طرحت فيه إشكاليات تقنية تستدعي تدخل المختصين فيها للوقوف على حقيقتها كما هو الشأن بالنسبة لوسائل الإثبات الحديثة على غرار الوثيقة الإلكترونية ، هذا المولود الرقمي الغريب عن عالمنا الورقي المعتاد والذي أصبح القضاة حياله في حاجة ماسة إلى من يفهم لغته ويفقه مسار حياته والمضاعفات التي يمكن أن يتعرض لها وطريقة تكاثره حتى يمكنهم تحديد موقف القانون منه[207] . ونتحدث هنا عن دور الخبراء والفنيين [208] الذين أصبحت آراءهم أكثر من إختياريّة واستشارية ومن المنتظر أن تقيّد القضاة في المستقبل القريب على عكس المبدأ العام الوارد بالفصل
112 من م م م ت [209] فالمحكمة لن تجد بدّا من إتباع نتيجة الإختبار في مسائل جد معقدة بطبيعتها التقنية علاوة على عدم اطلاع القاضي وافتقاره للإختصاص في الميدان التقني الذي يتطلب معارف دقيقة ومتابعة مستمرة لأحدث الإختراعات والتطورات التكنولوجية بل وأكثر من ذلك يمكن أن نستخلص أّن السلطة التقديرية التي يمنحها القانون للقاضي لتقدير مدى صحة الوثيقة الإلكترونية وصلوحيتها لأن تعتمد كوسيلة إثبات يردها عليه البعد الفني لهذه الوثيقة ويحول دون ممارسته لها فقد جاء بالفصل 470 م إ ع أنه في صورة عدم توفر شروط مطابقة النسخ لأصولها يتم عرض النسخ على الإختبار لبيان مدى صحتها وهو تكريس للصورة الطبيعية : الخبير يعاني والقاضي يكيف ، الخبير يدرس الواقع ويبيّن عناصره والقاضي يجتهد لتطبيق القانون عليه إلاّ أنه في مسألة الوثيقة الإلكترونية والوثائق المماثلة ينعدم الإجتهاد نظرا وأنّ عالم المعلوماتية بصفة عامة على حد تعبير ERIC CAPRIOLI لا يعرف الوسطية فإما أن يكون صحيحا أو غير صحيح ، فالإجابة تكون بنعم أو بلا ولا وجود لجواب بين هذا وذاك وبالتالي تكون الخبرة المنتدبة بالضرورة قاطعة في جوابها من أن الوسيلة المعتمدة توفر المطابقة للأصل أو خلافه وسيكون دور القاضي في تقرير حجية بعض الصور محصورا إن لم يكن معدوما ولكن مع ذلك تبقى الكلمة الأخيرة للقاضي الذي يسير النزاع ويسهر على تطبيق القواعد القانونية شكلا وأصلا مما من شأنه أن يبعث الطمأنينة في نفوس المتعاملين حول مآل حججهم وفي هذا الإطار نسوق خلاصة الأستاذ EDWARDO COUTURE الذي قدم أن : « le procès est un phénomène humain dans lequel le dernier mot appartient au juge, ; c-a-d que dans ce cercle la ligne se ferme, après avoir commencé par le demandeur et continué par le défendeur, avec la position humaine du juge, parce que le droit, c’est le droit que le juge réalise dans son jugement. »[210] وإضافة للضّمانات القضائية تحضى الوثيقة الإلكترونية بحماية منذ نشأتها تجعل منها ذات أهمية استراتيجية في نظر المشرع. المبحث الثالث : الوثيقة الإلكترونية تحضى بحماية مشدّدة إنّ قوّة الوثيقة الإلكترونية الثبوتيّة ترتبط وتتأثر بدرجة حمايتها فكما أسلفنا تعتبر درجة سلامتها معيارا لتقدير حجيتها وعموما تتناسب القوة الثبوتيّة لوسيلة إثبات قانونية مع امكانيّة تعرض هذه الوسيلة للتحريف وبالتالي فإن وسيلة إثبات تكون قانونيا أرفع من وسيلة أخرى ومتقدمة عنها في الإثبات إذا كانت نسبة احتمال تدليسها واتلافها أصغر. وبناء على هذا المعيار يقترح بعض المختصين [211] ترتيبا لبعض وسائل الإثبات الحديثة كالتالي : 1 – الهاتف : TELEPHONE 2 – التلكس : TELEX 3 – الفاكس : FAX 4 – الميكروفيلم : MICROFILM 5 – القرص الضوئي الرقمي : Disque optique numérique 6 – التعريف البيولوجي : Identification biologiste 7 – البطاقة المزودة بذاكرة : CARTE A NUMERO وفي نفس السياق وسعيا منه إلى التقليص أكثر ما يمكن من نسبة احتمال التحريف والتّدليس أحاط المشرّع التونسي الوثيقة الإلكترونية بوسائل حمائية تقنية تتماشى وطبيعتها الرقميّة ( الفقرة الأولى ) وأخرى قانونية تؤطر تدخل كل طرف في التعامل بها ( الفقرة الثانية ) الفــــقـــــرة الأولى : تــــقنـــيـــــــــــّّـــــــــا : تتمظهر الحماية الفنية في ثلاثة مستويات من التقنيات تعتبر تقنية التشفير أهمها ( أ ) فهي تتعاضد مع آلية الإختزال ( ب ) وتقنية التجزئة ( ج ) لتحول دون المس من سلامة الوثيقة الإلكترونية وفي نفس الوقت تحقق جميعها متطلبات عالم التجارة من سرعة وسرية وأمان . أ – تقنية التشفير : LA CRYPTOLOGIE « I crypt Therefore I am » [212] " أنا أشفّر ، أنا موجود " تلك أصبحت قاعدة الوجود والبقاء في عالم الأعمال والأموال بل في كل المجالات ففي الأصل استخدمت تقنية التشفير أساسا من طرف الحكومات لغايات عسكرية وأمنية ولم يقع اقحامها في الميدان التجاري إلا بداية من السّبعينات. [213] وقد أورد لها المشرع التونسي تعريفا موحدا في جميع النصوص القانونية المتعلقة بها فهي تعني سواء في إطار ق م ت أ أو في قرار 7 سبتمبر 1997 المتعلق باستعمال الشفرة أو حديثا صلب مجلة الإتصالات الجديدة الصادرة بمقتضى القانون عدد 1 لسنة 2001 المؤرخ في 15 جانفي 2001 واستعمال رموز أو إشارات غير متداولة تصبح بمقتضاها المعلومات المرغوب تمريرها أو إرسالها غير قابلة للفهم من قبل الغير أو استعمال رموز أو اشارات لا يمكن الوصول إلى المعلومة بدونها." وهي بذلك تقنية ، فضلا عن استخدامها للتعريف بالأطراف في إطار الإمضاء الإلكتروني كما قدمنا ، تضمن سرية المعاملات نظرا وأنّه لا يمكن لأي كان غير المرسل إليه أن يطّلع على محتوى الوثيقة وبالتالي تتقلص نسبة احتمال إتلافها أو التغيير فيها وهي نسبة مدعوة إلى مزيد الانحصار في اتجاه الانعدام طالما أن تقنيات التشفير ما انفكت تتطور إلى أن ظهرت الأنظمة الحديثة المعمول بها حاليا : D.E.S [214] ، R.S.A [215] وخاصة P.G.P [216] والتي تعتمد جميعها على إسناد شفرة وأرقام معينة للبيانات بالاستعانة بنظام العدّ العشري l’algorithme وهو ما يعرف بأكثر وضوح بمفاتيح التشفير التي عرّفها الفصل الأول من قرار وزير المواصلات المتعلق بضبط شروط استعمال الشفرة في استغلال الخدمات ذات القيمة المضافة للاتصالات بأنها مجموع الرّموز والإشارات التي تمكن من قراءة المعلومات المشفرة والبرامج والأجهزة المعلوماتية الخاصة بها. وقد أفرز تطور تقنية التشفير نوعين من المفاتيح : مفتاح عام وآخر سري وعليه تعددت الأنظمة فهناك الأنظمة التي تعتمد نفس المفتاح للتشفير ولفكه وتعرف بالتشفير التماثلي Symétrique [217] وهناك من الأنظمة التي تقوم على ثنائية المفاتيح فيقع حل التشفير بغير المفتاح الذي استعمل في ترميز الوثيقة ويعرف بالتشفير اللاتماثلي Asymétrique أو بالتشفير على قاعدة المفتاح العام : cryptologie à clé publique [218] ويعتبر التشفير الاتماثلي هو الرائج في الإستعمال [219]لما يضمنه من سرية وسلامة وفقا لرغبة المتعاملين إذ يمكن للباعث أو المرسل استخدام كلا المفتاحين بحسب الغاية التي يريد تحقيقها فمن المعلوم ، كما أسلفنا ، أنّ لكل مستعمل مفتاح عام يعلمه جميع المتعاملين وآخر خاص لا يمكن لأحد غير صاحبه معرفته فهو سري. وبالتالي فإذا رام المتعاقد التعريف بنفسه واستثبات هويته فقط فيمكنه أن يقوم بتشفير الوثيقة بواسطة مفتاحه الخاص فتصبح غير مقروءة ثم يرسلها على الشبكة فيتلقاها المرسل إليه ويفتحها بواسطة المفتاح العام المعلوم لديه ليعلم حينئذ أن المراسلة جاءت فعلا من الباعث المعني دون غيره ، ويكون ذلك إذا كان زوج مفاتيح التشفير يستخدم في ذات الوقت للتشفير وللإمضاء الكترونيا كما هو الشأن بالنسبة لنظام R.S.A DATA Security [220]. أمّا إذا أراد ، فضلا عن ذلك ضمان سرية الوثيقة الإلكترونية فيمكنه استعمال طريقة التّشفير المزدوج فتشفّر الرّسالة أوّلا بواسطة المفتاح السري للمرسل وهو ما يحقق التعريف به وثانيا بواسطة المفتاح العام للمرسل إليه فتتحقق السرية ذلك أن فتح الرسالة وفك تشفيرها الثاني لا يتم إلاّ بإعمال المفتاح الخاص للمرسل إليه والذي لا يعلمه أحد سواه فإذا ما توصل هذا الأخير بالمراسلة فإنه يفك التشفير الأول بواسطة المفتاح العام للباعث فيتعرف على المرسل ثمّ يفك التشفير الثاني بواسطة مفتاحه هو الخاص فيتعرف على محتوى الرسالة. وقد ظهر اعتمادا على نظام التشفير اللاتماثلي صنفان من بروتكولات الإتصال العالمية : SSL [221] و SET [222]. وسعيا إلى مزيد تدعيم السرية وتعزيز العناصر الأمنية عند تبادل الوثائق الإلكترونية ، ينكب الفنيّون على تحسين وسائل التّشفير الموجودة لاستحداث تقنيات أكثر نجاعة نذكر من بينها تقنيتين لا تزالان بصدد التجربة وهما : نظام التشفير المبني على قاعدة Les courbes elliptiques ونظام التّشفير المعتمد على تقنية Le quanta (Cryptographie quantique ) وهي تقنية تستخدم المعادلات الرياضية والخصائص الضوئية[223] . وأمّا إذا ارتأى المتعامل ضمان سلامة الوثيقة من كل تغيير أو تعريف أثناء مسارها نحو المرسل إليه فيمكنه توظيف استعمال مزدوج للمنظومة السرية للإمضاء ولمنظومة ما يعرف يـ Hachage أو Condensé de message . ب - تقنية الإختزال: Le Hachage ويمكن أن نسميها أيضا بتقنية الإكتناز نظرا للنتيجة التي تؤدي إليها فهي تمكن من تغيير حجم المراسلة إلى شكل صغير يعرف بالبصمة . empreinte التي تتوفر على مواصفات تميّزها عن مثيلاتها فيتولى المرسل إمضاءها وهو ما يعرف بالإمضاء الإصبعي وبوصول المراسلة إلى الطّرف المقابل يمكنه إعادة صياغة البصمة إنطلاقا من المعطيات المتوفرة بالمراسلة فإذا كانت متطابقة تأكد المرسل إليه من سلامة الوثيقة وفي نفس الوقت من هوية المرسل الذي لا يمكنه انكار مراسلته. ولتقوم تقنية الإختزال بهذه الوظائف مجتمعة يجب أن تتوفر في آلياتها جملة من الخصائص يمكن تلخيصها فيما يلي : 1 – يجب أن تكون غير قابلة للرجوع فيها Irréversibles بحيث يكون من المستحيل العثور على المعطيات الأولية التي مكنت من الحصول على المختصر « hash » أو « checksum » أو « Message digest » . 2 – لا يجب أن يكون لكل نص أصلي مختصرا معيّنا بذاته حتّى لا يكون معلوما بصفة مسبقة. 3 – يجب أن يكون من المستحيل العثور على نصين أصليين مختلفين لهما نفس المختصر. 4 – يجب أن تكون العلاقة بين المختزل والمعطيات الأولية احتمالية ( aléatorie)أكثر ما يمكن . 5 – يجب أن يكون تغيير المختزل ، الناتج عن تغيير في المعطيات الأولية ، ولو ببيت (Bits) واحد جذريا أكثر ما يمكن حتّى يمكن التفطّن إليه منذ الوهلة الأولى. 6 – هذه التقنية تسمح بمراقبة السلامة لا بإحداثها فقط. وهناك العديد من الطرق الحسابية الجبرية ( les algorithmes ) المستعملة في الإختزال نذكر من بينها : 1 – آم . دي . 2 وآم . دي .4 (MD2 – MD4) وهما من أقدم أنظمة الإختزال . ويشكوان من عدة نقائص بحيث أن استعمالها غير منصوح به. 2 – آم. دي–5 (MD5) وهو نظام طوّرته R.S.A وهو يسمح باختزال المعطيات عن طريق ارسال سلسلة من 128 بيت وهو مدعو لمزيد التطور [224] 3 – آس. آيش ، آي : S.H.A (Secure Hash Algorithm ) : وهو نظام اختزال مروج من قبل الولايات المتحدة الأمريكية ويرسل 160 بيت.[225] وعموما تسمح جميع هذه الآليات بمعدل قياسي في سرعة الإنجاز فتطبيق الإمضاء على بصمة المعطيات يكون حتما أسرع وأنجع من تطبيقها على كامل النص. وتجدر الإشارة أنّ هذا الدّمج بين منظومتي الإصغاء والإختزال يحقق بدون حاجة إلى تدخل الطرف الثالث الغير الثقة أو الغير المصادق ، جميع الوظائف المطلوبة وهي التعريف : L’identification : عدم الإنكار : La non répudiation وخاصة السلامة L’intégrité التي تتعزّز باستعمال تقنية أخرى لا تقل نجاعة وأهمية ألا وهي التجزئة. ج – تقنية التجزئة : la segmentation وهي تقنية تهدف بدورها إلى حماية مزدوجة للبيانات الإلكترونية أثناء تبادلها. إذ تمكّن من تلافي الأخطاء من ناحية والحماية من كل استعمال غير مشروع من ناحية أخرى. فبعد كتابة الوثيقة وتشفيرها . يمكن تجزئتها إلى موجات La segmentation des ****es en paquets وذلك عن طريق تقسيمها إلى قطع : Des ****es en paquets وذلك عن طريق تقسيمها إلى قطع :
des tronçons ويطلق عليها مصطلح موجات ( Paquets ) وتحتوي كل قطعة على جزء من البيانات يختلف محتواها وطولها عن نظائرها . ولتوفير السلامة القانونية في تبادل البيانات بواسطة هذه التقنية ، تكون كل موجة مسبوقة بعدد من الرموز لمراقبة تجانس مجموع الموجات التي ترسل إلى الطّرف المقابل على دفعات ثمّ يقع تجميعها لدى المرسل إليه وبذلك يكون الفشل مصير كل محاولة تدليس أو قرصنة نظرا وأنّه لا يمكن الحصول إلا على أجزاء مبعثرة من الوثيقة لا رابطة بينها وخالية من كل معنى. ولئن بدت جميع وسائل الحماية التقنية المذكورة أعلاه معقدة ويصعب استيعابها إلاّ أنّ استخدامها بصفة عمليّة لا يتجاوز الضّغط على زرّ معيّن بعد ادخال البرنامج المعلوماتي الخاص بكل تقنية في الحاسوب ويكفي أن ننتظر بعض الأجزاء من الثانية حتى ينجز الغرض المطلوب وتظهر النتيجة على الشاشة . وحتى تحافظ هذه التقنيات على نفس المستوى من النجاعة ، حرص المشرع التونسي على تحميل مستعمليها أو مزوّديها بجملة من الإلتزامات القانونية إذا ما أخلّوا بها ترتّبت مسؤوليتهم القانونية . الفقـــــــــرة الثانيــــــــة : قانونيــــــــــــا : يعتبر القانون في حدّ ذاته ضمانا وحماية نظرا لخصائص القاعدة القانونية : الإلزام ، التجريد والعمومية وتتعزّز هذه الحماية بمحتوى القاعدة نفسها الذي نظّم ، في مجال التجارة الإلكترونية ، الواجبات الأمنية للأطراف المتدخلة فيها في صيغة الوجوب مما يرتب على مخالفتها مسؤولية مدنية ( أ ) قد تعقبها مسؤولية جزائية ( ب ) أ – مدنيا : لقد نظّم المشرّع تدخل أطراف المعاملة التجارية الإلكترونية ( 2 ) كما نظّم تدخل الغير فيها ( 1 ) . 1 – تدخــل الغــــيــر : يتمثل هذا الغير أولا في مزوّد الخدمات ذات القيمة المضافة للإتصالات الذي يمكن من الولوج إلى الشبكة المفتوحة ويؤمّن الإتصال بين المتعاقدين بربط أجهزتهما الطرفية إلكترونيا ( 1 – 1 ) وعندها تبدأ مهمة الغير الثاني ، مزوّد خدمات المصادقة ، الذي يعرّف المتعاملين بعضهم ببعض ويستثبت هوياتهم وعموما يسدي كل خدمة تتعلق بالإمضاء الإلكتروني ( 2 – 1 ) . 1 – 1 – مزوّد الخدمات ذات القيمة المضافة للإتصالات : عرّف الفصل 2 من مجلة الإتصالات الجديدة الصادرة بمقتضى القانون
عـ 1 ـدد لسنة 2001 والمؤرخ في 15 جانفي 2001 ، هذا الصنف من الخدمات بأنّها الخدمات التي توفر للعموم عبر الشبكات العمومية للإتصالات بواسطة منظومة معلوماتية تمكن من النّفاذ إلى معطيات تتعلق بميادين محددة قصد الإطّلاع عليها أو الإطّلاع عليها وتبادلها وتعتبر الأنترنات أهم هذه الخدمات حاليا وعلى هذا الأساس وقع تأطيرها قانونيا بموجب قرار وزير المواصلات المؤرخ في 22 مارس 1997 والمتعلق بالمصادقة على كرّاس الشروط الضابط للشروط الخاصة بوضع واستغلال الخدمات ذات القيمة المضافة للإتصالات من نوع أنترنات وهو لا يزال ساري المفعول بموجب إحالة الفقرة الثانية من الفصل السادس من مجلة الإتصالات الجديدة. وبمراجعة كراس الشروط المذكور تبيّن أنّ استغلال خدمة الأنترنات يخضع إلى الحصول على رخصة من قبل الوزير المكلف بالاتصالات [226] وذلك بعد التحصيل على الموافقة المبدئية من المتدخل العمومي المعني وتجربة التجهيزات الفنية ومراقبة البرامج الأمنية والحصول في شأنها على شهادات تصديق [227]. ولا يمكن اسناد رخصة الإستغلال إلا إلى شخص معنوي مختص يستجيب تكوينه إلى الشروط القانونية . ويظل تحت إشراف المتدخل العمومي المعني فيوفيه شهريا بقائمة محيّنة في أسماء المشتركين ويلتزم بالمحافظة على سريّة كل المعلومات المتعلقة بالحياة الخاصة لمشتركيه بحيث لا يمكنه تقديمها إلاّ في الحالات المنصوص عليها في القانون. كما يجب عليه تطوير وإيواء صفحات وموزّعي واب في أنظمته ويعيّن للغرض مديرا يكون مسؤولا عن محتوى عن هذه الأخيرة وفي نفس الإطار يجب على هذا المدير المحافظة تحت مسؤوليته الخاصة على نسخة من محتوى الصفحات ومن الموزعين الذين قام بإيوائهم وذلك في شكل وثائق مكتوبة وهي وسائط مغناطيسيّة لمدّة سنة بداية من تاريخ توقف إرسالها[228] وهو التزام من شأنه أن يفتح الآفاق لحلّ مسألة الحفظ ولكن بصفة وقتيّة باعتبار أنّ أجل الحفظ محدّد بسنة فقط وبذلك لا يعتبر حلاّ جذريّا. وعملا بأحكام الفصل 10 من كرّاس الشروط يتحمّل مزوّد الخدمات حسب صيغ العقود المبرمة مع المشتركين بواجب ضمان دوام الخدمة وتشغيل الأجهزة والبرامج المعلوماتية المرتبطة وهو بند أوجب ذات الفصل التنصيص عليه في عقد الخدمة وبالتالي فإنّه لا يمكن إدراج بنود أخرى تعفي من هذا الواجب صلب العقد إذ في صورة الإخلال بواجب الضّمان هذا تقوم مسؤوليّة مزوّد الخدمة المدينة فتجوز مساءلته عن انقطاع الشبكة أو عطب آليّات الاستقبال ومطالبته بالتعويض عن الضّرر الحاصل الذي يخضع تقديره الى حجم المعاملات التّجاريّة ونوعها طبقا للأحكام العامّة للمسؤوليّة المدنيّة. ويميّز رجال القانون[229] بين أصناف من المتدخّلين وذلك لتحديد المسؤوليّات فنجد : - المتدخّل العمومي : L’opérateur public de télécommunications وهو كل شخص معنوي متحصّل على لزمة لاستغلال شبكة عموميّة للاتصالات. فكلّ مستعمل للأنترنات L’internaute يجب أن يكون له اشتراك هاتفي مع هذا المتدخّل العمومي. أمّا مزوّدي الدّخول والخدمات فتربطهم بهذا المشغّل عقود تزويد بخطوط خاصّة ويتمثّل التزام مشغّل شبكة الإتّصالات في نقل المعلومة ومن ثمّ يمكن مساءلته تعاقديّا في حال أخلّ أو قصّر في التزامه ذاك غير أنّ مسؤوليتّة التعاقديّة يمكن تحديدها بموجب إتّفاق مع مزوّد الدّخول أو الخدمة[230]. - مزوّد الإيواء : Le fournisseur d’hébergement وهو مزوّد خدمة خزن وتصرّف في المحتوى بما يمكن معه لمزوّد المعلومة من جعل المعلومات في متناول العموم على الأنترنات ويتّفق غالبيّة الفقه أنّه ولئن لا يمكن مساءلة مزوّد الإيواء عن المحتوى المعلوماتي إذ أنّهم مزوّدون تقنيّون لا علاقة لهم بالمحتوى، فإن مسؤوليّته التعاقديّة تقوم في صورة عدم تنفيذ إلتزامه التّقني بالإيواء أو في حال التنفيذ المعيب. - مزوّد الدّخول : Le fournisseur d’accès وتتمثّل وظيفته الاساسيّة في تمكين العموم عن طريق الإشتراك من الإرتباط بالأنترنات وتختلف درجة مساءلته بحسب درجة إطّلاعه على المعلومة التي يمكّن العموم من الإطّلاع عليها غير أنّه يظلّ مسؤولا تعاقديّا عند حصول عطب في الإرتباط بشبة الأنترنات. 2-1
رد: أريد بحثا حول طرق و وسائل الإثبات في القضاء المدني الجزء الثالث
هيكـــــــل المصادقــــــــــــة : نظّمه قانون المبادلات والتجارة الألكترونية الصّادر في 9 أوت 2000 تحت عدد 83 ضمن بابه الرّابع. ويتمثّل في كلّ شخص طبيعي أو معنوي يتحصّل على ترخيص مسبّق من الوكالة الوطنيّة للمصادقة الألكترونيّة لتعاطي نشاط مزوّد خدمات المصادقة الالكترونيّة. ويعتبر احداث الوكالة الوطنيّة للمصادقة الالكترونيّة أهم مظاهر الحماية القانونيّة وهي مؤسسة عموميّة لا تكتسي صبغة إداريّة، ذات شخصيّة معنويّة واستقلال مادّي وخاضعة في تعاملها الى القانون التّجاري وهي مميّزات يطمئنّ اليها المتعاقد تاجرا كان أو مستهلكا بما أنّها لا ترمي إلى حماية مصالح خاصّة أو إلى تحقيق الارباح بل إنّها سلطة إشراف مراقبة لمزوّدي خدمات المصادقة فهي التي تمنحهم الرّخص وتراقب مدى احترامهم للمواصفات الفنيّة وتسدي بدورها خدمات المصادقة الالكترونيّة ولكن دائرة المنتفعين بخدماتها مقتصرة على الأعوان العموميين المؤهلين للقيام بالمبادلات الألكترونيّة دون غيرهم[231]. وتدعيما لسلطة المراقبة، بغية توفير أكثر ما يمكن من الضّمانات تخضع الوكالة الوطنيّة للمصادقة الألكترونية الى سلطة إشراف الوزارة المكلّفة بالقطاع. وقد وقع تركيز مقرّ لهذه الوكالة الوطنيّة بوزارة المواصلات هي لا تزال بصدد الاستعداد لمباشرة مهامها في انتظار صدور الأمر المنصوص عليه بالفصل 12 من ق-م-ت-أ والذي ستتمّ بمقتضاه المصادقة على كرّاس الشّروط الضابط لشروط إصدار وتسليم وحفظ شهادات المصادقة وللوسائل اللاّزمة لحمايتها من التّقليد والتّدليس والتي يلتزم مزوّد خدمات المصادقة بتوفيرها[232]. كما أوجب القانون على مزوّد خدمات المصادقة تعليق العمل بشهادة المصادقة حالما يتفطّن إلى أنّ المعلومات المضمّنة بها قد تغيّرت أو كانت مغلوطة أو تمّ انتهاك منظومة إحداث الإمضاء أو أن الشهادة استعملت بغرض التّدليس ويتولّى نشر قرار التعليق هذا بالسّجل الألكتروني حتى يطّلع عليه جميع المتعاملين وكذلك الشّأن بالنّسبة لحالات إلغاء الشهادة[233] فيتّخذ قرارا في إلغائها يقع نشره بذات السجل الالكتروني وينتج كلا القرارين آثاره القانونيّة في معارضة الغير وصاحب الشهادة وإذا ما خالف مزوّد خدمات المصادقة واجباته والتزاماته تسحب منه الوكالة الوطنية للمصادقة الالكترونية الرّخصة وتوقف نشاطه ويبقى مسؤولا عن كلّ ضرر حصل لكلّ شخص : [FONT="]- وثق عن حسن نيّة في الضّمانات التي من المفروض أن يقدّمها كضمان صحّة المعلومة المضمّنة بالشّهادة والصّلة بين صاحب الشهادة ومنظومة التدقيق في الإمضاء الخاصة به. [FONT="]- نتيجة عدم تعليق أو إلغاء شهادة المصادقة[234][/FONT] وتجدر الإشارة أن القانون مكّن صاحب الشهادة من الولوج إلى معطياته الشخصيّة وتحيينها كما مكّنه من الإنتفاع بتقنيّات موثوق بها يضعها مزوّد خدمات المصادقة على ذمّته لتقديم مطلبه لتعديل المعلومات الخاصّة به أو فسخها مع الاحتفاظ بحق طلب تعليق أو إلغاء شهادة المصادقة فإذا كانت تلك حقوقه فما هي إذن واجباته والتزاماته ؟ 2 – المستعــمــل : L’internaute
وهو بصفة عامّة كلّ شخص طبيعي أو معنوي يرتبط بشبكة الأنترنات بغرض الحصول على المعلومات أو إيذاعها فكما يمكن أن تكون مستهلكا سلبيّا يمكن أن يكون مزوّد محتوى معلوماتيّ. وقد مكّنه الفصل 2 من قرار وزير المواصلات المؤرّخ في 9 سبتمبر 1997 والمتعلّق بضبط شروط استعمال في استغلال الخدمات ذات القيمة المضافة من استغلال الشفرة وذلك بعد الحصول على رخصة في الغرض من قبل الوزير المكلّف بالمواصلات الذي يبقى له حقّ سحبها إذا اقتضت ذلك حاجيات الدّفاع أو الأمن الوطني. كما يظلّ المستعمل المنتفع بشهادة مصادقة المسؤول الوحيد عن سريّة وسلامة منظومة إحداث الإمضاء الخاصة به وقد أقر المشرع قرينة قانونية صلب الفصل 21 من ق-م-ت-أ مفادها أنّ كلّ استعمال لمنظومة الإمضاء يعتبر صادرا عن صاحب الشهادة فيعفى الطّرف المقابل في حال نشوب نزاع من إثبات صدور الإمضاء عن شخص صاحبه، فضلا عن أنّ صاحب الشّهادة التي تمّ تعليقها أو إلغاؤها لا يمكنه استعمال عناصر التشفير الشّخصيّة للإمضاء موضوع الشهادة المعنية مجدّدا ولا يمكن مساءلة مزوّد خدمات المصادقة عن الضّرر النّاتج عن عدم احترام صاحب الشهادة لشروط استعمالها أو شروط إحداث إمضائه الألكتروني. وإذا كانت الدّعاوى المدنيّة اختياريّة وملك للمتضرّر يمكنه طرحها وإيقاف إجراءاتها متى شاء، فإنّ الدّعاوى العموميّة يملكها المجتمع بأسره ولا يمكن التّنازل فيها عن الحق العام ممّا يعزّز رصيد الحماية القانونيّة بارساء جانب زجريّ ردعيّ. ب – جزائيّا :
وسنعتمد نفس التقسيم الثّنائي السالف الذّكر لنتعرّض إلى زجر الغير عن المعاملة (1) قبل التطرّق إلى ردع طرفيها (2). 1 – الغــيـر :
ونميّز بين الغير القانوني المعترف به قانونا وبتدخّله قانونا في مسار المعاملة (1–1) والغير المتطفّل(1–2). 1 – 1- الغير القانونــــي :
ويتمثّل أساسا في هيكل المصادقة الذي يجد نفسه في صورة إخلاله بواجباته معرّضا لعقوبات جزائيّة تتراوح بين السّجن والخطيّة أو الإثنين معا فمخالفة مقتضيات كرّاس الشّروط المتعلّق بشروط إصدار، تسليم وحفظ شهادة المصادقة تترتّب عنها خطيّة بين ألف وعشرة آلاف دينارا ويضاف إليها عقاب سالب للحريّة لمدّة تتراوح بين شهرين وثلاث سنوات إذا وقعت ممارسة نشاط مزوّد خدمات المصادقة دون التحصيل على رخصة في الغرض وللمحكمة السّلطة التقديريّة في توقيع إحدى العقوبتين[235]. وقد أحال الفصل 52 من ق-م-ت-أ على الفصل 254 من المجلّة الجنائية في خصوص زجر مزوّد خدمات المصادقة الإلكترونية وأعوانه الّذين يفشون أو يحثّون أو يشاركون في إفشاء المعلومات التي عهدت إليهم في إطار تعاطي نشاطاتهم ما لم يكن ذلك بموافقة صاحب الشهادة الكتابيّة. وبالرّجوع إلى الفصل 254 م-ج، تصل العقوبة البدنية إلى 6 أشهر سجنا بينما تقدر العقوبة المالية بـ 500 فرنك . وسعيا منه الى ضمان حدّ أدنى من الإستقرار والإستمراريّة في المعاملات الالكترونيّة، أقرّ المشرّع بالفصل 53 من ق.م.ت.أ. إمكانية لإجراء الصّلح بالنّسبة للعقوبات الماليّة المستوجبة في مخالفة كرّاس شروط شهادة المصادقة إذ بدفع المبلغ المعيّن يعقد الصّلح فتنقرض الدّعوى العموميّة إلاّ أنّه تحفظ حقوق المتضرّرين المدنيّة وهو حلّ! لم يعمّمه المشرّع على بقيّة المخالفات كتعاطي النّشاط بدون رخصة لأنّ ما بني على باطل فهو باطل ولا مجال لاستبقائه. 1-2- الغـــير المتطفّـــــــل : ونقصد به كل طرف غريب عن المعاملة ولم يعهد له المشرّع بمهمّة فيها بصفة مباشرة أو غير مباشرة وهم بدون شك القراصنة، قراصنة الإعلاميّة وقد تصدّى لهم المشرّع سواء في بعض النّصوص المتفرّقة أو في المجلّة الجنائيّة ففي إطار ق-م-ت-أ أنصّ الفصل 48 منه أنّ كلّ من يستعمل بصفة غير مشروعة[236] عناصر تشفير شخصيّة متعلّقة بإمضاء غيره بالسّجن لمدّة تترواح بين 6 أشهر وعامين وبخطيّة تترواح بين 1.000 و 10.000 دينارا أو بإحدى هاتين العقوبتين. وفي نفس الإطار حرّم الفصل 87 من مجلّة الإتصالات الجديدة أعمال الإستعمال أو الصّنع أو الاستيراد أو التّصدير أو البيع أو الحيازة لأجل البيع لوسائل أو خدمات تشفير بدون مراعاة أحكام الامر الذي نظّمها فضلا عن التغيير فيها أو إتلافها وجميعها تجعل مرتكبها مستحقا للسّجن لمدّة تتراوح بين 6 أشهر و5 سنوات ولخطيّة من 1.000 إلى 5.000 دينارا أو بإحدى هاتين العقوبتين وتندرج جميع هذه الأعمال المجرّمة في إطار ما يعرف بالجنوح المعلوماتيّ المتنزّل بدوره في إطار الجرائم المعلوماتيّة، صنف جديد من الجرائم نظمه المشرّع بمقتضى القانون عدد 89 لسنة 1999 المؤرّخ في 02 أوت 1999 والمتعلّق بتنقيح وإتمام بعض الأحكام من المجلّة الجنائيّة وبموجبه أقرّ جملة من العقوبات تخلق بحسب خطورة الجرم المقترف وذلك للتوقّي من جهة ولردع كل تلاعب بالمعطيات والأنظمة المعلوماتيّة أو الإلكترونية فالنّفاذ إلى النّظام المعلوماتي أو البقاء فيه بدون وجه شرعي يجعل مرتكبه مستهدفا إلى عقاب بالسّجن من شهرين إلى عام وبخطيّة قدرها ألف دينارا أو بإحدى العقوبتين ويرتفع العقاب البدني إلى عامين والمالي إلى ألفي دينار إذا نتج عن الفصل الأول إفساد أو تدمير البيانات المعلوماتيّة ويتواصل التشديد في العقوبتين بحسب توفّر ركن القصد والعمد في الإتلاف لتبلغا ثلاث سنوات سجنا وثلاثة آلاف دينارا. أما من يتعمّد إدخال بيانات بنظام معالجة معلوماتيّة بصفة غير شرعيّة من شأنها إفساد محتوى هذا النّظام فيعاقب بالسّجن مدّة خمسة أعوام وبخطيّة قدرها خمسة آلاف دينارا ويعتبر إرتكاب هذه الجريمة أثناء مباشرة النّشاط المهني ظرف تشديد يجعل العقوبة تتضاعف[237]. وفي هذا الإطار أصدرت المحكمة الابتدائية بليون حكما في 20 فيفري 2001 قاضيا بتسليط عقوبة بدنية لمدة 8 أشهر سجنا وعقوبة مالية بـ 20.000 فرنك على عامل سابق لشركة تدعى E. Claranet ، قام بعد مغادرته لعمله لدى هذه الأخيرة وانطلاقا من جهاز الحاسوب المتوفر لديه بمقر عمله الجديد ، بارسال كمّ هائل من البريد الالكتروني الشّاغر في اتجاه النظام المعلوماتي الخاص بمؤجرته السابقة Sté claranet مما أدى إلى افساده [238] كما نظّم المشرّع جريمة التدليس المعلوماتي وأخذ فيها بعين الإعتبار طبيعة الأفعال المرتكبة وصفة مقترفها فإذا كانت من قبيل التغيير في محتوى وثيقة الكترونيّة اصلها صحيح، تغييرا حصل بمقتضاه ضرر للغير، فإنّ العقوبة المستوجبة تكون عامان سجنا وخطيّة قدرها ألفا دينارا ويتضاعف العقاب إذا كان مرتكبها موظّف عمومي أو شبهه[239] وهي صفة تجعل حاملها عرضة إلى السجن بقيّة العمر وإلى خطيّة قدرها ألف دينارا إذا ارتكب أثناء مباشرة وظيفه زورا من شأنه إحداث ضرر عام أو خاص وذلك بصنع وثيقة مكذوبة أو تغيير متعمّد للحقيقة بأيّ وسيلة كانت في كلّ سند سواء كان ماديّا أو غير مادّي من وثيقة معلوماتيّة أو ألكترونيّة وميكروفيلم وميكروفيش ويكون موضوعه إثبات حقّ أو واقعة منتجة لأثار قانونيّة[240]. ولا حاجة إلى انتظار تحقّق النتيجة الإجراميّة وحصول التّلف والتّدمير في البرامج المعلوماتيّة لإثارة الدّعوى العموميّة ذلك أنّ مجرّد المحاولة موجبة للعقاب[241]. 2 – المتعاقـــد :
إنّ المتعاقد الإفتراضي، صاحب إمضاء إلكتروني، مدعوّ إلى التحلّي بالثّقة والنّزاهة لأنّهما عماد وأساس تطوّر المعاملات التجارية وتزداد أهميّتهما في العالم اللاّماديّ حيث يعوّل المتعاملون على ثقتهم في بعضهم البعض. وفي صورة تعمّد الإخلال بهذا الواجب الأدبي والقانوني في ذات الوقت يعرّض المتعاقد نفسه للمساءلة الجزائيّة فإذا ما صرّح عمدا بمعطيات خاطئة لمزوّد خدمات المصادقة الإلكترونية وهي المعطيات التي سيصدر على أساسها هذا الأخير شهادة المصادقة بكلّ ما تمثّله من ثقة في إمضائه وفي هويّته المعرّف بها لديه فإنّه يستهدف لعقاب بدني يتراوح بين 6 أشهر وعامين وآخر ماليّ يتراوح بين 1000 و10.000 دينارا وللمحكمة مطلق الاجتهاد في تطبيق إحدى هاتين العقوبتين[242]. ولئن تظلّ الجرائم المنصوص عليها بالمجلّة الجنائيّة خاضعة إلى النّظام العام للتتبّع فإنّ المخالفات الدّاخلة في إطار قانون المبادلات والتّجارة الالكترونيّة يختصّ بمعاينتهما، فضلا عن أعوان الضابطة العدليّة، الأعوان المحلّفين للوزارة المكلّفة بالاتصالات والوكالة الوطنيّة للمصادقة الالكترونيّة وأعوان المراقبة الاقتصادية وهو اختصاص شامل يتابع الوثيقة الإلكترونية منذ نشأتها وإمضاءها مرورا باستخدامها في المعاملات التّجاريّة وتضمينها التزامات تعاقديّة وانتهاء بتنفيذها. يتبع .....الفرع الثاني : إثبات تنفيذ الالتزامات :[/FONT]
لا يخرج إثبات تنفيذ الالتزامات الإلكترونية عن إطار إثبات وجود الالتزامات ذاتها ذلك أنّ وسيلة الإثبات الأولى هي الوثيقة الإلكترونية باعتبارها وسيلة الإثبات الوحيدة المنسجمة وطبيعة العالم اللاّماديّ، ويمكن للوثيقة الإلكترونية أن تتخذ عدّة أشكال قانونيّة بحسب استعمالاتها فتكون إيصال تسليم إلكتروني أو فاتورة إلكترونية أو أمرا بالدّفع أو اعترافا بخلاص الذمّة أو حتى ورقة تجاريّة كالكمبيالة... إلخ، وجميعها يمكن أن يقوم دليلا على حصول الوفاء بالتزام بالقيام بعمل (المبحث الأوّل) أو بأداء مال (المبحث الثاني). المبحث الأوّل : الوفاء بالتزام القيام بعمل
لا يختلف موضوع الالتزام بالقيام بعمل عبر شبكة الأنترنات عن ذاك المتّفق عليه في العالم المادي إذ يمكن أن يتمثّل في تسليم بضائع أو معدّات أو في القيام بخدمة[243] وعليه ينفّذ الالتزام إمّا خارج شبكة الأنترنات
« Hors réseau » [244] بالنّسبة للنّوع الأول أو عبر شبكة الأنترنات
« via le réseau » [245] بالنسبة لبعض الخدمات كحجز غرفة في نزل أو عمليّة تحيين أو إعداد موقع واب على الشّبكة أو إعداد ومضة إشهاريّة أو دراسة للسوق أو مخطّط أو تقديم استشارات قانونيّة وعموما يمكن القول أن جميع الخدمات التي يكون موضوعها قابلا للتنفيذ عبر شبكة الانترنات (نصّ، صورة،...إلخ) يتمّ تنفيذها اللاّمادي عن طريق إرسال وثيقة الى المرسل اليه الحريف وذلك بمجرّد الضّغط على زرّ يترتّب عنه التسليم الآلي لموضوع البيع كما في صورة اقتناء برنامج معلوماتي عن طريق الأنترنات ففي هذه الحالة يوجّه للمعاقد، الذي قبل الإيجاب الصادر عن صاحب موقع الواب المتضمّن لعرض البيع، مفتاح سرّي يتمثّل في مجموعة من الرّموز والأرقام والأحرف يقوم بإدخالها في موضع معيّن من صفحة الواب المعروفة على شاشة حاسوبه ثمّ يضغط على زرّ الموافقة وهو ما يترتّب عنه حينا توجيه البرنامج المعلوماتي اليه عن طريق إرسال إشارات الكترونيّة عبر خطوط الهاتف إلى حاسوبه تتجمّع بصفة آليّة عند نهاية الإرسال ثم تركّز بالقرص الثابت وينطلق تشغيلها بمجرّد الضغط على زرّ معيّن. وأمّا تنفيذ الالتزام خارج شبكة الأنترنات كتسليم المعدّات مثلا لا يطرح إشكالا جوهريّا باعتباره يخضع للقواعد العامّة العاديّة وخاصّة فيما يتعلّق بتحمّل التّبعات ومخاطر نقل الاشياء سواء عبر شبكة الأنترنات أو خارجها. وقد نظّم المشرّع، صلب الباب الخامس من ق-م-ت-أ تحت عنوان "في المعاملات التجاريّة الألكترونيّة"، الإطار العام "لإبرام العقود التّجارية الألكترونية وتنفيذها[246] وأحاط المستهلك بجملة من الضّمانات لعلّ أهمّها يتمثّل في حقّ العدول عن الشّراء في أجل عشرة أيّام حدّد الفصل 30 ق-م-ت-أ بداية احتسابها بحسب موضوع الالتزام[247] ورتب على هذا الحقّ جملة من الآثار كإرجاع البضاعة وردّ الثمن، كل ذلك في آجال مضبوطة ومن ثمّ تبرز أهميّة التاريخ في التّعامل اللاماديّ. فتحديد التّاريخ في العمل القانوني يمثّل تنصيصا جوهريّا[248] فضلا عن أن تاريخ إبرام العقد يحدّد نقطة بداية آثاره علاوة عن كون العنصر الزّمني يؤثّر على الحقّ عندما يتعلق الأمر بتحديد أجل ما[249] العدول عن شراء المومأ إليه أعلاه. فالمبدأ في الحجة غير الرسميّة أنّ تاريخ الكتب ومحتواه يقومان حجّة بين طرفيه إلى أن يثبت خلاف ذلك[250]. إلاّ أنّه في المادة الإعلاميّة لا يحمل التاريخ المحدد على الوثيقة أي ضمان فمن السّهل على المستعمل أن يغيّر تاريخ ساعة حاسوبه الدّاخليّة ويزداد الإشكال تعقيدا على شبكة الأنترنات لأنّ مختلف أجهزة الحاسوب المشاركة في عمليّة اتّصال أو في معاملة ما يمكن أن تحمل تواريخ مختلفة وجدّ متباعدة وبالتالي تتدعّم الحاجة إلى اللّجوء إلى تاريخ مصادق عليه « Une date certifiée » يقع ضبطه بطريقة محايدة يطمئنّ إليها المتعاقدون ويعارض بها الغير وللفرض وجدت عدّة بروتكولات تسمح بمراجعة دائمة وحينيّة للمواقيت (Synchronisation permanente) وذلك بربط الخادم (Serveur) بساعات مرجعيّة (Horloges de référence)[251] ومن ثم يكون المتعاملون عبر شبكة الانترنات في أمسّ الحاجة الى غير موقت أو مؤرّخ Un tiers d’horodatage يضمن تاريخا صحيحا وثابتا للوثيقة الألكترونيّة سواء كانت عقدا أو فاتورة أو وصلا يحتج به بين الطرفين ويكون نقطة لاحتساب بقية الآجال ويمكن لهذا الغير أن يكون طرفا رابعا في المعاملة بعد المتعاقدين وهيكل المصادقة كما يمكن لهذا الأخير أن يقوم بوظيفة التوقيت وهو الحلّ الأنجع حتى لا يتزايد عدد المتدخّلين وبالتالي تتشتّت المعاملة وتنقص ضماناتها[252] ومن المعلوم أنّ العقد يقوم على نظريّة تبادل الإلتزامات فالتزام بالقيام بعمل يقابله عادة التزام بدفع المقابل الذي يكون في الغالب مالا. المبحث الثاني : الوفاء بالتزام ماليّ :
يعتبر الدّفع الألكتروني (Le télépaiement) أهمّ التزام ينفّذ بواسطته العقد الالكتروني ويعدّ نقص الثّقة في المعاملات الالكترونيّة السبب الرئيسي للصّعوبات التي تعترض الشركات المستثمرة في البيع عن بعد إذ أصبح الدّفع عن طريق رقم سلسلة بطاقة الإعتماد (Carte de crédit) يقلق المستهلكين لأسباب ثلاثة : [FONT="]- خطر القرصنة.[/FONT] [FONT="]- استحالة التأكّد من هويّة الأطراف.[/FONT] [FONT="]- إمكانية التشكيك في أمر تحويل مبلغ مالي.[/FONT] ولذلك كان لزاما مواكبة لتطوّر المعاملات توفير أكبر حد ممكن من الضّمانات التي تأخذ بعين الإعتبار : [FONT="]- عالميّة المبادلات L’internationalisation des échanges[/FONT] [FONT="]- خاصيّة المحيط الإعلامي :L’environnement informatique وتمثل في إمكانية التعرض إلى حادث تقني أو حصول عطب في الأجهزة .[/FONT] [FONT="]- حماية مصالح العملاء :La protection des intérêts des acteurs د[/FONT] وتتمثّل أساسا في الأمان Sécurité، الخفاء L’anonymat ورفاهية الاستعمال Le confort d’utilisation وذلك عن طريق خلق طرق جديدة للخلاص عبر شبكة الأنترنات سواء من خلال ملاءمة وسائل الدفع التقليدية للواقع اللامادي (الفقرة الأولى) أو عن طريق استحداث وسائل دفع جديدة لم تكن موجودة من قبل (الفقرة الثانية). الفقرة الأولى : ملاءمة وسائل الدّفع التقليدية :
وتتمّ هذه الملاءمة من خلال تدخّل طرف وسيط يؤمّن إجراءات الخلاص بين المتعاملين إلكترونيا سواء باستخدام البطاقة الزّرقاء أو بطاقة الإعتماد البنكي (أ) أو باستعمال الشيكات الإلكترونية (ب). أ – الدّفع باستعمال بطاقة الإعتماد :
ويجد له العديد من الأنظمة 1- السّيولة الإفتراضيّة : Cyber cash[253]
تسلك عمليّة الدّفع المسار التّالي : على الحريف أن يسجّل رقم بطاقة اعتماده ويضع إمضاءه الالكتروني على فاتورة التّاجر، كلّ ذلك باستخدام برمجيّة إعلاميّة خاصة Logiciel توفّرها Cyber Cash ثم يقع إرجاع الفاتورة الى التّاجر الذي يضيف بيانات تتعلّق بعمليّة البيع ويحلّيها بإمضائه ويرسلها الى خادم Cyber Cash. وبعد أن يتأكّد هذا الأخير من أن الطرفين قد إتّفقا فعلا على نفس المحتوى (Authentification des parties et du contenu)، يرسل جيمع المعلومات إلى أحد البنوك الذي يقوم بإتمام عمليّة تحويل المال ثم يبعث بكشف في العمليّة الى Cyber Cash التي تعلم بدورها الطرفين 2 - نظام Kleline :
وهي شركة فرنسيّة تؤدّي نفس الدّور الذي تقوم به Cyber Cash الأمريكيّة لكن باستخدام برمجيّة تدعى Kleboxe. 3 - نظـــــام First virtual :
يقتضي هذا النّظام أيضا أن يكون كلاّ من التّاجر والحريف مسجّلين لدى First virtual. يدخل الحريف في اتّصال هاتفي مع الخادم السّمعي لـFirst virtual ويعلن عن رقم بطاقته البنكيّة ليحصل بدله على رقم للتعريف الشّخصي (معرّف وحيد) يرسل به إلى معاقده فيتولّى هذا الأخير إرجاعه مصحوبا بأمر الدّفع إلى شركة First virtual التي بعد أن تطلب من الحريف تاكيد عمليّة الشّراء، تبعث بجميع المعطيات الى الشّبكة البنكيّة حيث يتم تحويل المبلغ من حساب الحريف الى حساب First virtual الذي يتولّى خلاص التّاجر. وتكمن ميزة هذا النّظام في أنّه لا يستدعي استعمال أيّة برمجيّة معلوماتيّة خاصّة أو تقنيّة التشفير فالشركة الوسيطة هي التي تضمن السريّة والخلاص. 4 - بروتكول Set :Secure Electronic Transaction
يجمع هذا البروتكول بين خصائص كلّ من بروتكول (Secure Transaction Technology STT) وبروتكول (Secure Electronic Payment Protocole SEPP) المنجزين من قبل عدّة شركات نذكر منها، Visa, Nets cape, Microsoft, Mastercard وهو بروتكول مرتبط باستعمال بطاقة الاعتماد ويعتمد على تقنيّة التشفير بنوعيه التماثلي واللاّتماثلي ويضمن السريّة والامان في الدّفع عبر شبكة الأنترنات وهو على عكس بروتكول (Secure Socket layer) SSL يمكن من التعرّف واستثبات هويّة الحريف ممّا يضمن عدم إنكاره للمعاملة بحضور طرف ثالث لتصبح العلاقة بين الحريف والتاجر وسلطة المصادقة الوسيطة وقد تم إعتماد هذا البروتوكول من قبل شركة Cyber Cash مع الإشارة إلى أن هذا البروتكول كان المنطلق لإحداث نظام جديد للدفع الالكتروني « C-SET » تبنّاه مجمّع فرنسا للبطاقات البنكيّة. وتتمّ عمليّات التعريف والاستثبات والسّلامة والخزن على مستوى La puce électronique التي تحتويها البطاقات البنكيّة الفرنسيّة فلا مجال لخروج أيّة معلومة سريّة من الشبكة لكنّ هذا النّظام يتطلّب شراء قارئ للبطاقة « Lecteur de carte » موجّه لتنفيذ جميع هذه العمليّات. ب- الشيكات الالكترونيّة : ونجد لها تطبيقين : 1- شيك FSTC (Financial Services Technology Consortium) وهو يشبه إلى حدّ بعيد نظيره الورقي فالحريف يمكنه الحصول على دفتر شيكات ألكترونيّة FSTC التي تسلّم عبر موقع واب أو عن طريق البريد الالكتروني ويستعاض فيها عن الإمضاء اليدوي بالإمضاء الالكترويني وهو وسيلة دفع تجمع بين الامان وسهولة الإستعمال. 2- Netchex : وهو نظام يستدعي تدخّل شركة وسيطة على التّاجر والحريف الإنخراط فيها يسمح Netchex للحريف بالتصرّف في شيكاته من وراء حاسوبه الخاص فقبل كلّ عمليّة تجاريّة على الأنترنات يقوم النّظام الأمنيّ لـ Netchex باستبدال المعطيات السريّة لحساب الحريف بحساب مصطنع (un compte factice : shadow
account) يسمح بالتّعريف بالمستهلك وبعد استكمال بياناته يرسل الشيك الالكتروني إلى نظام Netchex حيث يتمّ استثباته بالرّجوع إلى المعطيات الخاصّة بطرفيه فيقع تعويض الحساب المصطنع بالمعطيات الحقيقيّة المتعلّقة بحسابي المستهلك والتّاجر. وفي مرحلة لاحقة، يقع إرسال المعاملة عبر شبكة خاصة إلى النّظام البنكي لتطبّق نفس القواعد البنكيّة التقليديّة في تحويل مبلغ ماليّ كما لو كنّا بصدد شيك ورقي وفي النّهاية يتلقّى المستهلك عن طريق البريد الإلكتروني إفادة عن العمليّة تتضمّن رقم الشيك ومبلغ المعاملة[254]. وتجدر الإشارة أنّ هذه التطبيقات لم توجد بعد في المحيط التجاري التونسي فالتجارة الإلكترونية لا تزال في بداياتها كما أنّ القانون التونسي لم يشرّع لهذا الصّنف من الشيكات بل حافظ على الشيك الورقي بكلّ بياناته وشكليّاته وإكتفى بتطوير آليّات خلاصه عن طريق إرساء المقاصة الألكترونيّة وهو نظام يسمح "باختصار فترة تنفيذ عمليّات المقاصّة التي لا تتجاوز يومي عمل بعد تاريخ العمليّة وضمان منافسة القطاع البنكي[255]". وأحدث للغرض مركز التّقاصّ الألكتروني ليتولّى إدارة النّظام المركزي للتّقاص الألكتروني بين المصارف[256] وإدارة ومراقبة الرّسائل الألكترونيّة فيما بينها وإدارة الارشفة الالكترونية لوسائل الدّفع التي تمّت مقاصّتها وأرشفة الرّسائل وعمل نظام التّقاص الألكتروني وجعلها آمنة. ويعني التقاصّ الألكتروني بكلّ وسائل الدّفع التي تقبل التقاصّ وهي الحوالات، السّحوبات، الشيكات والدّفع لأجل[257]. وقد قنّن المشرّع التونسي هذا التوجّه بمقتضى القانون عدد 61 لسنة 2000 المؤرخ في 20 جوان 2000 والمتعلق بتنقيح وإتمام بعض الفصول من المجلة التجارية بأن نصّ بالفقرة الأخيرة من الفصل 294 م ت أنّه "إذا عرضت الكمبيالة على حجرة مقاصّة أو بواسطة نظام إلكتروني للتّبادل المعلوماتي تقع بموجبه الاستعاضة عن العرض المادي للكمبيالة فإنّ ذلك يعدّ بمثابة عرضها للدّفع" كما نصّ الفصل 373 من ذات المجلّة أنّه : "إذا عرض الشّيك على حجرة مقاصّة أو بواسطة نظام إلكتروني للتّبادل المعلوماتي تقع بموجبه الاستعاضة عن العرض المادّي للشيك فإنّ ذلك يعدّ بمثابة عرضه للأداء."[258] الفقرة الثانية : استحداث وسائل دفع جديدة تتمثّل هذه الوسائل أساسا في حافظة النّقود الإلكترونية وحافظة النّقود الافتراضية وفي النّقود الإلكترونية. أ- حافظة النّقود الإلكترونية : Porte monnaie électronique وتتمثّل في بطاقة دفع خالصة بصفة مسبقة Carte de paiement prépayée بحيث يتمّ خزن مؤونة ماليّة على microprocesseurخاصّ بتلك البطاقة وتعد بطاقة Mondex المثال المجسّم لها ويضمن هذا النّظام بالتبادل المباشر للنّقود الألكترونية بين البطاقات فكلّ استعمال ينتج عنه إمضاء إلكتروني يمكّن من استثبات بطاقات Mondex[259]. ب- حافظة النّقود الافتراضيّة : Porte monnaie virtuel وتعتمد هذه الوسيلة على قرص الحاسوب الثابت (le disque dur de l’ordinateur) ولفهم هذه التقنيّة نتخذ مثال شركة Digicash الإيرلنديّة والواقع تاسيسها سنة 1990[260]. يجب على التّاجر والحريف أن يكونا مسجلين بها ومن ثم يمكن للمستهلك أن يسحب وحدات نقديّة (Ecash) من مؤسّسة الماليّة ويخزّنها على قرص حاسوبه الثابت في برمجيّة معلوماتيّة خاصّة (cyber wallet) ويتمّ السّحب بالاستعانة برقم المعرّف الوحيد وتحتوي البرمجيّة على دالّة جبريّة تسمح بإنتاج مئات من الارقام تمثّل المادّة الأوّليّة للوحدات النقديّة ويقوم الحريف بإرسالها إلى بنكه الذي يصادق عليها عن طريق إضافة سلسلة من الأرقام ومجموع هذه الأرقام يمثّل مبلغا ماليّا معيّنا يسحبه البنك من حساب المستهلك قبل أن يرجع اليه وحدات الدّفع وتعرف هذه التقنيّة بميزة الإمضاء الكفيف La signature aveugle ذلك أنّ البنك يتحقّق من صحّة الوحدات دون أن يتعرّف على مصدّرها وبالتالي يستخدم المستهلك E-Cash وكأنّه يستعمل النّقود الورقيّة أي بطريقة خفيّة من منظور المؤسّسة البنكيّة وللتّاجر أن يطلب تحويل E-Cash إلى نقود أو إيداعها في حسابه الخاص. ج- النّقود الالكترونيّة : Les jetons électroniques ou E-monnaie وبفضلها يتمّ الدّفع بدون اللّجوء إلى وسيط ماليّ فالوحدات النقديّة يقع تداولها مباشرة بين الخواص في شكل إلكتروني وبصورة خفيّة (أي دون الكشف عن مصدرها) كما هو الشأن بالنسبة للنّقود الورقيّة العاديّة وهي الوسيلة الوحيدة التي يصحّ عليها تسمية النّقود الإلكترونية[261]. وقد دخلت البلاد التونسيّة تجربة النّقود الإلكترونية عن طريق بطاقة الدينار الإلكتروني S-Dinar وهي عبارة عن حساب افتراضي (Compte virtuel)[262] يتمّ تزويده عند الحاجة أو في صورة استهلاك الرصيد بواسطة اقتناء بطاقات تزويد (carte de rechange) ذات قيم نقديّة مختلفة (20 دينارا – 30 دينارا و50 دينار) تحتوي على رقم سرّي يكتشفه المستعمل بإزالة المادّة الحاجية التي تغطيه وتمكّن هذه العملة الإفتراضية المتميّزة بسهولة الإستعمال وبدرجة عالية من التأمين من إنجاز عمليّات خلاص المشتريات وتسديد المعاليم بالعملة الوطنيّة على مستوى مختلف الأروقة التّجاريّة الإفتراضيّة ومواقع تقديم الخدمات الإداريّة عن بعد. ويستعمل الدّينار الألكتروني بطريقة سهلة للغاية إذ يكفي القيام بما يلي : [FONT="]- إدخال رقم البطاقة[/FONT] [FONT="]- إدخال الرقم السرّي[/FONT] [FONT="]- الإجابة عن سؤال "الأمارة" المطروح من قبل المستعمل قبل تنشيط البطاقة والذي يمكن تغييره متى رغب هذا الأخير في ذلك[263] كانت هذه أبرز وسائل الدّفع الألكتروني وبقي أن نشير إلى بعض المسائل في إثبات حصول هذا الدّفع ونفرّق هنا بين صنفين من العلاقات : البنك والحريف، الحريف والتّاجر ففي علاقته مع المزوّد (التاجر) يتحمّل الحريف عبء إثبات الخلاص كأن يستعنين بالكشوفات الشّهريّة التي يعدّها ويحيلها إليه الوسيط في المعاملة حسب أنظمة الدّفع كما سلف تقديمها (يكون الوسيط إمّا مؤسّسة ماليّة أو مؤسّسة بنكيّة) فحسب M. Jérôme Huet :[/FONT] « A chaque télépaiement, il faudrait attribuer un numéro d’accusé de réception et inviter le client à le noter et à le conserver. Ce numéro d’accusé de réception du télépaiement aurait pour avantage, aussi, de permettre au client de prouver la date de paiement ». أمّا في علاقته مع البنك فإنّ هذا الأخير يتحمّل عبء الإثبات إذ تجب عليه أن يثبت أنّه تلقّى أمرا بدفع مبلغ محدّد من حساب معيّن[264] فهو الذي يقوم بتهيئة الإثبات في أنظمته الإعلامية عن طريق الحفظ الألكتروني لجملة المعطيات المتعلّقة بعمليّات حرفائه[265] ومن المفترض أن تجب الثقة في البنك وفي منظومته الإعلاميّة بما يجعله متحمّلا لعبء إثبات مصداقيّة أنظمته. وعموما يخضع إثبات الدّفع الإلكتروني لنفس قواعد إثبات المعاملة التي يضمن خلاصها وهو ما أكّده J. Huetبقوله « La preuve du télépaiement relève des mêmes règles que la preuve de la transaction dont il assure le règlement »[266] ويمكن في كلّ الأحوال مطالبة الغير الذي أمّن عمليّة الدّفع الفعليّة بإثبات الخلاص إعتبارا لتوفّر صفة الحياد فيه ولإستخدامه لأجهزة إعلاميّة تسمح له بتخزين وحفظ المعطيات غير أن مسألة إثبات علاقة الخلاص بالدّين تبقى رهينة الوثائق المحاسبيّة الإلكترونية التي احتفظ بها كل من الطرفين في محيط تقنيّ آمن يضمن حجيّتها وفقا للشروط التي تقدّم ذكرها. ولئن اتجهت إرادة المشرّع التونسي إلى مواكبة التطوّرات التقنيّة في مجال التّجارة الإلكترونيّة وذلك بإقرار العمل بالوثيقة الإلكترونية والإمضاء الإلكتروني كوسيلتي إثبات أحاطهما بجملة من الضّمانات أملا في تشجيع الإقبال على ولوج العالم التّجاري اللاّماديّ، فإنّ البون بين المنشود والموجود يقف حائلا دون تحقيق المعادلة بين هاجسي التطوّر والضّمانات، معادلة تظلّ مشروطة بتجاوز عدد من الصّعوبات. الجزء الثاني : وسائل الإثبات التجاري : تطوّر وضمانات : معادلة تظل مشروطة : إنّ ملاءمة خصائص الوثيقة الإلكترونية مع متطلّبات التّجارة من مرونة وسرعة وثقة يظلّ مشروطا بتجاوز صعوبات قانونيّة (الفرع الأوّل) وأخرى تقنيّة (الفرع الأوّل). الفرع الأوّل : معادلة مشروطة بتجاوز صعوبات قانونيّة : هذه الصعوبات أفرزتها المقاربة بين النظام القانوني للوثيقة الالكترونيّة كما أرساه المشرّع التونسي حديثا وبين بقيّة النصوص القانونيّة التي نظمت ولا تزال تنظم المادة التجارية في العديد من مجالاتها. وتتمثل هذه الصعوبات أساسا في بعض مظاهر الطرفيّة القانونيّة (Extrémisme juridique) التي تؤدّي الى ترجيح كفّة أحد عنصري المعادلة (المبحث الأوّل) وفضلا عن الصّعوبات المصطلحيّة (المبحث الثالث) فإنّ تعايش صنفين من الوثائق، مختلفين طبيعة ومتساويين حجيّة، سيؤدّي حتما إلى إثارة إشكاليّات على مستوى اجراءات الإثبات (المبحث الثاني). المبحث الأوّل : ترجيح كفّة أحد عنصري المعادلة : تقوم المعادلة على تحقيق التّوازن بين مواكبة تطوّر المعاملات وتوفير الضّمانات فهل بإمكان الوثيقة الالكترونيّة أداة تعامل ووسيلة إثبات، أن تضمن هذا التّوازن؟ الإجابة تكون نسبيّة نظرا لمحدوديّة حجيّة الوثيقة الالكترونية مما من شأنه أن ينقص من الضّمانات القانونيّة (الفقرة الأولى) التي حرص المشرّع على تدعيمها في مواضع أخرى بصورة تصبح معها عقبة أمام تطوّر المعاملات ( الفقرة الثانية) الفقرة الأولى : محدوديّة حجيّة الوثيقة الالكترونيّة : حدّد الفصل 453 مكرّر م-ا-ع حجيّة الوثيقة الألكترونية بأن نزّلها منزلة الحجة الغير رسميّة ومن المعلوم أن الإعتراف بالوثيقة الألكترونيّة يخضع، كما قدّمنا، إلى درجة الوثوق بالأجهزة والانظمة الإعلاميّة التي استخدمت في حفظها وفي إحداث الإمضاء الألكتروني المدعّمة به. فإذا لم ترتق هذه الآليّات إلى درجة الوثوق بها وأظهرت عدم مصداقيّتها أو لم تضمن صلة الإمضاء بالوثيقة الألكترونيّة المرتبطة به، فما عساها تكون آنذاك القيمة القانونية للوثيقة الإلكترونية؟ لم يقدّم القانون حلاّ بديلا، وبالتالي نعود إلى نقطة البداية، إلى الحلول التي قدّمها فقه القانون قبل تنقيح مجلّة الالتزامات والعقود في محاولة منه لإقحام الوثيقة الإلكترونية ضمن وسائل الإثبات التقليديّة فيمكن أن تكون بداية حجّة بالكتابة أو صورة من صور استحالة الحصول على كتب فالإمكانية الأولى ينظّمها الفصل 477 م-ا-ع[267]. وهنا يجدر التمييز بين أنواع ومستويات الخلل الذي قد يصيب الحجّة غير الرسميّة الإلكترونية فإذا تبيّن أن العيب يكمن في الإمضاء الإلكتروني فحسب فإنّ الوثيقة الإلكترونية تعتمد كبداية حجّة بالكتابة بدون أي احتراز[268] طالما أن المشرّع اعترف صراحة صلب الفقرة الأولى من الفصل 453 مكرّر م-ا-ع بأنّها كتب في كلّ أشكالها سواء تجسّمت في مخرجات الحاسوب التي يتم الحصول عليها عن طريق الآلة الطّابعة أو في التسجيلات الإلكترونية كالأقراص المضغوطة والمغناطيسيّة ذلك أن مصطلح الوثيقة الإلكترونية يقصد به المعلومات التي يتم إنشاؤها أو إرسالها أو استلامها أو تخزينها بوسائل الكترونية أو ضوئيّة فضلا عن أن المشرّع التونسي قد اعترف بحجيّة الحوامل والأوعية الالكترونيّة وجعل منها نسخا دائمة وثابتة لأصولها[269]. وأمّا إذا كانت الوثيقة الألكترونيّة معيبة على مستوى آليّات حفظها أو برامج قراءتها فإنّها لا يمكن أن ترتقي الى درجة الكتب على معنى الفقرة الأولى من الفصل 453 مكرّر م-ا-ع وبالتالي لا يمكن أن تعتمد كوسيلة إثبات في شكل كتب حتّى يمكن اعتبارها بداية حجّة كتابيّة وهو ما يفسح المجال أمام اعتماد الإمكانيّة الثانية واعتبارها صورة من صور استحالة الحصول على كتب على معنى الفص 478 م-ا-ع[270] وهي صور تبقى خاضعة لمحض اجتهاد المحكمة المطلق. وعلى عكس المشرّع التّونسي، أغلق المشرّع الفرنسي الباب أمام العودة من جديد إلى النّظريات البديلة والتأويلات القانونيّة بأن حسم مسألة حجيّة الوثيقة الألكترونيّة وأقرّ المساواة الكاملة في الحجيّة بين الكتب الورقي والكتب الإلكتروني إذ نصّ الفصل 1316 – 1 من المجلّة المدنية الفرنسية على أنّ : « L’écrit sous forme électronique est admis en preuve au même titre que l’écrit sur support papier… » فهل معنى ذلك أن الوثيقة الإلكترونية يمكن أن تكون حجّة رسميّة؟ يجب التّمييز هنا بين الكتب كشرط إثبات Ad probationem والكتب كشرط شكلي Ad solemnitatem[271] فالوثيقة الألكترونيّة نظّمها المشرّع كشرط إثبات وجعلها ترتقي إلى مرتبة الحجّة الرّسميّة لكن في مستوى الحجيّة فحسب ولا يمكن لها أن تقوم مقام هذه الأخيرة شكليّا فقد نصّ الفصل 449 م-ا-ع. "الكتب غير الرّسمي إذا اعترف به الخصم أو ثبتت صحته قانونا ولو بغير الاعتراف اعتمد ككتب رسمي بالنّسبة للطّرفين وغيرهما في جميع ما تضمّنه من شرط وحكاية حسبما هو مقرّر بالفصل 444 و الفصل 445 ... " وعليه فإنّ الوثيقة الإلكترونية إذا كانت تامّة الشّروط يكتسب محتواها حجيّة الحجّة الرسميّة بين طرفيها وتجاه الغير بمعنى أنّه لا يمكن معارضة محتواها إلاّ عن طريق القيام بدعوى في الزّور إذ على حدّ تعبير Aubert[272] : « La forme contient la preuve, mais la preuve ne contient pas la forme ». وقد يتبادر إلى الذّهن عند قراءة الفصل 1317 من المجلّة المدنيّة الفرنسيّة أنّ المشرّع الفرنسي قد أجاز إقامة الحجّة الرّسميّة في شكل وثيقة إلكترونية مستغنيا عن بقيّة إجراءاتها إذ نصّ الفصل المذكور أعلاه : "الحجّة الرّسميّة هي التي يتلقّاها المأمورون المنتصبون لذلك قانونا في محلّ تحريرها على الصور التي يقتضيها القانون ومحفوظة طبق شروط محدّدة يقع ضبطها بأمر من مجلس الدّولة." وفعلا أكّد هذا التوجّه شقّ من فقه القانون الفرنسي يمثّله L. Grynhaum الذي أكّد أنّ : « Un acte authentique dressé sur support électronique perdra toute sa force dès lors qu’il sera établi en dehors de la présence physique du notaire et des parties à l’acte. Le nouvel article 1317 en retirant le rôle de témoin privilégié à l’officier public prive l’acte authentique de son essence et signe ainsi sa déchéance. »[273] غير أنّه في الحقيقة لا يتعلّق الأمر بتغيير في شكل الكتب الرّسمي ذلك أنّه يجب التمييز بين الوعاء المستعمل وشكل العمل القانونيّ فالحجّة الرّسميّة سيتواصل تحريرها على الصّور والشكليّات التي يقتضيها القانون بحضور المأمور العمومي والشّخص المعنيّ بالأمر ثم يمكن أن يقع : [FONT="]- إرسالها إلى الطّرف الآخر سواء بحضور نفس المأمور العمومي أو غيره.[/FONT] [FONT="]- حفظها في شكل الكتروني.[/FONT] فالعلاقة البشريّة « Intuitus personne » ضرّورية للتّأكد من أهميّة ورضاء الشّخص وقبول الحجّة الرّسميّة الالكترونيّة كوسيلة إثبات والإعتراف لها بالقوّة الثبوتيّة لا يغيّر من تلك العلاقة في شيء[274]. ولما لا فتطوّر تقنيّات الإتّصال الحديثة وسعيها إلى توفير حدّ أقصى من الضّمانات يشجّع على اقتحام هذه المغامرة فيكون المأمور العمومي والمتعاقدون كل وراء جهازه الطّرفي ويقوم كلّ واحد بالدّور المطلوب منه لينشأ العقد الرّسمي الإفتراضي Le contrat authentique virtuel. فلئن كان الكتب الرّسمي يستوجب حضور المأمور العمومي والمتعاقدين في مكان واحد، وهو ما يمكّن المأمور العمومي من ممارسة دوره في النّصح والإرشاد ثم الكتابة (التحرير) والاشهاد، فإنّه يمكن الإستعاضة عن حضور الاطراف الفعلي بحضورهم الفكري والذّهني. فنصّ العقد ومختلف التّعاليق يقع تبادلها بينهم عن طريق الإعلاميّة ويكون الإمضاء الرّقمي دليلا على إرادة الإلتزام والموافقة على مضمونه وأمّا التأكّد من خلوّ الإرادة من العيوب فيتمّ من خلال حضور شهود على العقد (Témoins instrumentaires) بجانب كلّ متعاقد أو حضور مأمور عمومي ليشهدوا على الظّروف التي تعاقد فيها الطّرفان وإلتزاما[275]. والمهام المعهودة للمأمور العمومي، والمتمثّلة أساسا في إشهاده على وجود العقد وأهليّة المتعاقدين فيه وعلى التاريخ وتوافق إرادة الطّرفين مع
الاتّفاقات المضمّنة بالعقد، يمكن له القيام بها بطريقة الكترونيّة وذلك بوضع إمضائه الرّقمي على الكتب فيستثبت به العقد (l’authentification ) ثم يسجله في سجله ( répertoire) ويحتفظ به إلى حين مطالبته به. وتظل مسألة الحفظ هي أكبر عائق ذلك أن الحجة الرسمية مدعوة إلى أن يحتفظ بها لمدة غير محددة ( durée illimitée) والحال أن وسائل الحفظ الحالية لا تسمح بحفظ المعلومات إلا لمدة معينة نظرا لقابليتها السريعة للتلف. وبعيدا عن هذا الخيال القانوني الذي نأمل أن يجسد واقعيا في المستقبل فإن تنقيح مجلة الإلتزامات والعقود التونسية ولئن يمثل خطوة هامة وجريئة ، إلا أنه لا يعني أن الكتب الإلكتروني أصبح منذ الآن قادرا على تعويض كل سند ورقي بل إن الأمر يقتصر على إقرار المساواة بين مختلف وسائل الإثبات فحسب ومن ثم فإن جميع القواعد الشكلية المفروضة ad valitatem لا تزال وجوبية وورقية . وعموما أصبح الإثبات التجاري مقيدا وليس حرا وهي نتيجة حتّمتها الطبيعة التقنية للمعاملات الإلكترونية فأيّ وسيلة اثبات أخرى غير الوثيقة الإلكترونية يمكنها اثبات العقد الإلكتروني الذي أضحى والحالة تلك عقدا شكليا لا رضائيا على خلاف القاعدة العامة في المادة التجارية وهو ما أكّده الفصل 28 ق.م.ت.أ الذي جاء فيه : " ينشأ العقد الإلكتروني بعنوان البائع وفي تاريخ موافقة هذا الأخير على الطلبية بواسطة وثيقة إلكترونية ممضاة وموجهة للمستهلك ، ما لم يتّفق الطّرفان على خلاف ذلك." ورغم اعطاء الحرية للطرفين للإتفاق على صياغة أخرى لإنشاء العقد إلاّ أنّها حريّة تكاد تكون صوريّة ذلك أنّ الخيار الوحيد ، تحقيقا للسرعة يظلّ مجسّما في الوثيقة الإلكترونية. الفقرة الثانية : تفاقم الشكليات : إنّ إحاطة الأعمال القانونيّة بالشكليات يعتبر مظهرا من مظاهر الحماية القانونية التي تعكس أهمية تلك الأعمال لكنها في ذات الوقت تعرقل مواكبة تلك الأعمال لمتطلبات العصر والتطورات الحاصلة فيه فالوثيقة الإلكترونية مثلا تجد مثل هذه الشكليات عائقا أمامها لولوج جميع المجالات التجارية. وعموما يمكن تصنيف هذه العوائق الشكلية إلى شكليات خارجة عن إطار الوثيقة الإلكترونية ( أ ) وأخرى خاصة بها ومرتبطة بتكوينها ( ب ) . أ – شكليات خارجة عن إطار الوثيقة الإلكترونية : وهي شكليات فرضها المشرع كشروط صحة في بعض المعاملات التجارية . وتتمثل أساسا في العقود الشكلية : les contrats solonnels [276] ;هي عقود لا يكفي لصحتها تطابق إرادة المتعاقدين بل ينبغي لتمامها احترام شكل مخصوص يضبطه المشرع بكل دقة فالشكل أصبح بمثابة ركن خامس يضاف إلى أركان تكوين العقد الأربعة الواردة بالفصل 2 م.ا.ع فعلى حد تعبير العميد Carbonnier : « la forme est une cinquième condition essentielle pour la validité des contrats ». TRAITE DE DROIT CIVIL وهو ما يمثل استثناء للمبدأ العام في المادة التجارية وعليه أكدت محكمة استئناف تونس سنة 1996 في أحد أحكامها أنّ : " العقود التجارية هي عقود رضائية بالأساس خاضعة لمبدأ حرية الإثبات ( الفصل 598 من المجلة التجارية ) وهذا ما يتماشى مع طبيعة عمل التجار باستثناء بعض العقود التي أوجب فيها المشرع الكتابة. " [277] وكأمثلة لها نذكر عقود الأصل التجاري المبرمة في نطاق المعاملات الخاصة به من كراء ورهن وبيع فقد نص الفصل 190 م.ت على أن : " كل تصرف في أصل تجاري بالبيع الاختياري أو الوعد ببيعه أو بإحالته مطلقا ولو كان هذا التصرف معلقا على شرط أو صادرا بموجب عقد من نوع آخر أو كان يقتضي انتقال الأصل التجاري بالقسمة أو التصفيق أو بطريق المساهمة به في رأس مال شركة ، يجب إثباته بكتب وإلا كان باطلا."[278] وهو موقف تشريعي استقر على تكريسه فقه القضاء [279] وأبرز أبعاده حيث أكدت محكمة الاستئناف أنّ : " البطلان الناشىء عن عدم تحرير كتب في إحالة الأصل التجاري بطلان مطلق تتمسك به المحكمة من تلقاء نفسها تطبيقا لأحكام الفقرة الأولى من الفصل 190 من المجلة التجارية بخلاف البطلان الناشئ عن اهمال التنصيص بكتب عقد الإحالة على ثمن العناصر المعنوية والسلع والمعدات كل على حدة إلى غير ذلك من البيانات الواردة بالفقرة الثانية من نفس الفصل."[280] وإلى هنا لا صعوبة تطرح طالما اعترف المشرع بأن الوثيقة الإلكترونية كتب وبالتالي أمكن استخدامها كسند للقيام بجميع التصرفات بشأن الأصل التجاري لكن تتعقد المسألة بمراجعة الفصل 238 م ت الذي جاء فيه أنه : " يثبت الرهن بعقد رسمي أو بعقد بخط اليد مسجل طبق القانون." . وكذلك الفصل 205 من ذات المجلة الذي ينص على أنه : " لا يثبت امتياز بائع الأصل التجاري إلا إذا كان محررا بحجة رسمية أو بكتب بخط اليد مسجل طبق القانون .... "[281]. ذلك أنه لا جدال في أنّ الوثيقة الإلكترونية ولئن لم ترتق إلى مرتبة الحجة الرسمية فإنها تكتسب حجية الكتب غير الرسمي ، غير أنه لا يجب السهو عن كون هذه الحجية مرتبطة بدرجة الوثوق بالأنظمة والأجهزة المعلوماتية التي ساهمت في تكوينها . فهل من المعقول أن نخاطر بالأصل التجاري ، هذه الوحدة الإقتصادية الهامة ، ونجعل نظامه القانوني يتأرجح بين الصحّة والبطلان بحسب نتيجة الرهان على درجة التعويل على تقنيات الوثيقة الالكترو نية ونسبة الوثوق بها ؟ وأبعد من ذلك ، ونظرا لأهمية الأصل التجاري في النسيج التجاري والاقتصادي ، أخضع المشرع جميع العمليات القانونية المتعلقة به إلى جملة من الإجراءات لا يتصور أن تنجز باستخدام الوثيقة الإلكترونية وتوظيف وسائل الإتصال الحديثة ذلك أنها في ارتباط وثيق بمؤسسات قانونية أخرى يظل طابعها الورقي المادي مصدر ضماناتها وأمانها كالسجل التجاري [282] والرائد الرسمي [283] والدفتر العمومي الممسوك من طرف كتابة المحكمة المختصة ترابيا [284] فضلا عن ارتباط هذه التصرفات القانونية بعدد من الهياكل المختصة كالمحكمة ، مصلحة الملكية التجارية ، المأمور العمومي ، وعدل التنفيذ . كما أنه لا يمكن تجاوز مسألة الآجال وهي مسألة جوهرية في مؤسسة الأصل التجاري ذلك أن جميع التصرفات القانونية والحقوق المترتبة على الأصل التجاري مرتبطة في وجودها وصحتها باحتساب الآجال وهي جد متفرعة ومختلفة فلكل أجل منها نقطة بداية مختلفة ، فكيف سيقع ضبطها في عالم افتراضي ؟ وحتى إذا التجأنا إلى غير مؤرّخ ( tiers d’horodatage ) فإنّ ذلك لن يحل المسألة نظرا لتشعب الآجال وتعدد الهياكل والجهات المدعوة إلى احترامها علاوة على خطورة الجزاء الذي رتّبه القانون على عدم احترامها إذ يتراوح بين بطلان الإجراء ( الفصل 206 م.ت ) وسقوط الحق ( الفصول 224 ، 233 والفقرة الأخيرة من الفصل 245 م . ت ) وعليه فإنه لا يمكن المخاطرة بها بالولوج إلى عالم لا مادي افتراضي يكون التوقيت فيه متفاوتا بحسب الموقع الجغرافي للمستعمل l’internaute وخاضعا في ضبطه إلى تقنيات تتمتع اليوم بنجاعة ما تلبث أن تفقدها بطلوع فجر يوم جديد. ولا تقل شكليات الاوراق التجارية كالكمبيالة والسند لأمر صرامة فهي تظل خاضعة لأحكام الفصل 269 وما بعده من المجلة التجارية مستوجبة في ذلك سندا ماديا تنشأ بمقتضاه الورقة التجارية وتسجل عليه التظهيرات ومختلف عمليات الضمان إلى أن يتم عرضها للخلاص وذلك فضلا عن اجراءات الإحتجاج والإنذار وهي شكليات اقترح جانب من فقه القانون القيام بها بطريقة إلكترونية بضمان طرف ثالث ، هو من دون شك ، الغير المؤرّخ الذي سيضمن تحديد تاريخ التبليغ والاستلام وهي فرضية تبقى رهين تطور الضمانات التقنية [285] وفي انتظار تجسيمها واقعيا ظهرت في القانون المقارن أشكال جديدة للأوراق التجارية كالكمبيالة المرقّمة (L.C.R) التي تعتمد على معادلة السجلات المعلوماتية بين المصارف من غير مبادلة الكمبيالات المادية وتدعيمها بالكمبيالة ذات الرقم الموحد المغناطيسي : LETTRE DE CHANGE –RELEVE-MAGNETIQUE التي كما تدل عليها تسميتها تقوم على اندثار السند المادي إذ يقتصر دور الساحب على تسجيل جميع البيانات المفروض تضمينها بالسند المادي على شريط مغناطيسي Bande magnétique يقع ارساله إلى البنك ثم تتم معالجته مباشرة بواسطة حاسوب المقاصّة ، لكن تظل هذه التقنية الجديدة في اصدار الأوراق التجارية من صنف الكمبيالات مقتصرة على الكمبيالة المرقمة فحسب (L.C.R) فهي تحسين لها باعتبار أن هذه الأخيرة تستوجب حضور السند الورقي [286] . وعموما لم يعد اشتراط الكتابة في بعض المجالات التجارية يمثل عائقا أمام تطور المعاملات وسرعتها ، وان لا يزال يعتبر من الناحية القانونية استثناء لمبدأ حرية الإثبات في المادة التجارية ، ذلك أن صياغة الكتب الإلكتروني لا تتطلب أكثر من بضع دقائق إن لم نقل ثواني علاوة عن الضّمانات التي يوفرها تقنيا وقانونيا وتأسيسا على ذلك يمكن أن تجد الوثيقة الإلكترونية صدى لها في جميع المعاملات وأصناف العقود التجارية التي اشترط فيها المشرع الكتابة من ذلك عقد التأمين ومختلف العقود البنكية. غير أنه يجب التمييز كما أسلفنا الذكر ، بين الكتب كشرط صحّة والكتب كشرط اثبات فضلا عن التمييز بحسب موضوع العمل القانوني ولنا في ذلك مثالان : عقد الشركة وعقد البيع العقاري. فبخصوص عقد الشركة جاء بالفصل 3 من مجلة الشركات الجديدة الصادرة بمقتضى القانون عــ 93 ـدد لسنة 2000 ، والمؤرخ في 3 نوفمبر 2000 أن عقد الشركة ، عدا شركة المحاصة ، يكون " بكتب خطي أو بحجة رسمية . وإن كانت من بين المساهمات حصص عينية تتعلق بعقار مسجل يجب أن يحرر طبقا للتشريع الجاري به العمل وإلا عدّ باطلا." ومن ثمّ فإنّ الوثيقة الإلكترونية يمكن أن تكون سندا لعقد شركة محاصّة أو أي نوع آخر من الشركات التجارية بشرط ألا يكون من بين مساهماتها عقار مسجل . إذ في هذه الحالة الأخيرة يجب أن يفع تحرير العقد في شكل حجة رسمية خاضعة في تحريرها لأحكام الفصل 377 مكرر من م.ح.ع بمعنى يختص بتحريره إمّا حافظ الملكية العقارية أو أحد المحررين المكلفين بمهمة التحرير ... الخ وقد ورد ذلك بصفة صريحة في المذكرة التي أصدرتها إدارة الملكية العقارية بوزارة أملاك الدولة والشؤون العقارية تحت
عـ 8 ـدد لسنة 1996 مؤرخة في 15 جانفي 1996 وتخص العقود التي يمكن تلقي مطالب التحرير بشأنها طبقا لأحكام الفصل 377 مكرر جديد مشيرة لإحكام الفصل 373من م.ح.ع[287]ومبيّنة أنّه يدخل في هذا الباب البيع والمعاوضة والمقاسمة ووعد البيع والمساهمة في رأس مال الشركةوغيرها من العقود بما في ذلك العقود التكميلية . وتعتبر هذه الشكلية الإجرائية جدّ خطيرة إذ رتّب الفصل 3 من مجلّة الشركات المذكورة أعلاه، على عدم احترامها بطلان العقد. كذلك الشأن بالنّسبة لعقد الوعد بالبيع والبيع النّهائي في مادّة البعث العقّاري[288] فقد عرّف الفصل الأوّل من قانون البعث العقّاري لسنة 1990 الباعث العقاري بأنّه كلّ شخص مادّي أو معنوي ينجز قصد البيع أو الإيجار بصفة إعتياديّة أو من قبيل المهنة طبقا للتّشريع الجاري به العمل عمليّات : [FONT="]- تقسيم وتهيئة أراضي مخصّصة أساسا للسّكنى.[/FONT] [FONT="]- بناء وتجديد عقّارات فرديّة أو نصف جماعيّة أو جماعيّة معدّة للسّكنى والتّجارة أو المهنة أو الإدارة.[/FONT] ولقد اشترط المشرّع تحرير كتب في الوعد بالبيع كما أوجب أن يتضمّن ذلك الكتب بيانات حدّد أقلّها تحديدا قانونيّا فمن النّاحية الشكليّة فرض المشرّع بالفصل 9 من قانون البعث العقّاري أن يبرم وعد بالبيع وهذا لا يتحقّق إلاّ بتحرير كتب في الغرض . وهنا تجدر الإشارة أنّه إذا كان موضوع الإلتزام عقّارا غير مسجّل فالاختيار يبقى لأطرافه في تحريره في شكل حجّة رسميّة أو حجّة غير رسميّة وبالتّالي أمكن للوثيقة الإلكترونية أن تكون سندا لهذا الإلتزام.غير أنّ الإشكال يطرح كلّما كان موضوع الوعد بالبيع عقّارا مسجّلا فتتفاقم بالتّالي الشكليّات ليصبح الوعد بالبيع أو العقد النّهائي خاضعا لأحكام الفصل 377 مكرّر م-ح-ع إعتمادا على نفس التّحليل السّالف ذكره بخصوص عقد الشّركة. ب – الشّكليّات المرتبطة بتكوين الوثيقة الألكترونيّة : ترتبط نشأة الوثيقة الإلكترونية محتوى وإمضاء بخدمات التشفير فتقنيّة التّشفير تمثّل الاساس الذي يقوم عليه الكتب الإلكتروني وبدونها يفقد جدواه على المستويين التّقني والقانوني. وهي تخضع في تنظيمها، كما أسلفنا، إلى قرار وزير المواصلات المؤرّخ في
9 سبتمبر 1997، المتعلّق بضبط شروط استعمال الشّفرة في استغلال الخدمات ذات القيمة المضافة للإتّصالات. الذي أخضع الإنتفاع بخدمات التّشفير إلى شرط الحصول على رخصة مسبّقة في الغرض من الوزير المكلّف بالمواصلات إذ جاء بالفصل الثاني من الامر المذكور اعلاه أنّه : "على كلّ مزوّد أو مستعمل لخدمة ذات قيمة مضافة للإتّصالات يرغب في استقبال أو إرسال معلومات مشفّرة على الخدمة، الحصول مسبّقا على رخصة تؤهّله لوضع واستغلال الشّفرة طبقا لمقتضيات الفصل 11 من الأمر المشار إليه أعلاه
عـ501ـدد لسنة 1997 والمؤرخ في 14 مارس 1997." وهو أمر مفهوم ومنطقي لحماية جميع الأطراف وإرساء مناخ آمن إلى جانب الغاية التّنظيميّة. غير أنّ التضييقات تتزايد بالإطّلاع على محتوى الفصلين الرّابع والخامس من ذات الامر بما تكون معه عائقا أمام ضمان السّرعة في المعاملات فقد اقتضى الفصل الرابع في فقرته الأخيرة أنه لا يمكن لمزودي أو لمستعملي الخدمة ذات القيمة المضافة لإتصالات ( والخدمة التي تعنينا هي الأنترنات ) استعمال الشفرة إلا للأغراض والحدود المذكورة في الرخصة . وعليه فإن التاجر سيجد نفسه مقيدا في نشاطه التجاري الإلكتروني بالشروط المضمنة برخصة استغلال الشفرة من حيث نوعية المعاملات ومداها من حيث قوّة الكربتولوجيا بحساب البيت (bits). ففي فرنسا مثلا رفّع المشرّع من الحدّ الأقصى للاستعمال الحرّ لتقنية التشفير من 40 بيت إلى 128 بيت [289]. وأكثر من ذلك يمكن في أي وقت للوزير المكلف بالمواصلات أن يسحب الرخصة كلاّ أو جزئيّا بعد أخذ رأي لجنة الخدمات ذات القيمة المضافة للإتصالات ويمكن تبرير هذا الحق في السحب بنيّة توفير أكبر حد ممكن من الضمانات للمتعاملين عبر شبكة الأنترنات في مواجهة صاحب الرخصة إلاّ أن الأسباب المعتمد عليها لسحب الرخصة تتجاوز هذه الغاية الحمائية فقد خوّل الفصل الخامس سحب الرخصة إذا اقتضت ذلك حاجيات الدفاع الوطني أو الأمن العام وهي مفاهيم جدّ فضفاضة غير مضبوطة حصريّا مما يسمح باعمال السلطة التقديرية للساحب في تكييف الظروف والأعمال التي يمكن أن تدخل في إطار ضروريات الدفاع الوطني أو الأمن العام. كما أن الرخصة تمنح لأجل محدد قد يطول وقد يقصر بحسب اجتهاد سلطة منح الترخيص مع اعتبار طبيعة نشاط طالبها الذي يجد نفسه مضطرا إلى تحديد فاعلية الرخصة كلما انتهت فترة صلوحيتها وإلاّ فإنّها ستسحب منه بصفة آليّة[290] . وعموما، وقع سنّ هذه الشكليات وخاصة منها حق السحب والتجديد لإجراء مراقبة مستمرة ودورية للمعطيات الخاصة بطالب الرخصة ولكنها من شأنها أن تعرقل سير المعاملات التجارية فأيّهما من الهدفين تراه مدعوّ إلى التضحية في سبيل تحقيق الآخر : السرعة أم الضمانات ؟ المبحث الثاني : صعوبات اجرائية
كان BENTHAM يقول : « L’art de la procédure n’est autre chose que l’administration de la preuve. »[291] ومعنى ذلك أن الإجراءات هي المدار الطبيعي لوسيلة الإثبات ففي إطارها يتبادل الأطراف دفوعاتهم ويناقشون أدلة بعضهم البعض مما يؤدي في أغلب الأحيان إلى التنازع بين الأدلة المقدمة . فأين مكان الوثيقة الإلكترونية ، وسيلة الإثبات الحديثة ، من كل ذلك ؟ أتراها تقبل المعارضة بالدليل المعاكس ( الفقرة الأولى ) وإذا كان هذا الأخير كتبا ورقيا فما عساه يكون مآلها
( الفقرة الثانية ) . الفقرة الأولى: مبدأ المعارضة بالدليل المعاكس: Le principe du contradictoire من القواعد التي تعتبر أساسية لحسن سير العدالة والتي أجمع الفقه والإجتهاد على ضرورة مراعاتها أمام جميع المحاكم حتى ولو لم يرد نص صريح أنه لا يجوز أن تعرض على القاضي وثيقة قبل أن يكون الأطراف في الدعوى قد إطّلعوا عليها وناقشوا مضمونها وهو ما يعرف بمبدأ المواجهة. وعلى هذا الأساس جاء بالفصل 114 م . م . م . ت : " يفتح الرئيس المرافعة ويديرها ويختمها عندما تتضح النازلة للمحكمة بوجه كاف. ويفتح الرئيس المرافعة بعرض ملحوظات الخصوم. " وعليه فإنّ نجاعة وسيلة الإثبات تكمن في قابليتها للمعارضة بالدليل المعاكس.[292] والوثيقة الإلكترونية باعتبارها كتب غير رسمي فهي تخضع لأحكام الفصل 460 م.إ.ع الذي جاء فيه أن : " اعتراف الخصم بخطه أو بإمضائه لا يسقط حقه في معارضة الكتب بجميع الأوجه الباقية لديه من حيث الأصل أو من حيث الصورة." وقد يتبادر إلى الذهن أن هذا افصل يحتاج إلى إعادة صياغة على مستوى عبارة " بخطّه " التي لم تعد تتماشى مع تنقيح مجلة الإلتزامات والعقود الأخير والذي أقر شكلا جديدا من أشكال الكتابة لا يترك ميزة خاصة بالشخص الذي تولى صياغة الكتب نظرا وأنّ جميع الوثائق الإلكترونية تكتب بنفس الطريقة اعتمادا على جهاز الحاسوب ولوحة المفاتيح فجميعها متماثلة شكلا على خلاف الكتابة اليدوية التي تفترض استعمال قلم أو أي وسيلة أخرى تترك أثرا مرئيا يخط بواسطتها الشخص شيئا ما على سند مادي سواء كان ورقة أو حجرا أو لوحا ... إلخ فتتخذ الكتابة اليدوية شكلا خاصا يختلف من شخص إلى آخر لتكون مميّزة له ، إلا أنه لا يجب أن ننسى أنه مع إقحام الوثيقة الإلكترونية ، لا يزال الكتب اليدوي يحتل مكانه المعهود وبالتالي فإن عبارة "اعتراف الخصم بخطّه" لا يمكن حذفها كما لا يمكن صياغتها بطريقة أخرى وعليه فهي تظل حكرا على الحجة غير الرسمية المكتوبة بخط اليد لا الحجة الإلكترونية كما هو الشأن بالنسبة للتنصيصات المماثلة في الفصلين 458 و 459 من مجلة الإلتزامات والعقود والتي يبقى المخاطب بها هو صاحب الحجة غير الرسمية اليدوية دون غيره .غير أن عبارة " بجميع الأوجه الباقية لديه " الواردة بذات الفصل ، تتخذ مدلولا خاصا بحسب صبغة النزاع وصفة المعارض فيه. فإذا كان نزاعا تجاريا على معنى الفقرة الخامسة من الفصل 40 م . م . م . ت [293]. فإنه يمكن معارضة محتوى الحجة غير الرسمية الإلكترونية بجميع وسائل الإثبات عملا بالمبدأ العام الحاكم للمادّة التجارية والقائم على حرية الإثبات في نطاق ما يسمح به القانون.[294] كل ذلك ما لم ينص القانون على خلافه كما فعل مثلا في إطار الفصل الثالث من مجلة الشركات الجديدة الذي جاء في فقرته الثالثة أنه : " لا تقبل فيما بين الشركاء أية حجّة لمعارضة ما تضمّنه عقد الشركة ." ممّا يكون معه عقد الشركة ذا حجيّة قاطعة لا تقبل الدحض بإثبات العكس ولا حتى مجرّد التشكيك وهو مظهر من مظاهر الطرفية القانونية ذلك أن هاجس المشرع إتجه في هذا الفصل نحو ضمان استقرار المعاملات حماية لمصالح الغير دون التفكير في مصالح الشركاء الّذين أضحوا سجناء لعقد الشركة عبيدا له ، فإذا لم يأخذوا احتياطا تهم عند تحريره للمرة الأولى فلا يمكنهم معارضة بنوده لاحقا بأي طريقة كانت. وهو ما يؤدي في صورة ابرام عقد شركة إلكتروني إلى الاعتراف لهذا الأخير بقرينة الجدوى التقنية : Présomption de fiabilité وهي حسب منطوق الفقرة الثالثة المذكور أعلاه ، قرينة قاطعة لا يمكن للشركاء معها إثبات وجود خلل تقني مثلا أدّى إلى اتلاف محتوى العقد أو تغيير في بنوده مما يتنافى والطبيعة الفنية للوثيقة الإلكترونية وقابلية محتواها للتغيير سواء بتدخل بشري أو بفعل العوامل الطبيعية[295] وعلى العكس من ذلك أتاح المشرع في الفقرة الأخيرة من ذات الفصل للغير امكانية اثبات وجود الشركة أو محتوى عقدها بكل الوسائل دون تحديد إذ نص على أنه : " يجوز لغير الشركاء عند الإقتضاء أن يثبتوا بكل الوسائل وجود الشركة أو شرطا أو أكثر من الشروط التي تضمنها عقد الشركة. " وأمّا إذا كان نزاعا مدنيا يجمع بين تاجر وغير تاجر ( المستهلك مثلا ) فإن الإثبات بالدليل المعاكس يصبح خاضعا لمبدأ توازي الإجراءات والشكليات : Le principe du parallélisme des procédures et des formes ، ذلك أنه لا يمكن إثبات عكس محتوى الوثيقة الإلكترونية مثلا بشهادة الشهود إذ نص الفصل 474 جديد م . إ. ع على أنه : " لا تقبل بيّنة الشهود فيما بين المتعاقدين لمعارضة ما تضمنه الكتب أو لإثبات ما ليس به ولو كان ذلك في قدر من المال أقل من ألف دينار. " كما نصّ الفصل 424 من ذات المجلة على أنه : " إذ عين القانون صورة للإثبات كان بها ولا بدّ إثبات الإلتزام أو العقد عدا ما استثناه القانون في صورة مخصوصة." ومن ثمّ فإنّ دحض الكتب لا يتم إلاّ عن طريق كتب آخر يعادله في الحجيّة لكن ألا يؤدّي ذلك إلى تنازع بين الحجج المكتوبة؟ . الفقرة الثانية . تنازع الحجج الكتابية : لم يهتم المشرع التونسي بضبط حلول لهذه المسألة إلاّ في بعض الصور الخاصة من ذلك صورة الفصل 490 م . إ . ع الذي جاء فيه : " إذا لم يكن هناك حور وتساوت الحجّتان قضي بالحجة الأقدم تاريخا. وإذا كان لأحد الخصمين حجّة غير ثابتة التاريخ رجحت الحجة التي لها تاريخ ثابت . " لكن مع الإقرار بحجيّة الوثيقة الإلكترونية وتنزيلها منزلة الكتب غير الرسمي ، فإنه من المرجّح والمتوقع جدا أن يحصل تنازع بين الكتائب. فتراكم عمليات تبادل الوثائق الورقية والإلكترونية من شأنها أن يخلق امكانيات هامة ، وخاصة إن قام أحد الأطراف بعد ابرام العقد الالكتروني بإرسال مراسلة بريدية يلغي فيها التعاقد أو يغير فيها أحد بنوده فيكون بالضرورة محتواها مختلفا عن رسالة البيانات المتمثلة في عرض (une offre ) أو في قبول له (acceptation d’une offre ) . ومن المتوقّع أن تتفاقم هذه الظاهرة خاصة وأن المتعاملين لم يصلوا بعد ولن يصلوا بسهولة وبسرعة إلى درجة الثقة المطلقة في الوثيقة الإلكترونية فتراهم يحرصون ، فضلا عن الوثيقة ، على صياغة العقد خطيا ليقع تبادله عن طريق البريد العادي فيصبح لنفس العقد سندان : سند إلكتروني وآخر يدوي . وأمّا التاريخ ، فالغير المؤرخ بمكنه ضبط تاريخ المعاملة الإلكترونية فيما تكون المراسلات المادية يومية . وأبعد من ذلك يمكن أن نقع في إشكال حول تحديد النظام القانوني للعقد المبرم أتراه يخضع لأحكام مجلة الإلتزامات والعقود الخاصة بالتعاقد عبر المراسلة ( الفصل 28 وما بعده من م . أ. ع ) أم تراه يخضع إلى نظام العقود الالكترونية حسب ما جاء به قانون المبادلات والتجارة الإلكترونية ( الباب الخامس منه ) ؟ وعلى عكس القانون التونسي وضع المشرع الفرنسي ضوابط لحل مسألة التنازع هذه إذ يقع الرجوع أوّلا إلى مبادىء القانون كإشتراط مثلا الحجة الرسمية فيحسم الأمر وإلاّ يقع الإحتكام إلى اتفاق مسبق بين الأطراف [296] فإن لم يوجد يؤول الأمر إلى اجتهاد القاضي الذي له استعمال جميع سلطاته لتحديد الكتب الأقرب إلى الحقيقة . وتجد هذه الحلول سندها في نص الفصل 1316 – 2 من المجلة المدنية الفرنسية الآتي ذكره : « lorsque la loi n’a pas fixé d’autres principes, et à défaut de convention valable entre les parties , le juge règle les conflits de preuve littérale en déterminant pour tous moyens le titre le plus vraisemblable quel qu’en soit le support. » وتكون بذلك القانون الفرنسي قد أقر بصفة نهائية بصحّة الإتفاقات حول الإثبات بعد مسيرة فقه قضائية طويلة [297] لكن من دون تحديد ما المقصود بالإتفاق الصحيح وهو ما يوسع من دائرة اجتهاد القاضي الذي أوكلت إليه مهمة تقدير الدليل الكتابي الأقرب إلى الحقيقة:Vraisemblable وذلك بحسب الحالات المعروضة عليه . وتجدر الإشارة أنّ المعيار المعتمد على درجة القرب من الحقيقة هو ذو مصدر فقه قضائي وقد استرجعه الفقهاء حديثا عند ظهور وسائل الإثبات التكنولوجي [298] وهو المعيار الأنسب حسب رأي أغلب فقه القانون [299]وان اقترح شق آخر اعتماد المعيار الإحتمالي ( le critère probabiliste ) [300] إلاّ أنّ ذلك سيؤدي إلى التحديد من سلطة القاضي التقديرية لأنه في المادة الإعلامية لا يوجد مكان وسط فالإجابة تكون دائما ثنائية إمّا بنعم أولا وهي لا تأخذ بعين الإعتبار الظروف الواقعية بينما يكون معيار القرب من الحقيقة أكثر ملائمة مع المحيط القانوني حيث لا ندّعي الوصول إلى الحقيقة [301] فدور القاضي يتمثل في البحث عمّا يبدو حقيقيا بمعنى السند الذي يعتبره الأكثر صدقا. ويدخل في تقدير القاضي أولا صحة الكتب خاصة بالنسبة للوثيقة الإلكترونية فالعمل القانوني المصاغ في شكل إلكتروني لا يمكن أن تكون له نفس القوة الثبوتية للكتب اليدوي ما لم يكن يضبط حقوقا وواجبات ومحلّى بإمضاء [302] . فإذا لم يكن الإمضاء مستجيبا لمقتضيات التقنية والقانونية المطلوبة فإنّ على الطرف المحتج به أن يثبت عكس ذلك وإلا فإنّ العمل القانوني ذا الشكل الإلكتروني لن يعتمد ككتب غير رسمي . وستلعب تقنية التأريخ الإلكتروني من قبل غير محايد دورا هاما في تحديد الكتب الأسبق تاريخا سواء كان يدويا أو الكترونيا . وعموما يجد القاضي نفسه مضطرا في كل الاحوال إلى الإستعانة بأهل الخبرة والإختصاص في الميدان وقد سبق القول في ذلك. وعمل القضاء التونسي لم يخرج عن هذا الإطار فلئن لم يوجد نص قانوني يعهّد القاضي بمهمة البحث عن الكتب الأكثر صدقا عند تنازع الحجج الكتابية ، فإن الواقع التطبيقي يدفعه إلى القيام بهذا العمل من تلقاء نفسه لأنه مدعوّ في كل الحالات إلى حسم النزاع والحكم في القضية وطبعا لن يؤسس حكمه على أمور غامضة أو اعتباطية بل سيستخدم كل سلطاته القانونية في البحث والإستقصاء وقد أقر المشرع التونسي بابا كاملا في اختبار الكتائب تضمن الفصول من 229 إلى 233 م.م.م.ت وهي فصول ولئن كانت تتعلق بمسألة القدح في كتب ما بنكران الإمضاء أو المحتوى لا بمسألة تنازع الحجج ، فإنه يمكن الإستئناس بها في طرق البحث عن الكتب الأقرب إلى الصدق وهو معيار نصّت عليها القرة الثانية من الفصل 229 م. م.م.ت " وإذا رأت قربه من الصدق ولم يمكنها الحكم فيه بدون بحث توقف النظر في أصل النازلة وتأذن بإجراء بحث." المبحث الثالث : صعوبات مصطلحية
أصبحت تطالعنا اليوم وكل يوم مصطلحات غريبة عنّا لم نعهد سماعها ولا توجد في قواميسنا اللغوية والقانونية الراهنة تعاريف وتفاسير لها ومثالها : Cyber espace ; Cypermonde, cyber monnaie, **** ; Hyper****e ; E.D.I , Unix, … وهي تمثل لغة حديثة أفرزها تطور الإتصالات فلكل عصر لغته، لكن بقدر ما تعكس التطور التكنولوجي الحاصل ، يقدر ما تعرقل مواكبة هذا التطور . فقد كنّا منذ سنين خلت لا نهتم بهذه التطورات ونطمئن النفس بأنها بعيدة عنّا ، لها أهلها من المختصين ، أمّا اليوم وقد اكتسحت هذه التقنيات جميع المجالات بدون استثناء : الإدارية ، التجارية ، القانونية وحتى القضائية ، فإنه أصبح لزاما علينا فهم هذه الآليات والوقوف على الأقل على بديهياتها وعمومياتها حتى نتمكن من متابعتها فلم يعد التقني مجرد عابر في المادة القانونية يعترض القاضي صدفة في قضية ما، بل أصبح هو جوهر ولبّ القانون فبه تتحدّد الآثار القانونية ليصبح القانوني يخضع للتقني فهذا الأخير هو الذي يضبط شروط إنطباق الأول وعليه تتوقف فعاليته وهو مدعوّ إلى مزيد التّمركز حتّى نلفى جميع القضايا التجارية مبنية على اشكاليات تقنية تطرحها الوثيقة الإلكترونية امضاء ومحتوى. وإذا كان التاجر والمواطن العادي لا يهتمان بماهية تلك التقنيات بقدر ما يهتمان بمردودها العملي إذ يكفي أن هذا البرنامج المعلوماتي أو ذاك مثلا يضمن السرية أو الحماية فيضغط على الزرّ لتشغيله دون البحث عن مفهومه ودوره في المنظومة ، فإنّ على رجل القانون أن يغذّي زاده التقني ويقف على كيفيّة سير المعاملة التجارية الإلكترونية تقنيّا خاصّة وقد تزايد عدد المتدخلين فيها وذلك حتى يتمكن من استخدام سلطته التقديرية المخوّلة له قانونا على الوجه المطلوب وحتى يتصدّى إلى كل محاولات التضليل . إلاّ أنّ الأمر ليس بهذه السهولة إذ تصادفنا مصطلحات متشابهة وغالبا ما يقع التّدليل على نفس التقنية بعدّة مصطلحات ممّا من شأنه أن يدخل اللّبس في ذهن المتعامل من ذلك عبارتا « chiffrement » و « crytologie » ويبقى المشكل الهام متمثلا في ترجمة المصطلحات ذلك أنّ الكتابات القانونية العربية الموجودة الآن لا تستقر على ترجمة واحدة لنفس المصطلح فكلّ كاتب يفهم التقنية ويحاول أن يجد لها مقابلا عربيا يؤدي به المعنى من ذلك مصطلح
« le support éléctronique » يترجمه البعض بالوعاء الإلكتروني وآخرون بالحامل الإلكتروني والبعض الآخر بالسّند الإلكتروني وقد يذهب في ظنّ القارىء أنّ لكلّ عبارة مدلول خاص والحال أنّ جميعها تعني نفس الشيء . وفي الغالب لا يقع التوصل إلى ايجاد هذا المقابل العربي فيذكر المصطلح باللغة الأجنبية على حالته تلك مثل مصطلح Hachage . فهل ترانا نفاجىء في المستقبل بأحكام قضائية تتخلّلها مقاطع فرنسيّة وأنقليزية ؟ وإن كان هذا مستقبل الأحكام . فما عساه يكون مستقبل تقارير المحامين والخبراء ؟ صحيح أن الثورة المعلوماتية والاتصالية أصلها غربي ، أجنبي عنّا ومن الطبيعي أن تقع صياغة قواعدها باللغة الأصلية وهي وحدها الكفيلة بتأدية المعنى المطلوب بكل دقة. ولكن لا يجب أن ننسى أنّ فئة المعنيين بهذه التقنيات متفاوتة المعارف فنجد المثقف المختص في الميدان ونجد المثقف البعيد عن الميدان كما نجد ذا الثقافة المتواضعة ونجد الأمي وإن أصبح معيار تقدير الأمّة يعتمد على درجة المعرفة بالإعلامية لا على درجة المعرفة بالقراءة والكتابة . لذلك كلّه ولغاية ترسيخ الهوية العربية ، بات من الضروري تحيين القواميس القانونية بإدخال مادة قانونية جديدة تهتم بهذه المصطلحات التقنية التي لن تنفك عن التكاثر والتعقيد بفعل التطور المذهل والمطّرد الّذي تشهده المادّة مما من شأنه أن يوفر أداة عمل هامة لرجال القانون تمكنهم من تجاوز بعض الثغرات القانونية من ذلك مثلا أن المشرع ، وقد سبقت الملاحظة في ذلك، يخلط بين المصطلحات مما يدل على أنه لم يستوعب بعد مفهوم الوثيقة الإلكترونية ففي العديد من فصول قانون المبادلات والتجارة الإلكترونية يفرّق بين الوثيقة الكتابية والوثيقة الإلكترونية وكأنّ هذه الأخيرة ليست كتابية [303] وهو ما يستدعي المراجعة حتّى نتفادى التناقض بين أحكام هذه الفصول ومقتضيات الفصل 453 مكرر م أ. ع التي أقرّت بأنّ الوثيقة الإلكترونية كتب. ولن يكون ذلك ذا جدوى ما لم تسعى إلى توحيد المصطلحات وطنيا وعربيا وهو ما يستدعي تكافل عدة جهود سواء من المختصين في القانون أو في التقنية وقد كان لقانون المبادلات والتجارة الإلكترونية بادرة طيبة في التعريف بالمصطلحات الرئيسية على غرار التشفير ، منظومة احداث الإمضاء والتدقيق فيه ونأمل أن تأتي النصوص التطبيقية المنتظرة بإيضاحات أخرى حول غيرها من المفاهيم مما من شأنه أن يساعد شيئا فشيئا على خلق ملائمة بين المنظومة القانونية والمنظومة التقنية تجعل التمرّس بتكنولوجيا المعلومات سهلا وربما لا يستوجب من المجهود الذهني أكثر مما يستوجبه تعلم قيادة سيارة على حدّ تعبير الأستاذ عز ّالدّين عمر [304] . كما تجدر الإشارة إلى أنّ تطور التجارة الإلكترونية لا يقتصر على المستوى الداخلي بل إنّ تقنياتها مجعولة أساسا لتجاوز الحدود الوطنية وبالتالي لا بد للوثيقة الإلكترونية التونسية أن تجد القبول كوسيلة اثبات لدى المحاكم الأجنبية في تونس تطبيقا لمبدإ المعاملة بالمثل وعلى هذا الأساس جاء الفصل 23 ق.م.ت.أ ناصّا على أنّه : " تعتبر الشهادات المسلمة من مزوّد خدمات المصادقة الإلكترونية الموجود ببلد أجنبي كشهادات مسلمة من مزوّد خدمات المصادقة الإلكترونية موجود بالبلاد التونسية إذ تمّ الإعتراف بهذا الهيكل في اطار اتفاقيّة اعتراف متبادل تبرمها الوكالة الوطنية للمصادقة الإلكترونية . " وعموما نرجو أنّ تذلّل قريبا بعض الصعوبات القانونية وصعوبات تقنية أخرى فرضتها الثنائية التي تقوم عليها الوثيقة الإلكترونية ، ثنائية القانوني والتّقني. ...يتبع
رد: أريد بحثا حول طرق و وسائل الإثبات في القضاء المدني الجزء الرابع
الفرع الثاني : معادلة مشروطة بتجاوز صعوبات تقنية : لا يمكن الحديث عن هذا المولود القديم نسبيا في عالم الكتابة والجديد في عالم الإثبات ، عن الوثيقة الإلكترونية ، دون التعرض إلى محيطه التقني بالضرورة . فالمعلومة تولد رقمية بتدخل عديد الآليات وتظلّ محافظة على رقميّتها تلك طيلة فترة حياتها التي يتحدد مداها طولا وقصرا بحسب القدرة على تجاوز نقائص حفظها وخزنها ( المبحث الأول ) وطالما كانت الرقمية ميزتها والشبكة المفتوحة مدارها ، فلا بد إذن لرسالة البيانات أن تخشى مخاطر قراصنة الميلتميديا ( المبحث الثاني ) الذين يبقى هاجس القضاء عليهم وعلى غيرهم من العراقيل رهين التقدم على سلّم التطور التقني ( المبحث الثالث ). المبحث الأول : صعوبات في الحفظ والصيانة إنّ خزن المعلومة على حامل غير قابل للرجوع فيه لا يعني بالضرورة صيانة المعلومة من التغيير ( الفقرة الاولى ) فضلا عن أن الوعاء الإلكتروني يتمتع بمعدل حياة منخفض مقارنة بالوعاء الورقي مما من شأنه أن يؤثر على ديمومة المعلومة ( الفقرة الثانية ) . الفقرة الأولى : قابلية المعلومة للتغيير رغم حفظها : الرّقمنة ، كما أسلفنا في الذكر ، تحصل بتحويل المعلومةالمقروءة على شاشة الحاسوب أو المرئية وعموما المفهومة إلى سلسلة من الثنائيات المتكونة من رقمي الصفر والواحد : " 0 " و " 1 " . وبشكلها الرقمي الجديد تصبح المعلومة قابلة للمعالجة الإعلامية بشتى الطرق سواء كانت نصا أو صورة ومن أبرز مظاهر هذه المرونة أنّ : 1- الرقمنة تسمح لأجهزة الإعلامية بتطوير المعلومة في كلّ الإتجاهات : زيادة ونقصانا ، تبديلا ونقلا ...الخ. 2- هذه الإمكانيات للتطوير غير محددة بزمان ما وإنما لها أن تتضاعف حسب الرغبة في ذلك. 3- التغييرات الممكن إدخالها على المعلومة لا تترك أدنى أثر 4- تنتقل المعطيات عن طريق المزوّد ، من حاسوب إلى آخر بدون تحديد. 5- عند الحاجة إلى نسخ المعلومة ، فالأمر جدّ عملي وسيط ذلك أن النتيجة الرقمية تتكاثر إلى ما لا نهاية حتى عبر أجيال متعاقبة بمعنى نسخة نسخة النسخة وذلك مع استحالة التمييز بين نتيجة رقمية من الجيل الاول وبين نسخها. ولقد ساد الإتفاق ، كما أسلفنا على أنّ الحوامل الإلكترونية من نوع WORM هي الكفيلة بضمان السلامة والأمان للمعلومة باعتبارها تقطع الطريق أمام كل تغيير لاحق وهو ما أكدته بصفة قاطعة L’Afnor [305] ضمن توصيتها الشهيرة ISO [306] إلا أنه لا يمكن الاعتداد بخاصية الوعاء المتمثلة في عدم قابليته للرجوع على مستوى الإثبات إلاّ إذا مكنت من المحافظة على المعلومة التي يحتويها من كل إمكانية لتطويرها. وهنا تبرز نقاط الضعف حتّى بالنّسبة للأوعية الأكثر ثقة فعندما نريد الإطلاع على ما وقع تسجيله على حامل معطيات ثنائية مهما كانت خاصياته فإنه من الضروري وانطلاقا من ذلك الحامل إرسال إشارات رقمية إلى ذاكرة الحاسوب الحيّة وهناك يقوم البرنامج المعلوماتي بتحويل تلك الإشارات إلى رموز مفهومة وقد سبق القول في ذلك . وفي تلك اللحظة ، يؤكد الفنيون قاعدة مسلم بها تتمثل في أنه حالما تنتقل المعلومة إلى ذاكرة الحاسوب الحية في شكلها الثنائي تصبح قابلة للمعالجة والتطوير بأشكاله السالفة الذكر وبالتالي فأن تكون منبعثة من حامل من نوع WORM لا يغير من الأمر شيئا فقطعا هذا النوع من الحوامل غير قابل للرجوع فيه إلا أنّ معطياته هي دون ذلك بكثير. ولنذهب أبعد من ذلك ونواصل مسار المعلومة فبعد نقلها إلى ذاكرة الحاسوب الحية وتطويرها مثلا بالزيادة أو النقصان فإنه سيقع تخزينها في وعاء رقمي آخر غير قابل للرجوع فيه لتعاد فيما بعد نفس العملية الأولى وذلك إلى مالا نهاية سيّما وأنّ المبدأ الذي يقوم عليه الرقمنة هو عدم التمييز بين الأصل والنسخة. ويمكن بنفس السهولة إخراج المعلومة على الورق بعد حصول التغيير الذي يمكن تكييفه بالتدليس في صورة التفطن إلى التغييرات الحاصلة وإن كان أمرا صعب الحصول إن لم نقل مستحيلا بإعتبار أن لا وجود لأي أثر وبالتالي تكون الوثيقة المستخرجة مطابقة لمواصفات السلامة طالما أن التغييرات كما بيّنا لا تترك أثرا. ومن ثمّ نستخلص أن المعالجة المعلوماتية لا تتم على الحامل الإلكتروني في نفسه وإنّما على مكوّنات الحاسوب الإلكترونية حيث يتم تحويل المعطيات كمرحلة أولية . وقانونيا لا تفترض القوة الثبوتية وعاء غير قابل للرجوع فيه وإنما تحتاج إلى تسجيل تكون بفضله المعلومة غير قابلة للرجوع فيها. بمعنى أنه على الحامل الرقمي ضمان ديمومة المعلومة ( Sa durabilité et sa continuité ) وهذا لا يتحقق إلاّ إذا انتفت كلّ إمكانية لمعالجة الإشارات والرّموز التي يحويها وهو أمر بحصوله يختفي كلّ ماهو رقمي ضرورة أنّ المعالجة هي روح الرّقمنة وجوهرها وهو ما أكّده ، أحد الفنيين المختصين في المجال , Lucien PAULIAC ، بقوله : Ôtez au numérique la possibilité d’être traité, et vous supprimez le numérique » وقد سعى المختصون إلى محاولة تجاوز هذه النقائص بالرجوع إلى معادلة رياضية سرية ( Un algorithme secret ) تمكن من تحويل العبارات الرقمية إلى عملية حسابية يقع تسجيلها بصفة موازية على نفس الحامل الرقمي. ولكن هل يمكن إجهاض كل عملية تدخل باستخدام تلك المعادلة ؟ قبل محاولة الإجابة على هذا التساؤل ، يجب أن نتذكر ونستحضر دائما أن وسيلة الأمان تلك مرتبطة شديد الإرتباط بالوعاء الالكتروني في وجوده المادي والحال أن معالجة المعطيات تتمّ كما أسلفنا الذكر ، بمعزل عن الوعاء . وعلى فرض التسليم بنجاعة تلك التقنية ووثقنا في خاصياتها المنطقية الحسابية
( Ses aspects logiques ) فإنّ ذلك سيؤدي بنا إلى تأسيس قوة التسجيلات الثبوتية على مجرّد فرضية يرجى من ورائها ألاّ يتمكّن أي برنامج معلوماتي من فك وفتح ما أغلقه برنامج معلوماتي آخر وكأنّنا نريد من قوة الإعلامية أن تمنع الإعلامية من أن تكون قوية . كذلك لا يجب أن ننسى أنّ نظرية الإثبات متصلة بآجال التقادم بمعنى أنه يجب أن نأخذ بعين الإعتبار المدى الطويل والطويل جدّا فأيّ صمود ستكون عليه آليات الآمان الموجودة اليوم أمام ما يمكن أن تفرزه الإعلامية خلال عشر سنوات ، خلال خمسة عشر سنة وثلاثين سنة ؟ وهو سؤال جدّ جوهري فقد أكّد الخبراء أنّ فرضيّة تكسير المفتاح الخاص المتعلق بالإمضاء المحفوظ صحبة الكتب الإلكتروني المختزل واردة جدّا . فبفضل التطور السريع للتقنيات فإنّ المفتاح الخاص والذي يعرف اليوم بـ 512 على أغلب برمجيات الإبحار التي توفرها ميكروسوفت ( Microsoft ) وناتسكيب (Nestscape ) أو 1024 بيت (Bits ) يمكن استخلاصه بمعنى إعادة حسابه انطلاقا من المفتاح العام المعروف من طرف الجميع ويؤكد الخبراء أن فرضية تكسير مفاتيح 512 بيت خلال مدة من 5 سنوات إلى 10 سنوات لا يمكن تجاهلها بل يجب العمل على تفاديها منذ الآن.[307] ولعل الحل الأنسب كما أسلفنا يتمثل في خلق مهنة جديدة مفتوحة للعموم تؤمن خدمات الأرشفة بأحدث وسائل الحفظ الموجودة اليوم والتي يمكن أن تتواجد لاحقا ويجب على هذا الغير الحافظ أن يمضي من جديد الوثيقة الإلكترونية بمفتاح خاص غير قابل للخرق لمدة لا تقل عن العشرين عاما كما يجب عليه تثبيت تاريخ بها وإن كان من المستحسن أن يكون التاريخ من مشمولات غير مؤرّخ وقد سبق القول في ذلك. الفقرة الثانية : معدل حياة منخفض وتكلفة مرتفعة إن أقصى ما يبحث عنه المتعاقد هو الحصول على وسيلة إثبات أزلية ، دائمة في الزمان والمكان يمكن له أن يستظهر بها متى شاء ومتى اقتضت الضرورة ذلك دون الحاجة إلى بذل مجهود في العناية بها. وهو ما لا يمكن وعية الالكترونية توفيره الآن ذلك أنّ مردودها يمتد على عدد معين من السنوات يتفاوت بحسب نوع الوعاء. فحسب دراسة تقنية [308] تبيّن أّن حياة الحامل الإلكتروني يمكن أن تستمر على امتداد عشرات السنين بالنسبة للأشرطة المغناطيسية والأقراص بشهادة شركة Bull فيما ترى شركة DDIGIDOC أنّ أقصى مدة يمكن أن تبلغها هذه الأوعية هي عشرون سنة إذا لم يقع احترام شروط الإستعمال الخاصة بتركيزها بينما تؤكد DORETECH أن هناك من الأوعية ما يصمد على امتداد ثلاثين سنة لكن مع جهود إضافية للصيانة والمراجعة المسترسلة. وفي المقابل يمكن للوعاء الورقي أن يصمد مائة سنة كاملة مع بعض أعمال الصيانة[309] .فكيف يمكن إذن لهذه الأوعية الالكترونية أمام عامل الزمن أن تحافظ على محتواها إلى حين انتفاء الحاجة إليه ؟ بل إنّه لا يمكن للحاجة أن تنتفي فلا يمكن الاستغناء عن وسيلة الإثبات بأي حال من الأحوال من بعد مرور أجل التقادم لأن المتعاقد سيظل في حاجة دائمة إلى دليل يثبت به في أقصى الحالات مرور ذلك الأجل المسقط. لذلك ينصح المختصون بمراقبة وإعادة تسجيل محتوى الوعاء الإلكتروني مرة كل 4 سنوات أي أنه يجب إعادة التسجيل بمعدل مرتين خلال العشر سنوات ، أجل الحفظ الوجوبي في المادة التجارية . وهنا تطرح إشكالية السلامة من جديد خلال هجرة المعطيات من وعاء إلى آخر. أمّا إذا اتفق طرفا المعاملة أو رام التاجر حفظ الوثائق المثبتة للمعاملات لمدة تتجاوز 10 سنوات فإنّ فرضيات إعادة التسجيل تتضاعف وتتضاعف معها التكلفة وبسؤال بعض الأشخاص الطبيعيين الذين يقومون بحفظ الوثائق لفائدة حرفائهم ، أي الذين يعرفون بالغير الحافظ ، عن تكلفة أرشفة الوثائق الإلكترونية بطريقة سليمة وآمنة ، أجابت شركة DIGIDOC أن ذلك يكلف على الأقل 500KF[310] بالنسبة لأرشيف ذي مواصفاته[311] لكن هل أنّ جميع الوثائق الإلكترونية تحضى بالحفظ والأرشفة ؟ عن هذا السؤال أجابت IBM أنّه من المستحسن لكل حريف أن يعقد اتفاقا مع حافظه لاختيار المعطيات التي سيقع حفظها فيما أكّدت شركة ALLEGRO أنه ما عدا الفواتير فلا تستحق أي وثيقة أن تحفظ لأكثر من بضعة أشهر. وعلى الضّفة الأخرى، يقف رجال القانون موقعا مغايرا إذ يؤكد
ERIC CAPRIOLI أنه بدون منازعة وفي محيط إلكتروني ، من السهل ومن المعقد في ذات الوقت إثبات الوقائع الإلكترونية بمعنى أنه ولئن كانت جميع المعاملات بين الأطراف أو الإتصالات بموقع ما تترك دائما آثارا معلوماتية ، فإنه ليس من الهيّن ، في المقابل ضمان الصحة نظرا لإمكانيات التدخل والتغيير وبالتالي يجب على الأقل ، حفظ جميع الإرساليات المتصل بها والتي لها قيمة أو أثر قانوني وذلك وفقا لترتيب زمني .[312] وعموما أكدت التجربة أنّ الحامل الذي يخزن فيه العقد الإلكتروني يمكن أن يناله ما يعبر عنه بالفيروس المعلوماتي الذي يفسد أن يمسح كل ما يوجد به، كما أنّ أيّ عطب مادي كمجرد خدش بالحامل الإلكتروني يحول دون قراءته يواسطة الكمبيوتر. ولئن أمكن الإحتياط لهذا الخطر بتركيب برامج مقاومة للفيروسات وبإعداد نسخ احتياطية من العقد الإلكتروني تخزن على حوامل الكترونية مختلفة ويصعب بأن تصاب كلها بالفريوس أو ينالها في نفس الوقت عطب مادي يفقدها صلوحيتها لما أعدت له، فإن ما يصعب الإحتياط له هو أن دوام صفة الإثبات التي يتعين بأن تتوفر في العقد الإلكتروني يصعب تحقيقها عند انقضاء أمد زمني طويل على نشأته بفعل أن الوثيقة الإلكترونية لا تقرأ مباشرة وإنما هي مجموعة من الرموز الرقمية المحفوظة على حامل الكتروني لا يفهمها إلا الكمبيوتر الذي يقوم بترجمتها إلى لغة بشرية مفهومة اعتمادا على نظام تشغيل خاص به مضمن بالقرص الثابت الذي يجب أن يزوّد علاوة على ذلك بالبرنامح المعلوماتي الذي تم بواسطته إنشاء الوثيقة الإلكترونية وهو الذي يسمح بانفراده بقراءتها . إلاّ أن المختصين يؤكدون بأن الأنظمة التشغيلية لا يمكن أن يتجاوز عمرها الخمس سنوات كما أنّ البرامج التطبيقية ومنها تلك المعدة لمعالجة النصوص لا تعمر أكثر من ثلاث سنوات وذلك بفعل التطور المذهل والسريع الذي تعرفه المعلوماتية . وبالتالي فإن العقد الإلكتروني الذي يحفظ على حامل الكتروني ويرجع إليه بعد مدة طويلة ، عشر سنوات مثلا ، سوف لن يجد بسهولة البرنامج التطبيقي الذي أنشأ بواسطته والذي يستحيل في غيابه قراءته وهو ما يمثل خطرا حقيقيا ضرورة أن الأنظمة التشغيلية والبرامج التطبيقية المتداولة إنما هي منتوجات تجارية في تطور مستمر بفعل المزاحمة التجارية ولا يهمها في شيء ما قد تتعرض له الوثائق الالكترونية المخزونة من صعوبة أو استحالة على مستوى قراءتها بعد مرور سنين طويلة على خزنها . المبحث الثاني : ظاهرة القرصنة وصعوبة تطويقها : إنّ ثورة المعلومات تمثل تهديدا للأمن القومي للمجتمعات ، فمثلما نستطيع أن نشنّ حروبا معلوماتية وحملات دعائيّة فإنّنا في نفس الوقت عرضة لمثل هذه النوعية من الحروب والإرهاب المعلوماتي ، بفعل السماوات المعرفية والمعلوماتية المفتوحة والعولمة التلفزيونية. فقد أصبح العالم قرية صغيرة تكاد معلوماتها تكون على المشاع ما لم تتوفر إمكانيات فعّالة لصيانتها من الإختراق . فلا أحد ينكر اليوم أن ثورة المعلومات هذه قد أتت بآثار سيئة على النظام والقانون فجرائم الكمبيوتر تلحق خسائر فادحة بأصحاب الأعمال كما زادت ظاهرة التجسّس التجاري والإقتصادي بين الشركات والدول ففي العامين الماضيين مثلا نشبت مشكلة بين الولايات المتحدة وكندا من جانب والصين من جانب آخر عندما قامت الأخيرة بنقل تكنولوجيا لصناعة الإلكترونيات وأشرطة التسجيل وضعتها لتبيعها في أسواق هاتين الدّولتين بثلث أسعار منتجاتها المماثلة[313] ومع زيادة المنافسة العالمية ستزداد دوافع التجسّس التجاري حدّة بعد تنفيذ الاتفاقية العامة للتعريفة والتجارة " الجات "[314] واكتمال آليات تنفيذها بالنسبة للدول النامية بحلول عام 2004 . فبعد انتهاء الحرب الباردة وتغير أساليب الصراع الدولي الدولي وغلبة الصراع التكنولوجي والتجاري والاقتصادي على الصراع العسكري تغيرت أولويات التجسّس بين الدول فتنازل التجسّس العسكري والسياسي عن عرش الأولوية وحل محله التجسّس التكنولوجي والتجاري وظهرت صور أخرى للتجسّس ، كما أصبح بمقدور هواة أو مبتدئين اختراق برامج وفك شفرات والإستحواذ على معلومات سرية . كما أثبتت الأقمار الصناعية فاعليتها في التجسّس الفضائي لجمع المعلومات العسكرية والتكنولوجية والتجارية حتى أصبحت أقمار التجسّس منافسة لطائرات التجسّس العسكرية في دقة التصوير ووضوح الصور فأصبح تسويق هذه الأقمار تجاريا على مدى واسع أمرا واقعا ومرشحا للتّزايد خلال السنوات القليلة القادمة وأصبحنا اليوم نتعايش مع جرائم عجيبة ، أسلحتها معلومات وبرغم أنّها بلا دماء ولا جرحى ، فإنها تشكل رعبا مستقبليا لاحت بداياته ،أصبحنا نتحدث عن مافيا الحاسوب ، هذا الخطر المرعب الذي يمكن أن يجعل الغد قاتما إذ يكفي أن تتكاثر جرائم الحاسوب ويقتنع الناس بوجودها حتى يصبح الحاسوب جهازا يثير الشك والريبة وتبرز أزمة عدم ثقة في التعامل مع الحاسوب وتطبيقاته وقد تؤدي إلى الإبتعاد عن الحاسوب والعودة إلى الوراء وبالتأكيد فالرّقي ينتكس والحياة تتدهور وعلى العكس من ذلك يرى البعض أنّ ما يقوم به أفراد مافيا الحاسوب يصنف على أنّه نشاط علمي بحت ولا شيء غيره ويكفي أن نزور عددا من المواقع على شبكة الأنترنات لنقف على هذا الموقف [315] حيث تقام المسابقات بين قراصنة الحاسوب لتتويج أقدر قرصان على اختراق الأجهزة والأنظمة الأمنية. ومن أمثلة هذه الجرائم التي يتداولها الفقهاء أنّ موظّفا في ولاية دنفر كان يعمل على الحاسوب يمتلك 1800 سهم لشركة معينة ويسعر دولار ونصف الدولار للسهم الواحد استطاع الدخول بشكل غير مشروع إلى منظومة البورصة وجعل الأسهم باسم شركة أخرى قيمة السهم الواحد فيها خمسة عشر دولارا وحكاية أخرى عن موظّف يعمل على الحاسوب في متجر كبير بولاية أوكلاند استطاع أن يغيّر في عناوين بعض العملاء ليوجه بضاعة قيمتها آلاف الدّولارات على عناوين شركاء له في الجريمة [316] . ويلاحظ في الآونة الأخيرة أنّ صفحات العديد من الجرائد بدأت تحمل الحكايات عن جرائم ارتكبت وكانت الأداة هي الحاسوب [317] ويعزى السبب في زيادة هذا النوع من الجرائم في الوقت الحاضر إلى ازدياد عدد المتعاملين مع الحاسوب وشيوع استخدامه في مختلف الأعمال ومع مرور كل يوم يزداد الشخص الذي يعمل على الحاسوب خبرة ويصبح قادرا، إن سوّلت له نفسه ، على تنفيذ خطط اجرامية بسهولة والطّريف أنّ الدّافع في العديد من هذه الجرائم لم يكن دائما المال أو الشّهرة أو الجريمة المخطّط لها بل تختلف أحيانا الدوافع وليس من الغرابة أحيانا أن يكون مرتكبها موظّفا ساخطا على مستخدميه [318] .أو أنّه يعاني من مشاكل شخصية أو موظفا يداعب أصدقاء له. لذلك فإنه منذ سنة 1988 سعت أغلب التشاريع إلى صياغة قوانين تردع جرائم الخداع والتحيل وسوء استخدام الحاسوب سواء كانت قصدية أو غير قصدية وكان التشريع التونسي رائدا في هذا المجال بتنقيحه للمجلة الجنائية وإرسائه لنوع جديد من الجرائم : الجرائم المعلوماتية ، التي سبق التعرض إليها في مباحث سابقة. غير أنّ طبيعة جرائم الحاسوب تجعلها تمرّ بسهولة دون اكتشافها وقد كانت المصادفة في أحيان كثيرة هي السبب في اكتشاف بعض هذه الجرائم وأكثر من ذلك فقد بيّن الواقع أنّ حوالي 80% من جرائم الحاسوب المكتشفة تمرّ دون قيام المتضرر بابلاغ السلطات المختصة عنها لخشيتهم ربّما على سمعة ومكانة مؤسساتهم في المجتمع والجدير بالذّكر أنّ القانون في بعض البلدان يوجب إبلاغ السلطات عند حدوث جرائم تتعلق باقتحام منظومة البنوك فقط [319] ماهو الأمن المنشود الواجب توفيره للحاسوب ؟ الجواب هو توفير الوسائل التقليدية وغير التقليدية لحماية الحاسوب وموارده المادية والمعنوية من الضّرر المتعمّد أو غير المتعمد أو الإقتحام من شخص غير مخول والعديد من الجرائم البيضاء . إنّ صناعة الحاسوب تبقى دائما عرضة للإقتحام والمباغتة ، لذا يكون القلق عند أرباب العمل وخشيتهم من حدوث ضرر متوقع مبررا وهم يتوجهون أولا إلى الحماية التقليدية المتمثلة بوضع الحاسوب خلف أبواب موصدة وحراسة مشدّدة وثانيا توفير أساليب من الحماية المتشابكة غايتها تعريف الحاسوب بالشخص الذي يحمل تحويلا لعمل عليه . وبشكل بسيط يستطيع الشخص المخوّل التعريف بنفسه عند اجابته عن الأسئلة التالية : ماذا لديه ؟ ماذا يعرف ؟ ماذا يعمل ؟ من هو ؟ ماذا لديه ؟ يمتلك مفتاحا أو بطاقة بلاستيكية تمكنه من فتح أقفال الحاسوب الموصدة. * ماذا يعرف ؟ كلمة مرور أو رقم سرّي تجعل الحاسوب يعمل. * ماذا يعمل ؟ يكتب اسمه أويمهر بتوقيعه ليخضع للمقارنة مع أسماء وتواقيع يحتفظ بها الحاسوب تجعل هذا الأخير يعمل عند التطابق. * من هو ؟ هوية الشخص تحددها مقاييس حياتية تعتمد على خصائص الجسم مثل بصمة الأصابع أو نبرات الصوت والأحدث في هذا المجال فحص الحاسوب لقزحية العين حيث لشبكية عين الإنسان مخطط منفرد لا يمكن ايجاد مماثل له عند الآخرين. ويشكّل أمن البيانات قلقا مضافا كما تعانيه الشركات من مشاكل أمن الحاسوب وموارده المادية وحتى في هذا الجانب يوجد القليل الذي يمكن فعله ولكن القليل هذا يمكن أن يشكّل البداية الطيبّة ويشمل ذلك الإستثمار النّاجح لكلمة السرّ ، ويقصد بكلمة السرّ مجموعة الرّموز التي يتمّ إدخالها بواسطة لوحة مفاتيح الحاسوب لكي يعمل الحاسوب ، ذلك أنّ الإبقاء على كلمة سرّ معيّنة لفترة طويلة قد يؤدي إلى تسرّبها ممّا يتطلب تغيير كلمة السرّ من حين لآخر وكذلك ادخال كلمات سرّ إضافية داخل الفهارس الفرعية للبرمجيات مما يجعل أمن البيانات أكثر فعالية . كما يمكن إضافة برمجية للسّيطرة الداخلية وهي برمجية تسجل كل الوقائع المتعلقة بالدخول إلى ملفات البيانات أو محاولات الدخول إليها. لكن وعلى افتراض أنّه بالإمكان جزئيا مراقبة بعض المعلومات عن طريق تحديد مصادرها وسدّ سبل الولوج إلى هذه المصادر ، فإنّ تعقيدات الشبكة وتشعّباتها ووجود عشرات الألوف من الوسائل البديلة للإتصال بين كل نقطتين في الشبكة يجعل من المستحيل سدّ الثّغرات كليّا . لذلك ينادي البعض بإنشاء جهاز أمني متخصص لمكافحة مافيا الحاسوب أسوة بالأجهزة الأمنية المتخصّصة في حقول الجريمة مثل مكافحة المخدرات أو مكافحة الإجرام أو مكافحة التهريب وغيرها ، كما يفترض في الإطار الأمني في مكافحة جرائم الحاسوب أن يكون من حملة مؤهلات رفيعة في علوم الحاسوب بالإضافة إلى المؤهلات والخبرة الأمنية وفعلا تمت الموافقة على الصعيد الأمريكي منذ بداية هذه السنة على بعث مركز قومي للمعلومات الإفتراضية : Cyber national information ( centre CNIC ) يتمّ تمويل نشاطه من قبل وزارة العدل الأمريكية وجميع الشركات الكبرى للمعلوماتية والحواسيب في العالم وذلك بحساب 2 مليون دينار عن كل شركة ( 3 مليارات ) كما سيتمّ في هذه السنة 2001 تخصيص ميزانية سنوية بهذا المركز تساوي 2 مليار دولار ( حوالي 3 آلاف مليار ) وافق الكونغرس على اعتمادها كميزانية أولية وستكون المهمة الأولى لهذا المركز مقاومة لقرصنة الإلكترونية عبر الأنترنات وحماية الشبكات القومية للمعلومات وذلك بالتعاون بين تلك الشركات الكبرى ومكتب التحقيقات الفيدرالية . F.B.I . ولتنفيذ برامجه الطموحة شرع هذا المركز الفريد في ابتكار تقنيات إعلامية جديدة وسريّة من أجل حماية المبادلات التجارية التي يتمّ تنفيذها عبر الأنترنات وذلك من خلال سلسلة من الإجراءات الحمائيّة الإلكترونية التي تهدف إلى تعطيل أي محاولة للتسلّل إلى حواسيب شارع المال والأعمال ( وول ستريت ) والتّلاعب بالحسابات الجارية وبطاقات الإئتمان. كما سيوسّع هذا المركز نشاطه ليشمل أيضا مقاومة كلّ عمليات اطلاق الفيروسات عبر الأنترنات وذلك حتّى يمكن المحافظة على مبدأ حرية الإبحار دون خطر. والفيروسات والدّيدان ءworms et viruses ، تسميات غير محبّبة تشكّل أداة جريمة غير مباشرة موجّهة نحو أمن البيانات . وربّما يكون من المفيد التعرّف على الدّودة التي تمثّل برنامجا تخريبيا تنقل نفسها تلقائيا من حاسوب إلى آخر عبر شبكة الحواسيب ومن أمثلتها الدودة التي ابتكرها طالب في جامعة كورنيل (cornouaille ) ودخلت في الفضاء شبكة حاسوب مسبّبة شلل المئات من الحواسيب نتيجة تكرار النسخ غير المسيطر عليه لبرنامج الدّودة الذي يملأ في النهاية ذاكرة الحاسوب ويصيبها بالشّلل . والفيروس هو ناقل للعدوى الذي يمثل مجموعة أوامر خاملة تمرّر نفسها إلى برمجيات نظيفة والتّصور العام لأجواء الفيروس يمكن ايجازه في أنّ مجموعة أوامر دخيلة يقوم أحد المبرمجين بإضافتها إلى برمجيات تشغيل الحاسوب وتبقى هذه الاوامر خاملة على القرص الحامل لها لحين استخدام بعض من أوامره مثل النّسخ أو استعراض محتوياته عندئذ ينتقل الفيروس إلى قرص نظيف يصبح هذا بدوره حاملا للفيروس . ويسبب الفيروس بعد عدد محدد من استخدام القرص الملوث تدميرا لملفات البيانات . ومؤخّرا وقع اطلاق فيروس جديد يعرف باسم MATCHER [320] يبقى السؤال المطروح ، كيف السبيل للتعامل مع الفيروس ؟ يكون ذلك من خلال استخدام برمجيّات الكشف والتنظيف والحماية من الفيروس، تنشيط فتحة الوقاية من الكتابة على الأقراص، تغيير في خصائص الملفّات عن طريق جعل التّعامل مع الملفّات مقصورا على القراءة فقط ويمكن مواكبة آخر تقنيّات الحماية من الفيروسات على عدّة مواقع توفّرها شركات مختصّة[321] ويجد فيها المستعمل (L’internaute) نظام الحماية الذي يناسبه ودليل استخدامه. كما يمكنه الإطلاع على آخر الفيروسات التي تمّ إطلاقها وعلى كيفيّة الوقاية منها. وقد يحمل المستقبل حلاّ لمشكلة أمن الحاسوب وموارده فالخطى العجلى في تطوّر صناعة الحاسوب قد تتمخّض يوما ما عن ولادة الحاسوب الأمين الذي يحافظ على نفسه ذاتيّا عندئذ سينام الجميع قريري الأعين ولكن متى؟ وكيف؟ المستقبل وحده سيجيب عن ذلك. المبحث الثالث : إرتباط مستوى الضّمانات بدرجة تطوّر التقنيّات « La sécurité n’est jamais parfaite, c’est un éternel recommencement ». هكذا عبّر التقنيّون ورجال الميدان عن واقع الإتّصالات الحديثة والتّعامل عبرها. نتحدّث عن معادلة بين ضمانات وتطوّر والحال أنّ كلاهما مرتبط بالآخر فالضّمانات تقاس بدرجة تطوّر التقنيّات وتطوّر المعاملات لن يستمرّ ما لم تتوفّر الضّمانات الكافية. إذن كلا الأمرين يظّل رهين الجانب التقني الذي يجب أن يتطوّر في إتّجاهين : نوعيّا (الفقرة الاولى) وكميّا (الفقرة الثانية). الفقرة الأولى : تطوّر تقني نوعي : يقول بشلار :"إنّ تاريخ العلم هو تاريخ أخطائه" وأن : "العلم يتقدّم وهو ينظر إلى الوارء."[322] بمعنى أن لا وجود لحقيقة علميّة ثابتة فالعلم يتطوّر كلّ يوم عن طريق الوقوف على أخطائه وثغراته ومحاولة تجاوزها بإرساء تقنيّات جديدة تكون قد حلّت مشكلة التقنيّات السّالفة ولكنّها تطرح هي ذاتها نقائص يطالب العلم بتجازوها من جديد، وهكذا دواليك، تدور العجلة إلى ما لا نهاية، تنطلق من نقطة معيّنة ولكن لا نعلم أين سترسي ولا متى تنتهي حركة دورانها وهو ما يمثّل خصوصيّة المادّة التقنيّة فحقائقها ظرفيّة وكذلك تكون ضماناتها فالتّاجر عموما يجد نفسه مضطرّا إلى الإعتماد على التقنيّات الحديثة في سبيل مواكبة تطوّر المعاملات لغاية إزدهار تجارته وهو يعلم مسبّقا أنّ الضّمانات التي توفّرها اليوم مثلها مثل نور المصباح الكهربائي في عتمة اللّيل يكون وهّاجا مضيئا لكن حالما تشرق الشّمس يفتر هذا النّور إلى أن يفقد توهّجه ويصبح من الصّعب تمييزه أمام ضوء الشّمس لذلك يجب على التّاجر الحرص على تحيين وسائل إتّصاله وتعامله المجسّمة أساسا في الحاسوب فيتابع تطوّر شرائحه ومميّزاته على مستوى الماديّات Hard ware وهو الجانب المتعلّق بالمكوّنات الماديّة للحاسوب وملحقاته كوسائل التّحاور معه مثل لوحات المفاتيح والشاشات والطّابعات ووسائط تخزين البيانات وكذلك على مستوى البرمجيّات Soft ware وهي كلّ البرامج المكتوبة بهدف إدارة وتنظيم وتنسيق عمل مكوّنات الحاسوب الماديّة وهي تشمل أيضا البرامج المكتوبة لتنفيذ أعمال بعينها مثل معالجة وتنسيق الكلمات، إنشاء وإدارة قواعد البيانات، الحسابات الماليّة أو العلميّة أو الإحصائيّة، إعداد الرّسوم والأشكال[323] فالنّوعيّة هي التي ستحدّد درجة الضّمانات وهو ما يفسّر إتّجاه جميع التّشاريع التي نظّمت الوثيقة والإمضاء الألكترونيّين إلى عدم تحديد وضبط تقنيّات وفنيّات بعينها على المتعامل استخدامها مثلا في إنشاء الوثيقة الألكترونيّة وخزنها حتّى تحضى هذه الاخيرة بمكانة قانونيّة بل تركت الامر مفتوحا بإرسائها لمعايير موضوعيّة صالحة لكلّ زمان ومكان لا تأخذ بعين الإعتبار سوى المردود العملي للتّقنيّة فقد جاء بالفصل 453 مكرر م.إ.ع أنّه لإعتماد الوثيقة الألكترونيّة كحجّة غير رسميّة يجب أن تكون محفوظة بطريقة موثوق بها. وكذلك جاء بالفصل 5 من ق-م-ت-أ أنّ إحداث الإمضاء الألكتروني يكون بواسطة منظومة موثوق بها. لكن هل أنّ معيار الوثوق هذا وطنيّ، إقليميّ، أم علميّ؟ بمعنى هل سيحدّد الخبراء العدليّون درجة الوثوق على ضوء المتوفّر على السّاحة العالميّة أم في حدود الإمكانيّات التقنيّة الموجودة على السّاحة التونسيّة؟ لا نظنّ أن الفرضيّة الأخيرة مناسبة ونحن على أبواب الإنصهار مع العالم وبالتّالي فإنّ الحلّ الوحيد يتمثّل في السّعي إلى توفير البنى التحيّة التقنيّة الملائمة من حيث المميّزات والنوعيّة وهو ما يستوجب توفير ميزانيّات كبيرة فمثلا مشروع المقاصّة الألكترونيّة أصبح جنينا تجاوز عمره العامين ولم نستمع بعد لصراخ الإستهلال رغم أن نسيجه القانوني مكتمل فما السّبب في ذلك؟ السّبب ماديّ صرف ذلك أن اقتناء التقنيّات اللاّزمة وخاصّة أجهزة السّكانر يتطلّب تمويلات ضخمة لذلك وقع تأجيل بداية العمل بهذا النّظام 3 مرّات إلى حدّ الآن، لكن من المرجّح أن ينطلق العمل به في أواخر جوان 2001. ونأمل أن يكون آخر أجل. ونعود لنتساءل عمّا إذا كان لمعيار الوثوق والتّعويل المتحدّث عنه أثر رجعيّ فالوثائق التي بنيت اليوم على تقنيّات إرتقت إلى درجة الوثوق بها تجد نفسها غدا مع التطوّر التقني غير مستجيبة لشروط الوثوق بها فهل تراها تخضع للمراجعة ؟ إنّ نظريّة الحقوق المكتسبة، مدعّمة بهدف الحرص على استقرار المعاملات يقفان حائلا دون ذلك فإذا ذهبنا في إتّجاه المراجعة فستصبح جميع المجالات والمؤسسات القانونيّة المتعاملة مع الإعلاميّة مبنيّة على أرضيّة رخوة ومرنة وبدلا من تحقيق الأمان والضّمانات سننتهي إلى النّتيجة العكسيّة حتما. وعموما يؤكّد أهل الإختصاص أنّ : « La sécurité, la fiabilité, la qualité dans le temps des supports, ne peut qu’augmenter, en rajoutant de nouveaux outils au fur et à mesure qu’ils apparaissent. »[324] الفقرة الثانية : تطوّر تقنيّ كميّ : إنّ من بين المبادئ الأساسيّة التي تحكم العقد تجاريّا كان أو ماديّا هو مبدأ التّوازن التّعاقدي الذي يعتبر ضمانا قانونيّا لكلا الطّرفين يمكّن كلّ واحد منهما من ممارسة حقوقه التعاقديّة في الرّضاء، في مناقشة بنود العقد، في مراجعته أو العدول عنه. ومع تطوّر التّقنيّات وظهور العقد الإلكتروني أصبح لهذا المبدإ وجه آخر يعنى بالجانب التّقني إذ لتحقيقه يجب أن يكون لدى الطرفين نفس التقنيات وعلى نفس الدّرجة من النّجاعة حتى يكون النّزاع شريفا بينهما ولا يمكن التكهّن بنتيجته مسبقا فيتسنّى مثلا تكريس مبدأ المعارضة بالدّليل المعاكس :
Le contradictoire فوسيلة الإثبات كما اسلفنا تكون قابلة للدّحض أو لا تكون، إلاّ أنّ إرساء أنظمة من قبل أحد المتعاقدين لا تتوفّر لدى الآخر يتعارض مع هذا المبدإ في إتّجاهين : [FONT="]- إمّا أن تكون هذه الوسائل الحمائيّة إختياريّة لم يوجب القانون اعتمادها مما من شأنه أن يحدث تباعدا وعدم توازن بين الطّرفين على مستوى وسائل الإثبات المقدّمة.[/FONT] [FONT="]- وإمّا أن نفترض لهذه الوسائل أثرا لا يمكن تجاوزه (incontournable) ممّا يؤسس للطّابع القطعي لكلّ ما ينتج عنها[/FONT] [FONT="]- لذلك فإنّ توفير التقنيّات للحرفي وغير الحرفي، للتّاجر والمستهلك بشكل متكافئ ومتوازن مع توسيع دائرة المنتفعين بهذه التقنيّات من شأنه أن يشجّع على الإقبال على المعاملات الألكترونيّة بأكثر ضمانات وطمأنينة، بلا خوف من أنّ الشّخص الجالس أمام الجهاز الطّرفي المقابل يملك تقنيّات أكثر تطوّرا أو تقنيّات يفتقر إليها هو ستمكّنه من مغالطته والإيقاع به فيما لا يحمد عقباه فعنصر الثّقة بحاجة إلى التّدعيم بالعنصر المادّي التقني ذلك أنّ "الخطر لا يكمن في المجهول وإنّما في الخوف من المجهول."[325][/FONT] ومرّة أخرى نعود إلى النّقطة الأساسيّة : التّمويلات لينضاف معطى جديد إلى خصائص التّجارة ومتطلّباتها المعروفة : السّرعة، التطوّر، الثّقة ودوليّة المعاملات التّجاريّة، تضاف إليها التكلفة والتّكلفة الباهضة فهل سيساعد ذلك على إزدهار الحركة الإقتصاديّة الدّاخليّة خاصة باعتبار أنّ كلّ زيادة في سعر التّكلفة تؤدّي ضرورة إلى زيادة في ثمن المنتوج النّهائي ؟ ثم إنّ إحاطة التّجارة الألكترونيّة بهذا الكمّ الهائل من الإحتياطات الأمنيّة القانونيّة والتقنيّة، ألا يعتبر شكلا من أشكال الإقرار بنقائص ونقاط ضعف هذه المؤسّسة ؟ يقول Lucien PAULIAC : « Quand le saucier se donne trop de mal, il vaut mieux se méfier de la fraîcheur du poisson. »[326] وعموما فإن تأقلم قواعد الإثبات مع التقنيات الحديثة هو أحد مظاهر تأقلم القانون عموما مع التطور العلمي ، لكنّ التطور في مجال الإثبات لا يمثل في الحقيقة حسب المفكرين قطيعة مع الماضي أو انفصالا تاما مع النظرية التقليدية للإثبات ، بل هو تواصل للمضمون مع تجديد في شكله وآليّاته أي في طريقة إقامة الحجة . فالحجة الإلكترونية وإن ستكون في المستقبل ، مع أجيال الإعلامية والحاسوب ، هي الغالبة فهي لم تأت تماما على الحجة المكتوبة أي الوثيقة المجسمة على الورق بحروف الهجاء والأرقام والأشكال ومثلها في ذلك مثل إكتشاف التيّار الكهربائي الذي وإن شاع وغلب وعمّ وحسّن الإنارة فإنه لم يقض تماما على الشموع والقناديل . والعبرة في كل ذلك أن النور يبقى نورا لكن تطور الإنسانية يغير وسائله دون المساس بكنهه.[327] الخاتمــة يقول الفيسوف كلود برنار : " إن الملاحظة تظهر والتجربة تخبر " وهذا ما ننتظره الآن من المعاملات التجارية الإلكترونية ، ذلك أن القانون المنظّم للتجارة الإلكترونية قد سبق الواقع فكان بمثابة الإطار الذي ينتظر اكتمال الصورة لتوضع فيه إلاّ أنه إطار مرن قابل للمراجعة والتعديل بحسب ما يقتضيه حجم الصورة. ولهذا الإطار بعدان : بعد قانوني جسّمته عدة قوانين جاءت لتنظّم الوثيقة الإلكترونية كوسيلة تعامل ( قانون المبادلات والتجارة الإلكترونية ) ثم كوسيلة إثبات (القانون عدد 57 المنقح لمجلّة الالتزامات والعقود ) وكأداة جريمة ومحور لها في ذات الوقت ( قانون 1999 المنقّح للمجلة الجنائية ) فأصبح الإثبات الإلكتروني مؤسسة قانونية قائمة بذاتها لا ينقصها سوى بعض الأوامر التطبيقية نأمل أن تحسم من خلالها عدّة مسائل لا تزال عالقة منها ما يتعلّق خاصّة بمسألتي الحفظ والتأريخ الإلكتروني الذين يلعبان دورا هامّا في تحديد حجيّة الوثيقة الإلكترونية. وبعد آخر تقني بدأ يتجسّم شيئا فشيئا في الواقع نظرا لحداثة المادّة وخصوصيّتها وذلك تحت إشراف عدّة هياكل بعثت للغرض كالوكالة الوطنية للأنترنات واللجنة الوطنية للتجارة الإلكترونية والوكالة الوطنية للمصادقة الإلكترونية وكل منها مدعوّ إلى مراقبة الواقع الإلكتروني ومحاولة إيجاد حلول للصّعوبات والنقائص التي يمكن أن يطرحها. وهكذا أمكن القول بأن المناخ العامّ بات مناسبا حتى تجسّم الوثيقة الإلكترونية وسيلة الإثبات الحديثة ، التطور الآمن تقنيا وقانونيا . غير أنّ تحقيق المعادلة بين التطور والضمانات لا يقتضي توفر البعدين التقني والقانوني فحسب وإنما يستدعي توفر بعد آخر لا يقلّ أهميّة عنهما ألا وهو البعد الاجتماعي فكلّ جديد مهما كانت مواصفاته التقنية والقانونية بحاجة إلى اقتناع المجتمع به والثقة بمميزاته حتّى يلقى الإقبال. وقد لخّص P. leclercq هذا البعد الاجتماعي بقوله : « la preuve sur papier n’a pas été reconnue juridiquement par sa seule sécurité technique d’ailleurs non optimale ( … ). La primauté juridique de l’écrit est surtout justifiée pour un ensemble de considérations sociales ; tenant à la solennisation de son établissement, à l’égalité de tous les alphabétisées à sa production ; à la faculté de l’établissement en autant d’exemplaires que des parties, à l’aisance de son archivage. C’est pourquoi le succès de la preuve électronique sera subordonnée à sa reconnaissance par la société, elle même dépendante de la prennité des techniques mises en œuvre et de la possibilité pour tous d’y accéder à un coût raisonnable ».[328] ومن ثمّ أضحت الوثيقة الإلكترونية ثلاثية الأبعاد وهو أمر قد يعطّل مسيرتها ما لم يتسلّح المتعامل تاجرا كان أو غير تاجر بروح المبادرة والمخاطرة سنده في ذلك ثقته في الضمانات التي يوفرها العلم وخاصة القانون . وكما قال الفيلسوف : « ce n’est pas parce que les choses sont difficiles que nous n’osons pas ; c’est parce que nous n’osons pas qu’elles sont difficiles ». بالتوفيق .
هذا الموقع يستخدم ملفات تعريف الارتباط (الكوكيز ) للمساعدة في تخصيص المحتوى وتخصيص تجربتك والحفاظ على تسجيل دخولك إذا قمت بالتسجيل.
من خلال الاستمرار في استخدام هذا الموقع، فإنك توافق على استخدامنا لملفات تعريف الارتباط.